الثلاثاء، 24 مارس 2015

خبرة تونس في مواجهة الإرهاب

خبرة تونس في مواجهة الإرهاب


فهمي هويدي

في مذبحة متحف باردو بتونس رأينا بشاعة الإرهاب لكن دور السياسة لم يستوقفنا.
(١)
في ٢١ مارس/آذار ٢٠١٢ نشرت صحيفة لوموند الفرنسية تصريحات لوزير الداخلية آنذاك والقيادي في حركة النهضة السيد علي العريض ذكر فيها أن السلفية الجهادية تمثل أكبر خطر على تونس. وفي نفس الشهر من العام ٢٠١٥ الحالي ارتكب بعض عناصر السلفية الجهادية جريمتهم التي أسفرت عن قتل أكثر من ٢٠ شخصا بينهم ١٧ سائحا كانوا في زيارة متحف باردو، في واقعة هي الأكبر من نوعها منذ حصلت تونس على استقلالها في عام ١٩٥٦.

وبما فعلوه فإنهم وجهوا ضربة موجعة للاقتصاد التونسي الذي تعد السياحة أحد أهم المصادر التي يعتمد عليها. وخلال السنوات الثلاث، بين عامي ٢٠١٢ و٢٠١٥، لم يتوقف الصراع بين الأمن التونسي وبين المجموعات الإرهابية التي لم تتوقف عملياتها سواء على الحدود -مع الجزائر بوجه أخص- أو في قلب العاصمة.
"ما حدث في تونس يعيد إلى أذهاننا مسلسل الجرائم التي قامت بها في سيناء عناصر السلفية الجهادية، إلا أن الصدى السياسي اختلف في البلدين، إذ في حين أدت حوادث تونس إلى إسقاط حكومتين وإحداث تغير في قيادة جيش البر، فإن ما جرى في سيناء مصر لم يكن له صدى يذكر في هيكل السلطة السياسية أو أداء الحكومة"
في عام ٢٠١٢ شنوا هجوما فاشلا على السفارة الأميركية في العاصمة تونس، أدى إلى قتل أربعة أشخاص وإصابة أكثر من مائة آخرين بجراح. في عام ٢٠١٣ قتلوا على التوالي اثنين من زعماء المعارضة العلمانية واليسارية. أحدهما شكري بلعيد الذي بسبب مصرعه استقالت حكومة الأمين العام لحركة النهضة حمادي الجبالي. وعين علي العريض رئيسا للحكومة بدلا منه، وفي الحكومة الجديدة تخلت حركة النهضة عن بعض وزارات السيادة التي كان يشغلها ممثلوها. الثاني محمد البراهيمي، وهو أيضا من زعماء المعارضة، الأمر الذي ترتب عليه استقالة حكومة علي العريض وخروج حركة النهضة من الحكومة، ومن ثم تم تشكيل حكومة غير حزبية (تكنوقراط) برئاسة مهدي جمعة.

في عام ٢٠١٤ هاجمت العناصر الإرهابية قوات الحكومة في منطقة جبل الشعانبي المجاورة للحدود مع الجزائر، فقتلت ١٤ جنديا وأصابت ١٨ آخرين. وكانت تلك ضربة موجعة اهتزت لها تونس وجرى احتواؤها باستقالة رئيس أركان جيش البر الجنرال محمد صالح الحامدي من منصبه. وإذا لم يستجد شيء -وهو ما نرجوه- فإن مذبحة متحف باردو ستظل الحادث الإرهابي الأبرز في عام ٢٠١٥.
(٢)
ما حدث في تونس يعيد إلى أذهاننا مسلسل الجرائم التي قامت بها في سيناء عناصر السلفية الجهادية، وكان ضحاياها بضع عشرات من جنود الجيش والشرطة. إلا أن الصدى السياسي اختلف في البلدين، إذ في حين أدت حوادث تونس إلى إسقاط حكومتين وإحداث تغيّر في قيادة جيش البر، فإن ما جرى في سيناء مصر لم يكن له صدى يذكر في هيكل السلطة السياسية أو أداء الحكومة.

رغم فداحة الجريمة التي وقعت في متحف باردو، فإن ماكينة السياسة تحركت بسرعة لمواجهة الموقف. إذ عقد الرئيس باجي قايد السبسي لقاء مع قادة الأحزاب السياسية لمناقشة الحدث، كما أنه رأس اجتماعا للحكومة، وفي مساء اليوم ذاته خصص البرلمان جلسته لدراسة كيفية مواجهة الموقف، في حين أن رئيس الوزراء اعترف بأن التقصير الأمني كان له دوره في تيسير ارتكاب الجريمة.

وبالتوازي مع هذه التحركات السياسية دعي مجلس الأمن الوطني للانعقاد وكذلك المجلس الأعلى للجيوش التونسية، كما كانت الأجهزة الأمنية تؤدي دورها سواء في ملاحقة المتهمين أو التحقيق مع المشتبه بهم الذين لم يتجاوز عددهم ٢٠ شخصا. إن شئت فقل إن السياسة تحركت جنبا إلى جنب مع الأمن لمواجهة الموقف. وتحرك السياسة يفترض أن تجسده المظاهرة الكبرى التي يفترض أن تنطلق يوم الأحد المقبل تعبيرا عن الرفض الشعبي للإرهاب وممارساته. وأهمية ذلك الاحتشاد تكمن في رمزيته، باعتبار أنه يضم جميع التيارات والقوى السياسية بتنويعاتها المختلفة.

وحين تشارك حركة النهضة في المظاهرة ممثلة لما يسمى بالإسلام السياسي وباعتبارها الكتلة الثانية في البرلمان بعد حزب "النداء"، فإن ذلك يزيل الالتباس الذي يروج له البعض بخصوص العلاقة بين حركة النهضة وعموم الدعوة السلفية في تونس.

والحق أن الصورة واضحة والمسافة محسومة بين الطرفين في الفضاء التونسي. وهو ما عبرت عنه تصريحات القيادي في حركة النهضة علي العريض لجريدة لوموند والتي سبقت الإشارة إليها. علما بأن تباين المواقف بينهما، الذي يصل إلى حد التصادم والاشتباك، أشد وضوحا في مواقع السلفيين على شبكة التواصل الاجتماعي، إلا أن أغلب منابر الإعلام المصري ترفض رؤية ذلك التباين، إذ لأسباب سياسية وثيقة الصلة بحدَّة الاستقطاب الحاصل في مصر، فإنها تتورط في الخلط بين مكونات الإسلام السياسي، وترفض رؤية أي تمايزات بينها، رغم الأهمية البالغة لذلك في أي تحليل سياسي محايد أو بحث موضوعي نزيه.
(٣)
"إشارات البعض في وسائل الإعلام المصرية إلى أن العنف والإرهاب في تونس خرجا من عباءة حركة النهضة والإسلام السياسي، لا أصل لها ولا دليل عليها. لأن المسارين يختلفان تماما ولا وجه للالتقاء بينهما. وإذا أراد البعض أن يبني على ذلك الادعاء بأن الجميع إرهابيون فذلك لا يعني سوى إنكار حقائق الواقع "
هذا التخليط ينطلق من الادعاء بأن الإسلام السياسي شيء واحد، وأن الكلام عن الاحتواء والدعوة إلى توسيع نطاق المشاركة لتشمل كل الأطياف بمثابة مصالحة مع الإرهاب وتستر عليه. وأصحاب هذا الرأي يستدلون بتجربة تونس ويعتبرونها شاهدا على صواب رؤيتهم. والحل الذي يطرحه هؤلاء يدعو في النهاية إلى شطب الإسلام السياسي وإخراجه من المعادلة، إعمالا للمقولة التي ترى أن الباب الذي تأتيك منه الريح يتعين عليك أن تغلقه كي تهدأ بالاً وتستريح.

هذا التحليل مسكون بالتغليط في منهجه، ثم إن الاستدلال بالحالة التونسية فيه يجعله غارقا في التغليط. فهو من الناحية المنهجية يحاكم التجربة التونسية بمعيار الخبرة المصرية، ناهيك عن أنه يقرأ التجربة المصرية بمنظور السنوات الأربع الأخيرة وبحسابات الاستقطاب الراهنة. والشق الأول هو الذي يهمنا في السياق الذي نحن بصدده نظرا لخصوصية التجربة التونسية التي تبنت منذ الاستقلال في خمسينيات القرن الماضي نموذجا تغريبيا وعلمانيا واضحا.

وفي علمانيته فإن النموذج الذي فرضه الرئيس بورقيبة طوال حكمه الذي استمر ثلاثين عاما (من ١٩٥٧ إلى ١٩٨٧) أخذ عن العلمانية الفرنسية نفورها من الدين وعزوفها عنه. وهو ذات المسار الذي سار عليه خلفه الرئيس بن علي، وتأثرت به بعض شرائح النخبة التي انساقت في مسار التغريب والعلمنة. وبسبب ذلك النفور فإن النظام الحاكم في تونس منذ الاستقلال ظل على علاقة متوترة مع مجمل التوجه الإسلامي، الأمر الذي أدى إلى العصف بجامعة الزيتونة أولى جامعات العالم الإسلامي (سابقة على الأزهر) وإغلاق معاهدها بعد الاستقلال.

في الوقت الذي تبنى النظام التونسي نموذج التغريب والعلمنة، فإنه لم يحاصر التوجهات الإسلامية فحسب، وإنما فتح الأبواب واسعة للتيارات العلمانية والاتجاهات الماركسية والاشتراكية، وفي عهد بن علي جرى الانفتاح على إيران والترحيب بالمذهب الجعفري الاثني عشري.

وفي تلك الأجواء فإن دفاع المجتمع التونسي المتدين والمحافظ عن نفسه تمثل في ظهور حركة الاتجاه الإسلامي التي حملت اسم "النهضة" لاحقا (جرى إشهارها رسميا في عام ١٩٨١)، كما تمثل في انتشار الطرق الصوفية والدعوة السلفية.

ولأن حركة الاتجاه الإسلامي تبنت مشروعا فكريا بديلا، فإن النظام في عهديه ظل مشتبكا معها طول الوقت. الأمر الذي عرض أعضاءها للاعتقال والاتهام بالشروع في قلب نظم الحكم (رئيس الحركة الحالي الشيخ راشد الغنوشي حكم عليه بالسجن المؤبد). فمنهم من أودع السجون ومنهم من نفي إلى الخارج، حيث لجأ أغلبهم إلى إنجلترا وفرنسا.

وفي غياب حركة النهضة عن المشهد السياسي ووجود قادتها بالخارج طيلة عشرين عاما تقريبا، تمددت الحركة السلفية والطرق الصوفية، ورغم توتر علاقاتهما بالنظام الحاكم فإن الاشتباك معه كان أقل شراسة. أغلب الظن لأن الأجهزة الأمنية ارتأت أن نشاطات هؤلاء لا تمثل تهديدا للنظام، فضلا عن أن استمرار وجودها في الساحة قد يسحب البساط من تحت أقدام حركة النهضة.
(٤)
حين عاد قادة حركة النهضة من المنافي بعد الثورة (عام ٢٠١١) وتم الاعتراف بها كحزب سياسي له شرعيته، كان السلفيون والمتصوفة قد حققوا انتشارا ملحوظا في الساحة التونسية، وكان الأولون أكثر نشاطا بين الشباب، خصوصا أن إمكانيات كثيرة توفرت لهم نظرا لتعدد مصادر تمويلهم وتنوع أنشطتهم في المجالين الخدمي والدعوي. ساعدهم على ذلك أنهم استطاعوا السيطرة على عدد غير قليل من المساجد إضافة إلى اهتمام عناصرهم بالانتشار عبر شبكة التواصل الاجتماعي ذات الحضور القوي في المجتمع التونسي.
"الإرهاب لا مستقبل له في تونس. أولا لأن أمام الإسلاميين الراغبين في التغيير بديلا سلميا وشرعيا يمكن أن يطرقوا بابه، ويبلغوا المجتمع من خلاله وأن يحصدوا ثمار جهدهم عبر صناديق الانتخاب. وثانيا لأن هناك إجماعا وطنيا على نبذ الإرهاب، رغم كل الخلافات الفكرية بين القوى والتيارات الفاعلة"
لم يكن ذلك هو التغير الوحيد، لأن الجغرافيا شاءت أن تحشر تونس بين أكبر مصدرين للعنف والتطرف في المغرب العربي، أعني بذلك الجزائر التي تعشش فيها الجماعات المسلحة منذ التسعينيات، حين ألغى الجيش المسار الديمقراطي، فظهر العنف بديلا للتغيير. أعني أيضا ليبيا التي أغرق القذافي صحراءها الممتدة بالسلاح أثناء الثورة التي انفجرت ضده. والبلدان مفتوحان على مناطق مسكونة بالتوتر والتمرد، في مقدمتها تشاد والنيجر ومالي.

هذه الأجواء شكلت بيئة مواتية لاستقبال أفكار السلفية الجهادية والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وجماعة داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)، الذين شكلوا أحدث نسخة في ثقافة العنف وبشاعته. يساعد على ذلك أن حزام العنف الذي يحيط بتونس من الجانبين الليبي والجزائري يمتد بطول آلاف الكيلومترات التي تتخللها مساحات هائلة من الصحارى المليئة بالدروب التي يتعذر ضبطها أو السيطرة عليها، خصوصا في ظل القدرات العسكرية المحدودة لدى تونس التي لم تضع في الحسبان مواجهة من ذلك القبيل مع جماعات العنف والإرهاب.

هذا الذي ذكرت أخلص منه إلى نتيجتين: الأولى أن الإشارات التي كررها البعض في وسائل الإعلام المصري وتحدثت إلى أن العنف والإرهاب في تونس خرجا من عباءة حركة النهضة والإسلام السياسي، لا أصل لها ولا دليل عليها. لأن المسارين يختلفان تماما ولا وجه للالتقاء بينهما. وإذا أراد البعض أن يبني على ذلك الادعاء بأن الجميع إرهابيون وليس هناك معتدل يراهن عليه وإرهابي نخاصمه، فذلك لا يعني سوى إنكار حقائق الواقع ودفن الرؤوس في الرمال وليس أمام الشباب الناشط سوى أن يلتحق بالقاعدة أو داعش إذا أراد أن يكون إيجابيا وفاعلا.

النتيجة الثانية أن الإرهاب لا مستقبل له في تونس. أولا لأن أمام الإسلاميين الراغبين في التغيير بديلا سلميا وشرعيا يمكن أن يطرقوا بابه، ويبلغوا المجتمع من خلاله وأن يحصدوا ثمار جهدهم عبر صناديق الانتخاب. وثانيا لأن هناك إجماعا وطنيا على نبذ الإرهاب، رغم كل الخلافات الفكرية بين القوى والتيارات الفاعلة.

وهذه الخلافات مهما بلغت فإنها لم تبلغ حد الدعوة إلى الإقصاء وإنما جرى الاتفاق بينها على الاحتكام إلى الصندوق في نهاية المطاف. ثالثا وأخيرا لأن البلد تديره السياسة وليس الأمن، ولأن فيه أحزابا وبرلمانا وانتخابات حرة، فالسياسة فيه لم تمت، والأمل في المستقبل لم يمت أيضا.
المصدر : الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق