رسائل التاريخ (5)
الشعب يجتمع فى المحكمة ويقرر خلع الحاكم!
توقفنا فى الرسالة الماضية عند بداية أحداث ثورة مايو 1805 لإسقاط خورشيد باشا الوالى العثمانى، وأنها كانت الثورة الثالثة خلال 14 شهرا، وقد كانت ثورة شعبية سلمية يقودها علماء الأزهر (الذى كان).
وصلنا بالأحداث إلى تجمع الشعب (40 ألفا) مع زعمائهم فى دار المحكمة, وطلب زعماء الشعب من القاضى أن يرسل باستدعاء وكلاء الوالى ليحضروا مجلس الشرع، فأرسل يستدعيهم على عجل (هل يمكن أن تفعل ذلك اليوم محكمة النقض أو المحكمة الدستورية العليا؟!) فحضروا، وعندما انعقد المجلس عرض الزعماء ظلامة الشعب وحرروا مطالبهم وهى:
1. ألا تفرض من اليوم ضريبة على المدينة إلا إذا أقرها العلماء وكبار الأعيان (لاحظ فرض حكم الشريعة، وهو حكم العدالة، بقيادة علماء أحرار).
2. أن تجلوا الجنود عن القاهرة وتنتقل حامية المدينة إلى الجيزة.
3. ألا يسمح بدخول أى جندى إلى المدينة حاملا سلاحه.
4. أن تعاد المواصلات فى الحال بين القاهرة والوجه القبلى .
3. ألا يسمح بدخول أى جندى إلى المدينة حاملا سلاحه.
4. أن تعاد المواصلات فى الحال بين القاهرة والوجه القبلى .
كان ذلك يوم 12 مايو 1805 وسلموا صورة من هذه المطالب إلى القاضى، وقام وكلاء الوالى ليبلغوها إلى خورشيد باشا فى القلعة. وهذه الوثيقة تشبه "وثيقة إعلان الحقوق" التى قررها البرلمان البريطانى عام 1688 وأيد فيها حقوق الشعب الإنجليزى وأهمها أن لا يجوز للملك أن يفرض ضريبة إلا بعد موافقة البرلمان.
ورأى خورشيد أن الحركة خطيرة، وأن الثورة تؤذن أن تقتلعه من مقره، وأراد أن يلقى القبض على زعيم الثورة: عمر مكرم, ليشل الحركة القائمة فى المدينة، فلما وصلته رسالة القاضى أرسل إليه يستدعيه والعلماء إلى القلعة ليتشاور معهم فى الأمر، لكن السيد عمر فطن إلى مقاصد الوالى وخشى الغدر، فأشار برفض الذهاب إلى القلعة، وكان محقا فى حذره لأنهم علموا فيما بعد أن الوالى أعد أشخاصا لاغتيالهم فى الطريق.
واعتبر خورشيد امتناعهم عن الذهاب إليه تمردا وعصيانا، ورفض إجابة المطالب الشعبية. فاجتمع العلماء ونقباء الصناع فى اليوم التالى 13 مايو وعادت الجماهير إلى الاحتشاد فى فناء المحكمة، واتفقت كلمة قادة الشعب على عزل خورشيد (وليس مجرد بعض المطالب أو تعديل فى الدستور!!) وتعيين محمد على واليا بدله.
ثم انتقلوا إلى دار محمد على لتنفيذ قرارهم وقالوا له: إننا لا نريد هذا الباشا واليا علينا ولابد من عزله من الولاية. وقال السيد عمر مكرم: إننا خلعناه من الولاية.
فقال محمد على: من تريدون واليا؟ قالوا: لا نرضى إلا بك وتكون واليا بشروطنا لما نتوسمه فيك من العدالة والخير. (لاحظ بشروطنا) وأخذوا عليه العهود والمواثيق أن يسير بالعدل, وألا يبرم أمرا إلا بمشورتهم, فقبل محمد على ولاية الحكم, ونهض السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوى وألبساه خلعة الولاية, وأمروا بأن ينادى به فى أنحاء المدينة واليا لمصر.
وكان مضمون ذلك أن جزءا معتبرا من الجيش انضم للشعب, وهذا كما ذكرنا من قوانين التغيير من خلال الثورات الشعبية, وهكذا انتزع الشعب المصرى حقه فى تعيين حاكمه وانتخابه وعزل الحاكم الفاسد، دون انتظار فرمان عثمانى، بل لقد كان صدر فرمان سلطانى بإسناد ولاية جدة إليه، وكانت السلطة العثمانية تؤيد بقاء خورشيد.
وقد كتب الجبرتى أن عملية تسليم السلطة لمحمد على وضعت قاعدة للحكم الدستورى فى البلاد (تم الأمر بعد المعاهدة والمعاقدة على سيره بالعدل وإقامة الأحكام والشرائع والإقلاع عن المظالم وألا يفعل أمرا إلا بمشورة العلماء وأنه متى خالف الشروط عزلوه).وذهب وفد من زعماء الشعب لإبلاغ القرار لخورشيد باشا فأجابهم: (إنى مولى من طرف السلطان فلا أعزل بأمر من الفلاحين!! ولا أنزل من القلعة إلا بأمر من السلطنة).
وكان من أروع ما جاء فى الوثيقة التى تم تسليمها لخورشيد: (إن للشعوب طبقا لما جرى به العرف قديما, ولما تقضى به أحكام الشريعة الإسلامية, الحق فى أن يقيموا الولاة, ولهم أن يعزلوهم إذا انحرفوا عن سنن العدل وساروا بالظلم, لأن الحكام الظالمين خارجون عن الشريعة).
وأخذ خورشيد يحصن القلعة ويستعد للقتال، وأيضا دعا زعماء الشعب الأهالى إلى حمل السلاح لمحاصرة القلعة لإجبار خورشيد على التسليم.
واحتشد الثوار فى ميدان الأزبكية، واعتزم الزعماء أن يعيدوا إبلاغ الوالى قرارهم, ويطلبوا إليه احترامه منعا للفتنة وحقنا للدماء, وحدثت بعض الوساطات، واجتمع الزعماء يوم 16 مايو مرة أخرى بدار المحكمة, وحرروا محضرا فى شكل سؤال وجواب على نحو الفتاوى التى كانت تصدر بخلع السلاطين فى الآستانة، ووقعوا على المحضر وأرسلوه إلى الوالى، ولكنه رفض الامتثال مرة أخرى.
وتجدد نداء عمر مكرم بحمل السلاح وإقامة الاستحكامات والمتاريس حول القلعة, وبلغ عدد الثوار 40 ألفا حاملين الأسلحة والعصى.
ويقول الجبرتى أن الفقراء من العامة كانوا يبيعون ملابسهم أو يستدينون لشراء الأسلحة! وانضم كبير القضاة للثوار, صراحة لا أدرى لماذا لم يذكر الجبرتى أسمه؟) فحين أرسل له خورشيد يقول أنه ينتظر رد السلطان وإقامتى فى القلعة لا تضر الرعية فأجابه القاضى: إن إقامتكم بالقلعة هى عين الضرر فإنه حضر يوم تاريخه نحو الأربعين ألف نفس بالمحكمة, طالبين نزولكم أو محاربتكم، فلا يمكننا دفع قيام هذا الجمهور، وهذا آخر المراسلات بيننا وبينكم والسلام).!!
وما تزال الثورة مستمرة.. وإلى الرسالة القادمة.
مجدى أحمد حسين
رسائل التاريخ (1)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق