انقلاب البيروقراطية في مصر
بقلم / شريف عبد العزيز
مصر دائمًا متفردة وسباقة إلى كل جديد، فكما أنها أم الدنيا، فهي أيضًا أم العجائب والغرائب، مصر تشكلت بها حالة من الحراك الشعبي غير مسبوقة أدت لسقوط السلطة القائمة بصورة لم تعرفها الدول المعاصرة من قبل، ثورة من طراز خاص جدًّا، ليست ثورة شعبية كما صورتها كاميرات مخرجي السينما، بل ثورة أجهزة الدولة ومؤسساتها وطواقمها الإدارية والتنفيذية على السلطة القائمة، أو بعبارة أخرى ثورة البيروقراطية العتيقة على النظام الجديد.
ففي ثورة 25 يناير المجيدة خرج الشعب المصري منتفضًا ضد الظلم والفساد والرشوة والمحسوبية التي كانت تنخر في جسد الدولة، فكانت ثورة ضد الفساد في أجهزة الدولة، وسلطاتها الدولة الثلاثة ـ التنفيذية والتشريعية والقضائية ـ وكان هذا هو المسار الطبيعي لأي ثورة عبر التاريخ، شعب يثور ضد سلطة حاكمة انحرفت عن قواعد العدل والأمانة، وسارت في طريق الفساد والاستبداد والطغيان، شعب ثار بصورة عفوية ضد أوضاع سياسية واقتصادية وأخلاقية واجتماعية تراكمت عبر سنوات طويلة، لذلك كانت ثورة 52 يناير ملهمة الشعوب وفخرًا للأمم الحرة الأبية. أما ما حدث يوم 30 يونيه فهو بلا شك لم تكن ثورة شعبية، بل ثورة تم الإعداد لها والتحضير لفعالياتها والتجهيز لإخراجها قبلها بعدة شهور، لإجبار الناس من حيث لا يشعرون نحو الخروج والتظاهر بقوة ضد السلطة الحاكمة، إنها ثورة البيروقراطية والجهاز الإداري العتيق في مصر ضد النظام الجديد.
لا يماري أحد في أن الفساد الإداري في مؤسسات البلاد كان من أكبر وأعقد مشاكل النظام الجديد في مصر، بل إن الإخوان أنفسهم صرحوا في أول ولاية الرئيس مرسي بأنهم لم يكونوا يتوقعون هذا الحجم الضخم من الفساد، فمنظومة الفساد الإداري في أجهزة الدولة من التشعب والتغلغل والتجذر بمكان يجعل من المستحيل مواجهة هذه المنظومة بنفس النهج والرؤية التي اتبعها الإخوان خلال شهور حكمهم القليلة، فالإخوان قد قرروا طريقة التطهير البطيء والتدريجي والذاتي طويل الأجل مع هذه الأجهزة التي تعج بالفساد، وهذه الرؤية الحالمة والرومانسية في التغيير أعطت لما يعرف بالدولة العميقة الفرصة السانحة لاستعادة التوازن بعد صدمة سقوط مبارك، وكانت بداية استعادة نية المقاومة والتخطيط لإسقاط النظام الجديد مع أحداث رفح في رمضان الماضي، والقرارات الثورية التي اتخذها الرئيس مرسي وقتها بالإطاحة بأكبر رؤوس في الدولة مثل مراد موافي مدير المخابرات العامة، وقائد الحرس الجمهوري وأعضاء المجلس العسكري وعلى رأسهم طنطاوي وعنان، ودخول النظام الجديد في مواجهة مباشرة مع أخطر أجهزة الدولة وهو جهاز المخابرات العامة، وكانت هذه القرارات الشجاعة إيذانًا بتحالف قوى الفساد القديمة الراكزة داخل مفاصل الدولة منذ سنوات طويلة تحت شعار البيروقراطية والنظم الإدارية، ومن ثم ظهر مصطلح الدولة العميقة على ساحة الأحداث في مصر.
مصطلح الدولة العميقة هو مصطلح جديد يضاف لسجل التفرد المصطلحي لثورة 25 يناير، بجوار مصطلحات أخرى مثل مصطلح "الفلول" ومصطلح "التوافق" ومصطلح "الأخونة". والدولة العميقة عبارة عنقطاعات من الجهاز البيروقراطي الهائل التابع للدولة، شبكة ضخمة من الإدارات والوزارات والمصالح الحكومية التي تحكمها نظم ولوائح وقوانين وإجراءات وعلاقات تقف بالمرصاد أمام أي محاولة لخرقها أو اختراقها وتعديلها، هذه الشبكة قد تشكلت عبر سنوات طويلة وحقب موروثة من النظام الشمولي السلطوي الفاسد الذي أحكم قبضته على البلاد بهذا النظام الإداري العتيد، وملأه بالفساد والرشوة والمحسوبية والصلات، حتى تكلس هذا الجهاز الضخم وأصبحت غالبيته العظمى ممن تم تعيينهم عن طريق الرشوة والمحسوبية، بعيدًا عن معياري الكفاءة والنزاهة، ومع الوقت أصبح هذا الجهاز الإداري الضخم حكرًا على عائلات بعينها في ظل قاعدة تعيين أبناء العاملين، ومجموعات وظيفية معينة كلها تربط بشكل أو بآخر مع الحزب الحاكم والسلطة القائمة، وهو ما جعل ولاء هذا الجهاز الضخم شديد الارتباط بالحاكم والسلطة وليس لصالح الشعب والمواطنين.
هذا الجهاز الإداري الضخم ببيروقراطيته العتيقة وتشعبه الواسع وانتشاره الكبير في جميع مفاصل وركائز الدولة قرر الانقلاب على الرئيس، وذلك برفض فكرة التطهير والتغيير والإحلال في كوادره وطواقمه بكل قوة، وهو ما ظهر جليًّا في الوزارات التي قرر وزراؤها الشروع في عملية تطهير الجهاز الإداري للدولة مثل وزارة الأوقاف ووزارة الثقافة، فوزير الثقافة علاء عبد العزيز وهو بالمناسبة ذو خلفية اشتراكية وليس إسلامية قرر الشروع الفوري في تطهير وزارته، فجاء رد فعل البيروقراطية والجهاز الإداري سريعًا، اعتصامات وإضرابات وصلت لدرجة احتلال مكتبه ومنعه من دخول الوزارة وممارسة عمله، وقامت أجهزة الإعلام الرسمية والخاصة بالترويج لفكرة "أخونة الدولة" والتمكين للجماعة والإقصاء والمغالبة إلى آخر هذه الشعارات التي زادت من حالة الاحتقان الشعبي والإداري ضد النظام الجديد، وتحت غطاء القصف الإعلامي الشديد لسياسات الإخوان انطلق الجهاز الإداري في افتعال الأزمات الخانقة التي تمس الحياة اليومية للمواطن العادي الذي لا يهتم إلا بتأمين سبل ووسائل عيشه اليومي، ولا يبالي كثيرًا هل هذه الأزمات حقيقة أم مفتعلة، أزمات يومية في الكهرباء والوقود والمرور والانفلات الأمني الكبير، وكلها ملفات حساسة خطرة تتقاطع بشكل مباشر مع الحياة اليومية للمواطنين، مما أدى لتنامي وتصاعد حالة السخط الشعبي ضد حكم الإخوان، وهو ما لم يدركه الإخوان، فقد عولوا على وعي الشعب وإدراكه لطبيعة المؤامرة، في حين أن المواطن لا يهتم بمثل هذه الأفكار والرؤى، ومع الوقت فشل الإخوان في توصيل السلع السياسية الكبرى للمواطن العادي وعلى رأسها الأمن ومصادر الطاقة، ومن ثم كان الانفجار التي تم تحديد توقيته سلفًا مثل القنابل الموقوتة.
الإخوان في مصر لم يفطنوا إلى أن طبيعة البيروقراطية في العالم الثالث لا تقبل وجود أشخاص غرباء عن هياكلهم التقليدية، لا تقبل إلا المسئولين الذين خرجوا من رحم هذه المنظومة، وترقوا في سلمها الوظيفي، وتقف دائمًا عصية على التغيير والإصلاح، لم يفطنوا أن الجهاز الإداري في مصر طافح بالفساد على كل المستويات، وأن كثيرًا من مسئوليه ما زالوا على ولائهم لنظام مبارك، وأن دوائر النفوذ داخل هذا الجهاز العتيد لا تسمح مطلقًا بالاختراق أو بالتقليل من صلاحيات وحجم هذا النفوذ، وهذا النوع من المشاكل لا يمكن التعامل معه إلا بمنتهى الحسم والسرعة مع توفير البدائل وتفعيل صلاحيات العزل والتعيين، وهو ما لم يفطن إليه الإخوان إلا بعد فوات الأوان، ففي خطاب الرئيس مرسي الأخير مع وزرائه وأعضاء حكومته، أعلن عن هذه السياسة الجديدة وأعطى الأوامر التي لم تنفذ طبعًا بعزل كل من يثبت فساده الإداري والوظيفي، ومنح المحافظين والوزراء صلاحيات واسعة من أجل القيام بثورة على الجهاز الإداري أو مراكز الدولة القديمة ولكن سبق السيف العزل، وجرى قلم القضاء بما يكون وهذه عاقبة كل من تباطأ أو تراخى أو تحاذر من مواجهة أصل الخلل وموطن البلاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق