السبت، 28 مارس 2015

عاصفة "الحزم" وبداية ردع الإمبراطورية الإيرانية

عاصفة "الحزم" وبداية ردع الإمبراطورية الإيرانية



شريف عبدالعزيز

لا يُعلم بلد عربي ومسلم في محيطنا الإقليمي تداخلت فيه العوامل الخارجية والداخلية، وتداخلت فيه الأبعاد الدينية والثقافية والقبلية والحضارية والاجتماعية، وتفاعلت كل هذه العوامل والأبعاد لإنتاج أسوأ خلطة للفوضى والاضطراب، مثلما حدث ويحدث في بلاد اليمن التي ودعت الاستقرار منذ سنوات طويلة.
فقد عانى اليمنيون طويلًا من عبء طبيعة بلادهم الجيوسياسية، منطقة كانت ومازالت ساحة نموذجية لصراع القوى الكبرى، وذلك منذ قديم الأزل، بل وقبل ظهور الإسلام نفسه.
فمنذ استدعاء الملك الحميري "سيف بن ذي يزن" للعسكرية الفارسية الكسروية لطرد الأحباش الذين احتلوا اليمن نيابة عن أسيادهم الروم، ما أدى إلى احتلالها من الفرس أنفسهم، منذ ذلك الحين، واليمنيون يدفعون ضريبة هذه الثنائية المميتة.
أصبح ولاء نخبهم السياسية دائمًا مرتبطًا بأجندات قوى خارجية، وهكذا تحولت حماقات الملك الحميري إلى إرث دبلوماسي لدى النخب اليمنية، وأصبح ذو يزن، في مفارقة تاريخية، بطلًا وطنيًّا تنشد في بطولاته الأشعار وتحاك الحكاوي والأساطير.
فمع اتساع نطاق الأحداث واستمرار تداعياتها، تحولت أزمة الحوثيين في اليمن من إثارة العديد من الإشكاليات والأبعاد الحضارية والإستراتيجية، من حيث موقع كل من الدين والثقافة والتاريخ والقبلية، وموقع الاعتبارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية، تحولت إلى شأن إقليمي ودولي تآمري خطير، حيث أصبح الحوثيون جزءًا أساسيًّا في المشروع الفارسي الإيراني الكبير، أصبحوا بمثابة نصل الخنجر المسموم الذي يمسك ملالي إيران بأصله ويمعنون طعنًا وتمزيقًا في الجسد اليمني، مستغلين في ذلك طبيعة الحالة اليمنية المعقدة.
فالحالة اليمنية تبدو مثالية لتأثير العوامل الخارجية والداخلية، فالموقع الجغرافي لليمن يضعها في قلب منطقة شديدة الحساسية لمصالح القوى الكبرى والإقليمية، تدفعها دومًا ناحية التدويل، ولذلك واجهت اليمن عمليات "تدويل" واسعة لصراعاتها الداخلية، كالاستقطاب العربي والدولي الذي تلا الثورة اليمنية عام 1962م، وتكرر الأمر نفسه في حرب الانفصال عام 1994م، وفي الصراع الراهن بين السلطة المتوافق عليها والحوثيين الذين فقدوا عقولهم في سبيل رضا الإمبراطورية الإيرانية وطموحاتها التوسعية المدمرة.
مثل العراق وسورية وليبيا، وسائر دول الربيع العربي والمنطقة عمومًا، تطحن الأحداث السياسية المتسارعة، في اليمن، كل مستويات الحياة، بدءًا من الأمن وحتى الصحة والقوت اليومي، وبلغ التعقيد في المشهد اليمني حدًّا يبدو فيه غير واقعي، بسبب التدخلات الإيرانية التي حولت اليمن السعيد على يد الحوثيين إلى ساحة حرب أهلية في أبشع صورها.
يقف اليمنيون اليوم بلا حيلة أمام فساد النخب السياسية اليمنية ومراهقتها، وتحالفات مراكز القوى اليمنية، وفي حالة الاستلاب اليمني الراهن يقدم التحالف الإيراني والفلولي والقبلي نفسه على أنه منقذ اليمن واليمنيين. بينما هم سبب كل الخراب الذي يتعرض له اليمنيون.
عندما اضطر الخميني للقبول بوقف إطلاق النار بعد ثماني سنوات من الحرب مع العراق، قال كلمته الشهيرة: "كأني أتجرع كأس سم".
ليست كلمة الخميني مجرد استعارة مكنية معبرة عن فورة غضب، لكنها كانت تعبيرًا عن غصة إستراتيجية مثلتها بلاد العراق للمشروع الإيراني، منذ القدم.
فالعراق كان الحاجز العربي والإسلامي الإستراتيجي المتين ضد أطماع التوسع الإمبراطوري لدى النخبة الفارسية في طهران، بغض النظر عما يمكن قوله عن أخطاء النظام البعثي في العراق.
وكان سقوط بغداد على يد الأمريكيين "هدية" اشترك فيها الإيرانيون من دون توان، ومدوا يد المساعدة فيها بسخاء، وبعد اثني عشر سنة من مشهد سقوط بغداد أصبح العراق أكثر من مجرد تابع لإيران أو ساحة خلفية أو عمق إستراتيجي، أصبح العراق بالفعل جزءًا من الإمبراطورية الإيرانية، ويتبجح أعضاء البرلمان الإيراني اليوم مطالبين حكومة بلادهم بضم العراق لإيران وإعلان بغداد عاصمة جديدة للإمبراطورية الإيرانية.
إيران تعمل منذ سقوط العراق على بناء إمبراطوريتها الجديدة أو إيران الكبرى بخطوات ثابتة ومدروسة، والمسيرة من طهران إلى صنعاء؛ مسيرة إستراتيجية يقودها رجال فكر وسياسة ومال، مرت قبل الوصول إلى مشهد سقوط صنعاء بمحطات في العراق ولبنان وسوريا، مسيرة طويلة يبذلون في سبيلها أكثر مما يملكون، قبل الوصول إلى صنعاء تم تدريب الجنود في ثلاث من جزر دهلك، يستأجرها الحرس الثوري من أريتيريا لتدريب الحوثيين ومنها ينتقل الرجل والسلاح، إلى ميناء الحديدة بسهولة كبيرة 220 كلم من العاصمة صنعاء.
هذا على الصعيد العسكري، أما على الصعيد السياسي فقد استطاعت إيران أن تُسوِّق الحوثي للولايات المتحدة ضمن نادي محاربة القاعدة والإرهاب المزعوم، ثم استطاعت أن تجمع بين خليفة صالح المرتقب ولده أحمد، وهو سفير اليمن في الإمارات، وبين الحوثيين في روما، برعاية إماراتية كاملة، كما استفادت ولعبت على أخطاء رجال الحكم السابق في المملكة السعودية في التعامل مع مخرجات ثورات الربيع العربي إلى تعاظم دور الحوثيين في اليمن، بعد أن جعل صناع القرار في عهد الملك الراحل عبد الله من خيارات الثورات الشعبية عدوًّا استراتيجيًّا لابد من مواجهته مهما كانت التحالفات والنتائج في سبيل ذلك، فكانت النتيجة الحتمية تغول وتوحش الحوثيين في اليمن حتى أسكرتهم خمر الانتصارات الزائفة، والقواعد والمعسكرات التي سقطت في أيديهم دون إطلاق رصاصة واحدة بسبب خيانات المخلوع صالح وأعوانه، حتى تجاوزوا كل الخطوط الحمراء غير مكترثين بتحذيرات أو تهديدات.
هذه الإستراتيجية الإيرانية التوسعية التي تعتمد على السلاح والقوة الخشنة عبر أذرعها العسكرية المنتشرة كالسم الزعاف في جميع أنحاء المنطقة لن تواجه ببيانات وتصريحات ومبادرات.
هذا عمل إستراتيجي مدروس ورصين لا يمكن أن يواجه إلا بما يقابله، ببساطة لأن حد السنان الذي يتمدد به الحوثي لا تفله بيانات الشرعية الناقصة، ولا يفيد فيه العويل على مساعي الأمم المتحدة، والمبادرة الخليجية ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني. نحتاج أسنة غير الدبلوماسية الفارغة التي يمتشقها جمال بن عمر كلما أتيحت له فرصة لقاء مع الأضواء.
 إنها بحاجة إلى من يجبر خامنئي كما أجبر الخميني على تجرع كأس السم. لذلك كله كانت عاصفة "الحزم" بقيادة المملكة العربية السعودية.
تملك السعودية في اليمن تاريخًا من التحالف مع القبائل السنية والزيدية، فجميع النخب اليمنية تقريبًا، بما فيها البعيدة نسبيًّا عن خط المملكة تنظر إلى السعودية على أنها عمق إستراتيجي لليمن، وشقيقة كبرى، ظلت تؤثر في القرار اليمني منذ أمد بعيد. وللسعودية أطول حدود برية مع اليمن تضم مئات الآلاف من السكان متداخلي الأنساب.
لذلك فالسعودية لا يمكن أن تقبل وجودًا إيرانيًّا قريبًا منها في عمقها الاستراتيجي في الجنوب يخلق حلقة إيرانية ممتدة من نظام الأسد إلى شيعة العراق إلى حوثيّي اليمن، وهو توسع يثير قلق الرياض أكثر من سواه، وهو السبب الرئيس في تركيز كافة الجهود السعودية مؤخرًا، خاصة بعد تولي الملك سلمان، في احتواء النفوذ الإيراني، وتراجع أهمية ملفات أخرى مثل دعم السلطة القائمة في مصر، مما يفسّر التقارب مع تركيا الحريصة هي الأخرى على احتواء إيران.
بالإضافة إلى ذلك، فالتمدد الحوثي يشكل تهديدًا لتجارة النفط السعودية؛ حيث يمر من مضيق باب المندب أكثر من 2 مليون برميل يوميًّا من الخليج إلى أوروبا والولايات المتحدة، وتجارة النفط هي شريان الحياة الرئيس للاقتصاد السعودي رُغم محاولات تنويع مصادر الدخل، وإذا ما خضع لتهديد إيراني بهذا الشكل فإنه سيكون خطرًا وجوديًّا يقوّض تمامًا من قدرة السعودية على الحفاظ على التوازن الإستراتيجي مع إيران واستمرار قيادتها الإقليمية في الخليج.
عاصفة الحزم ربما كانت الخطوة الأولى الصحيحة في طريق مليء بالأخطاء الكارثية أدت لهذا الوضع الاستراتيجي المعضل، لذلك كان لازمًا على المملكة السعودية بوصفها القائد الفعلي والرئيس في هذه الحملة العسكرية أن ترفع من سقف أهداف هذه الحملة التي نجحت ولأول مرة منذ فترة طويلة في خلق اصطفاف رسمي وشعبي وراءها، نادرًا ما كان يحدث من قبل في أمثال هذه العمليات الحربية، ولا تكتفي فقط بتحجيم القدرات الحوثية أو استعادة الشرعية اليمنية أو إجبار الحوثيين على العودة لطاولة المفاوضات إلى آخر هذه الأهداف السياسية، بل يجب على المملكة أن تضطلع بدورها الريادي والتاريخي في إنقاذ المنطقة بأسرها من براثن الأخطبوط الإيراني الذي مد أذرعه في كل مكان، ويريد أن يبتلع المنطقة بأسرها، بل ويجاهر الساسة الإيرانيون بذلك، فقد صرح البرلماني الإيراني علي رضا زاكاني قائلًا: "لن تقتصر الثورة اليمنية على اليمنيين فحسب، بل ستمتد بعد نجاحها إلى داخل الأراضي السعودية، والناس في المنطقة الشرقية من السعودية سوف يقودون هذه الاحتجاجات".
ويوم الاثنين الماضي قال محمد البخيتي، عضو المجلس السياسي للحوثيين، في مقابلة مع الجزيرة: "أقول للمملكة العربية السعودية: إنها ستتحمل المسؤولية عن أي تدخل، ونحن نؤكد أن أي تدخل سيكون نهاية نظام آل سعود في الجزيرة العربية، والحج العام القادم سيكون بالمجان". فهل يعقل بعد هذه الفجاجة الإيرانية أن تقتصر الحملة على تقليص قدرات الحوثيين؟!
عاصفة "الحزم" فرصة سانحة يجب استغلالها في توجيه ضربة موجعة للتمدد الإيراني، وتفكيك الشبكة الشيطانية التي نسجت خيوطها بإحكام إيران منذ سقوط العراق، لابد من البناء عليها وجعلها نواة عمل أكبر من نطاقه المحلي يجبر إيران المنتشية بانتصاراتها وتوسعاتها وعلاقاتها الحميمة مع الأمريكان على التراجع عدة خطوات للخلف.
وردود الفعل الشعبية والدولية على العملية تؤكّد أنها ترسم خطًّا جديدًا للصراع في المنطقة، شادة العصب لمنظومة عربية متهالكة وهشة، عانت طويلًا من خيارات خاطئة، وصراعات جانبية صغيرة، ودافعت عن أجندات غيرها، وامتنعت عن المبادرة في وجه الأخطار الأمريكية والإيرانية فخسرت مصداقيتها لدى شعوب المنطقة، وتراجع تأثيرها إلى درجات غير مسبوقة، حتى جاءت لحظة الحسم، ممثلة في عاصفة "الحزم" لتنقذ ما يمكن إنقاذه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق