لا مصالحة بعد المشنقة
محمد إلهاميقبل البدء: هذا المقال لا يستهدف الطعن في الإخوان، بل هو صيحة تنبيه.
[أولًا: حقائق عامة]
1. الانقلاب العسكري جولة في الصراع الحضاري الطويل بيننا وبين الغرب، والذي بلغ تفوق الغرب فيه – الآن- أنه يحكمنا من خلال طبقة هو صنعها وهي تمثله، يدعمها وتحفظ مصالحه، ويمارس عبرها كافة أشكال الصراع.
2. هذه المنطقة لا يراها الغربيون إلا بهذا التعريف: المنطقة الإسلامية، العالم الإسلامي، الحضارة الإسلامية، وهذا أمر مبسوط في كتب منظريهم ومفكريهم. وأما تقسيمنا إلى مصريين وسعوديين وتونسيين وعراقيين وغيره فهذا لا يفعله إلا العملاء الذين يحكموننا لمزيد من التفرقة والتقسيم.
3. ولهذا فمن الطبيعي أن تؤول الثورات التي تبغي التحرر إلى الإسلاميين، لأنه ليس ثمة طرف ثالث في هذه المنطقة، فهي إن لم تكن للغرب كانت للإسلام، ولذلك ينهض الغرب – وعلى رأسه أمريكا- لمنع هذا التحول وإجهاضه.
4. حتى الذين ثاروا فقط لأجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية لو كانوا مبصرين ومخلصين سيعرفون أن الغرب هو الذي يقف عقبة في سبيل تحقق هذه الأهداف، وسيعرف أن هذه المنطقة لا يمكن أن تنجح فيها ثورة إلا عبر إلهاب الشعور الإسلامي، فهو الوحيد القادر على تحريك هذه الشعوب وتفجير طاقاتها.
5. ولذا فإن الثورة المصرية آلت إلى الانقسام الفكري لا الثوري، فلم يعد ثمة ثوار وعسكر، بل صار الحال: علمانيون وعسكر في مقابل الإسلاميين. مع استثناءات في كل جهة لا تغير من حقيقة أن العلمانيين – إلا النادر- مع العسكر والاستبداد. وأن الإسلاميين – إلا النادر- مع الثورة وخيار الشعب.
[ثانيًا: عصر الهزيمة]
1. في ظل التفوق الغربي الكاسح وانهيار ميزان القوى، وتوالي الهزائم على المسلمين أمام الغرب منذ أربعة قرون حتى الانهيار التام في القرن الأخير، كانت الاستجابة “الإسلامية” لهذا “التحدي” الغربي على أكثر من مسار، أولها وأوسعها: المواجهة المسلحة منذ حروب الخلافة العثمانية وحتى عمليات المقاومة الصغيرة.
إلا أن شيئًا من هذا المسار الكفاحي لم يستكمل أهدافه، فحتى حركات المقاومة التي أجبرت المحتل على الخروج من البلاد، استطاع هذا المحتل أن يخدعها وأن يسلم هذه البلاد لطبقة من عملائه أداروا الحكم من بعده، وكان شرهم على الأمة أضعاف شر الاحتلال الأجنبي في مشهد يتوقف عنده التاريخ كثيرًا.
2. ومن ضمن آثار هذا أن نشأت في الأمة تيارات ترى أن الأمر بحاجة إلى أساليب أخرى غير مجرد المواجهة المسلحة، فاتخذ بعضهم مسارات دعوية لإصلاح القلوب والأخلاق، وبعضهم مسارات علمية لإصلاح العقائد والأفكار، وبعضهم مسارات سياسية لإصلاح النظم والممارسات.
إلا أن هؤلاء أيضًا لم يستكملوا أهدافهم، بل اتخذ الحكام من كثير منهم زينة لنفسه ونظام حكمه ليضفي عليه الشرعية، أو ليظهر به أنه يعطي لخصومه مساحة من الحرية
. فما إن يأتي الجدّ ويتعرض النظام لاهتزاز كبير كثورة أو احتلال أو تغير طارئ إلا وتجد رؤوس هذه التيارات قد انحازت تلقائيًّا إلى النظم التي انبعث في الأصل لمقاومتها وتصحيح انحرافاتها ومعالجة آثارها.
وفي النهاية لم تتمكن حركة دعوية أو علمية أو سياسية من حسم الأمر في أي بلد وتحويله من خانة الغرب إلى خانة الإسلام.
3. وأبرز صور الفشل لدى الجميع أن النظم الحاكمة – التي هي طبقة منحازة للغرب وتحفظ له مصالحه طوعًا أو كرهًا- استخدمت هذه التيارات لضرب بعضها ببعض، والأصل أن هذه التيارات هم في صفٍّ واحد ضد هذه الأنظمة، وكان المشهد التاريخي المتكرر أن تبدأ الحرب على التيار الجهادي، فإن نجحوا في تصفيته بدأوا في التيار السياسي، فإن نجحوا في تصفيته أو احتوائه بدأوا في التيار العلمي ثم الدعوي حتى لا يبقى إلا من يقدس الحاكم ويُدجِّن الناس له.
وقد سارت كثير من الأنظمة في الاستعلان بالكفر وتمكينه وفرض العلمانية والشيوعية والليبرالية على الناس حتى في صميم أحوالهم الشخصية كالحجاب والطلاق وتعدد الزوجات، والتحكم في أدق تفاصيل العبادات كمواعيد فتح المساجد وشروط المتحدثين على المنابر.
[ثالثًا: المشهد المصري]
1. قبل يومين (وبالتحديد 24/3/2015) أفرج عن نحو ألفين من المعتقلين في السجون، وفي اليوم نفسه أيدت المحكمة العسكرية حكم الإعدام على ستة آخرين في قضية “عرب شركس”. وهذا المشهد لا تفسير له حتى لحظة كتابة هذه السطور إلا أن نظام الانقلاب العسكري سريع إلى تصفية الجهاديين (أو بالأحرى: من يحسبهم كذلك، لأن القضايا مليئة بالثغرات ومن المحكوم عليهم بالإعدام من اعتقل قبل وقوع أحداثها بشهور) بطيء في معاملة الإخوان على هذا النحو.
بدليل سرعة الفصل في قضايا النقض الخاص بالجهاديين (وتأييد أحكام الإعدام) وبطء إجراءات القضايا الأخرى الخاصة بالإخوان.
وللنظام العسكري والأمني تاريخ طويل في التفريق بين الإسلاميين في السجون والمعاملة، ثم في التحريش بينهم وزرع الفتن بهذا التفريق. فيوهم هؤلاء بأنه يقرب ويفضل ويحابي هؤلاء، ويوهم هؤلاء بأنهم معتدلون فهو معتدل معهم، وإنما يشتد على الإرهابيين المتشددين.
2. ومن ثمَّ فأي صياغة للمعركة الدائرة الآن غير أنه صراع بين الإسلام والغرب هو خداع وتزييف، والأسوأ من هذا أنه خداع لا ينطلي على أحد؛ فالمعركة مكشوفة ومعسكراتها واضحة وكل طرف فيها يعلم أهداف الآخر.
وأدلُّ شيء على هذا أن المعركة لو كانت على عودة مرسي كشخص لم يكن أحد من سائر الإسلاميين لينضم إلى الإخوان في هذه المعركة، ولكن لأن الانقلاب إنما هو انقلاب على الإسلام وتضييع للدين وتمكين للكفر دخل كل هؤلاء إلى الإسلاميين إلى هذا الأتون الرهيب، الذي لن يخرجوا منه بأي مكسب لأنفسهم ولا لفصائلهم. بل إن كثيرًا منهم داخل في هذه المعركة وهو لا يأمن أن يُباع من قِبَل الإخوان لما للإخوان من رصيد سابق سيئ في العلاقة مع الجهاديين في مصر، وتجارب خيانة في الجزائر والعراق وتونس وغيرها.
3. ويترتب على ذلك أن يُقال للإخوان وبأقصى وضوح ممكن: إنكم مسؤولون عن هؤلاء الذين دخلوا هذه المعركة معكم، من عدة وجوه؛ أولها: الأخطاء المتراكمة والفادحة في المسار الثوري، والتي ليس أولها الطعن في الشيخ حازم أبو إسماعيل، وليس آخرها الانفراد بإدارة الأزمة بالإهمال التام للإسلاميين وتوسل التوافق مع العلمانيين.
وثانيها: الأخطاء المتراكمة والفادحة منذ الانقلاب، والإصرار على استمرار المسار السلمي إلى درجة رمي أصحاب المسار الثوري بأنهم إرهابيون أو صنيعة مخابرات وأمن دولة.
وثالثها: أنكم من تديرون الجانب السياسي للمعركة – وأيضا بإهمال تام لكل الأطراف الإسلامية الأخرى- ومن ثم فإن كان ثمة غنائم فسترثونها وحدكم.
وعليه، فلا أقل من أن تتعاملوا مع هؤلاء بنفسية ابن تيمية الذي لما أراد ملك التتار أن يطلق له أسرى المسلمين فقط قال له: “لا ندع أسيرًا، لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة”.
فلئن كان ثمة تصعيد فليكن، ولئن كان ثمة ما سيسمونه “مصالحة” فلا أقل من أن تشمل الجميع. بل ويكون إعدام أي نفس هو مما يصعب هذه المصالحة ويقطع طريقها وينهي المفاوضة عليها.
وساعتها يكون إخوان مصر قد صححوا عددًا من الأخطاء التاريخية لهم ولفروع جماعتهم في مناطق أخرى، بدل أن يثبتوا – لمرة أخرى- أنهم لا يعبأون إلا بمصلحتهم الضيقة ولو على دماء إخوانهم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق