رسائل التاريخ (6)
وخضع السلطان العثمانى لإرادة الشعب
وصلنا مع ثورة مايو 1805 إلى نقطة جمود، فالحاكم خورشيد باشا أصر على عدم التخلى عن الحكم حتى يأتى فرمان سلطانى من الآستانة، وأصر زعماء الثورة على عزله، واستمر محمد على على الحياد رغم مبايعته فى انتظار الفرمان السلطانى, ولم يستخدم قواته لحسم الصراع. وكان عمر مكرم هو زعيم الثورة بحق.
قابله أحد مستشارى خورشيد وقال له: كيف تعزلون من ولاه السلطان عليكم وقد قال الله تعالى: (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)؟ فأجابه عمر مكرم: أولوا الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل، وهذا رجل ظالم، وقد جرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلد يعزلون الولاة، وهذا شىء مألوف من زمان، حتى الخليفة والسلطان إذا سار فى الناس بالجور فإنهم يعزلونه ويخلعونه.
فقال مستشار خورشيد: وكيف تحصرونا وتمنعون عنا الماء والأكل وتقاتلوننا؟ أنحن كفرة حتى تفعلوا معنا ذلك؟ فقال عمر مكرم: قد أفتى العلماء والقاضى بجواز قتالكم ومحاربتكم لأنكم عصاة.
وقاد عمر مكرم الثوار ومعه باقى العلماء، وواصلوا مع الثوار السهر ليلا فى الشوارع والحارات, وأقاموا المتاريس حول القلعة، ومنعوا الصعود إلى القلعة والنزول منها، وأخذ الفريقان يترامون بالبنادق، وصعد جماعة من الثوار إلى منارة جامع السلطان حسن يرمون منها القلعة ومن فيها.
ووصلنا إلى يوم 22 مايو 1805 حيث يقول الجبرتى أن عمر مكرم والمشايخ ومعهم جمع كثير من الناس ركبوا إلى الأزبكية, حيث تجمع المزيد من الجماهير من الحسينية والعطوف والقرافة والرميلة والحطابة والصليبة, ومعهم الطبول والبنادق حتى غصت بهم الشوارع, وذهبوا إلى الجامع الأزهر, ثم رجعوا إلى الأزبكية، وكانت نوعا من مظاهرات القوة لإرهاب جنود الوالى الذين بدأوا ينكمشون.
وفى 24 مايو حاول الوالى الدفع بجنوده للاستيلاء على متاريس الثوار، وكانت مشاركة جنود محمد على هامشية، واعتمد الثوار على سواعدهم بالأساس ونجحوا فى صد قوات الوالى.
وتجدد القتال يوم 27 مايو فعاد عمر مكرم لحشد القوى الجماهيرية, وجاء أهل خان الخليلى والمغاربة بأعداد كبيرة ومعهم بيارق ولهم جلبة وازدحام - كما يقول الجبرتى - بحيث كان أولهم بالموسكى وآخرهم جهة الأزهر, وقام الثوار بالتقدم إلى جبل المقطم بالمدافع، وإمدادات المياه، وتبعهم باعة الخبز والكعك والقهاوى وكأنهم فى رحلة، فقد اعتاد الشعب الثورة, وأصبحت الثورة أسلوب حياة, وكانت اجتماعات القيادة تتم فى منزل عمر مكرم, وتصدر توجيهات الثورة بأوامر منسوبة إليه، وكان هو الحاكم الفعلى للقاهرة لمدة 3 شهور.
والأمر الملفت للنظر أن جرجس الجوهرى كبير المباشرين المسيحيين كان على اتصال بقادة الثورة, ويتشاور معهم حول وسائل التصعيد.
ولما ضاق الحصار على خورشيد بدأ فى قصف القاهرة بالمدافع والقنابل: جهة الأزهر - بيت محمد على.. إلخ.
ويعلق الجبرتى: (فلم ينزعج أهل البلد من ذلك لما ألفوه من أيام الفرنسيس وحروبهم السابقة)! وكانت القاهرة شهدت ثورتين كبيرتين (1798 - 1799) ضد نابليون وضد كليبر، قبل الثورة على المماليك مرتين, وهذه المرة على الوالى العثمانى.
كان الشعب المصرى فى حالة مفعمة بالحيوية فى ظل توفر القيادة الرشيدة.
وظلت الاشتباكات سجالا بين الشعب والوالى حتى جاء فرمان سلطانى من الآستانة يستجيب لإرادة الشعب يوم 9 يوليو بتثبيت محمد على واليا لمصر (حيث رضى بذلك العلماء والرعية, وأن خورشيد باشا معزول عن ولاية مصر)، ولكن الثوار ظلوا يحاصرون القلعة حتى 5 أغسطس 1805 وهو يوم خروج خورشيد من القلعة تنفيذا لأمر السلطان (الحقيقة هو أمر الشعب!).
ويقول أحد مؤرخى الغرب (فولابل) معلقا على هذه الأحداث: (لأول مرة وقع تغيير سياسى خطير فى ولاية من ولايات السلطنة العثمانية بإرادة الشعب وباسم الشعب، ولا جدال أن المطالب التى فرضها الشيوخ على خورشيد باشا تدل على ما يجيش بصدورهم من الإحساس بالحرية, وما يشعرون به من الحاجة إلى أخذ الضمانات الكافية التى تكفل مراقبة الحكومة، وإذا كانت أنظار الشعب قد اتجهت فى تلك الآونة إلى محمد على, وأجمعت آراء زعمائه على تقليده سلطة الحكم, فما ذلك إلا لأن محمد على قد دعا إلى مبادئ الحرية, وأعلن فى كل لحظة دفاعه عن حقوق الشعب ومصالحه, ونادى بأن علة المحن التى حلت بالبلاد راجعة إلى سوء سياسة الولاة الأتراك, وعدم وجود أية رقابة على الحكومة).
وقبل أن نطوى هذه الصفحة المجيدة من تاريخ مصر نقول أن الدروس المستفادة من نجاح الثورة هى:
1- توفر قيادة شعبية حكيمة ومبدئية مستعدة لتقدم الصفوف فى مجال التضحية لا تحقيق المكاسب الشخصية.
2- إن الشعب المصرى مستعد للثورة والمقاومة عندما يجد هذه القيادة هى سنة عامة فى كل الشعوب، وأنه ليس شعبا يحب الخضوع كما يشاع الآن, خاصة وأن تاريخ مصر يحتشد بصفات عديدة مماثلة سنعرض لها إن شاء الله.
3- إن الخروج على الحاكم يكون بسبب استشراء الظلم بالمعنى الاجتماعى والسياسى, ولا يشترط تكفير الحاكم, أو أن يكون الحاكم عميلا للقوى الأجنبية، وأن كان حدوث ذلك أدعى إلى نزع الشرعية عنه.
4- أن نجاح الثورة يرتبط بتحييد القوة العسكرية للنظام أو انضمام جزء منها للثوار.
5- إن الشعب المصرى لا يعرف العنصرية المقيتة، وأنه كان ضد ولاة الأتراك فى المرحلة الأخيرة لظلمهم, وليس لأنهم غير مصريين، كما أن الأصل الألبانى (مقدونيا) لمحمد على وقواته لم يكن مسألة مطروحة للمناقشة أو الجدال.
وهو ما يعكس المشروعية والرؤية الإسلامية لدى الشعب المصرى وزعمائه.
مجدى أحمد حسين
رسائل التاريخ (1)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق