الثلاثاء، 1 سبتمبر 2015

"بذرة" الربيع ترفض الموت

"بذرة" الربيع ترفض الموت


 خليل العناني
أعادت الاحتجاجات الشعبية في لبنان والعراق ضد الفساد والفشل الحكومي إلى الأذهان بعضاً من نفحات "الربيع العربي" التي هبّت قبل أربع سنوات.
بصورة الماضي القريب، حين انطلقت الانتفاضات الشعبية تطالب بالتغيير، وتصرّ عليه وتضحّي لأجله. كما أنها تشي بأن ثمة شيئاً "ما" يرفض الاستسلام داخل قطاعات واسعة من الشباب العربي، على الرغم من كل محاولات الثورة المضادة (محلياً وإقليمياً) لتشويه فكرة الحراك والاحتجاج الشعبي أداة عفوية للتعبير ورفض الأوضاع القائمة.
الأكثر من ذلك أن الاحتجاجات الحالية أعادت الاعتبار للمسألة الاقتصادية والاجتماعية، ليس فقط باعتبارها المحرّك الأساسي لحالة الرفض الشعبي، وإنما أيضا بالتأكيد على إمكانية القفز فوق التحزبات السياسية والأيديولوجية من أجل هدف مشترك.

وهي الأطروحة الأصيلة نفسها للربيع العربي الذي بدأ موجة احتجاج اقتصادي/اجتماعي، يهدف إلى تحقيق المساواة والعدالة، وما لبث أن تطور إلى حالة سياسية متدفقة، ترفع شعارات الحرية والكرامة والديمقراطية.
هذه الاحتجاجات، وبغض النظر عن نجاحها في تحقيق أهدافها، أكدت، بما لا يدع مجالاً للشك، أن
"بذرة" الربيع العربي التي تم غرسها قبل أربعة أعوام لا تزال تنبض بالحياة، وترفض الموت الذي جاءها من كل مكان.كما أنها تؤكد أن كل حيل الثورة المضادة وألاعيبها وأجهزتها وأذرعها لم تنجح فى وأد مسألة التغيير.
بل المدهش أن معظم هذه الاحتجاجات، كسابقاتها التي قامت قبل أربع سنوات، ليس لها "رأس" محددة، ولا تسير خلف قيادة بعينها، وإنما هي حركة عفوية انطلقت من الشارع، وتفاعلت معها قطاعات شعبية واسعة، رأت فى التظاهر والاحتجاج السبيل الوحيد للمطالبة بالتغيير.
في كتابه القيّم "الحياة كسياسة: كيف يغيّر أناس عاديون الشرق الأوسط"، يرى آصف بيّات أن "رجل الشارع العادي" هو كلمة السر في تغيير الأوضاع فى الشرق الأوسط.
وهو ما يعكس فقدان هذا "الرجل" الثقة فى النخبة السياسية، ويسعى إلى تجاوزها في البحث عن حلول لمشكلاته، إما من خلال تغييرها أو تغيير البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تنتجها.
ولعل المسألة المهمة التي يشير إليها بيّات في كتابه، وتبدو واضحة جداً في الاحتجاجات الراهنة هي مسألة "اللاحركات الاجتماعية" non-social movements، والتي أصبحت سمة مميّزة فى حالة الحراك الاجتماعي طوال السنوات الماضية. أصبحت هذه "اللاحركات" لاعباً فاعلاً ومؤثراً فى مشهد التغيير في المنطقة، وهي تظهر فجأة وبدون مقدمات، وترفع مطالب محدودة قد تتطور باتجاه أجندة متكاملة من المطالب، حسب تطور الظروف في كل حالة.
 هذه "اللاحركات"، والتي عادة ما تفاجئ النخبة والساسة بظهورها تمثل "ميكروسوم" الثورات والانتفاضات، كونها تحمل مطالب أصيلة ونقية، ترتبط بها وبأوضاعها اليومية.
ولعل ما يميز هذه "اللاحركات" أنها تضم، بالأساس، قطاعات واسعة من المهمشين، سياسياً واقتصاديا واجتماعياً، كالفقراء والنساء والطلاب والعمال...إلخ.
ما يحدث في لبنان والعراق، الآن، يبدو لافتا. فمن جهةٍ، كان من المفاجئ أن تخرج تظاهرات واحتجاجات بشأن قضايا اقتصادية واجتماعية فى بلدين معروفين بانقساماتهما وتجاذباتهما الطائفية.

بل ربما كانت هذه الأخيرة عنصراً مهما في تحريك قطاعات شعبية مختلفة، تحاول تجاوز هذه الانقسامات، وتطرح مطالب عامة، وتضع أجندة مشتركة.
ومن جهة ثانية، لا تزال معظم هذه الاحتجاجات سلمية إلى حد بعيد. ولعل ذلك أحد أسباب جاذبيتها وتأثيرها، على الأقل حتى الآن. وهو أمر يدعو إلى التأمل، خصوصاً أننا نتحدث عن بلدين لا يصعب فيهما اللجوء للعنف أو السلاح، من أجل حسم الصراع السياسي، وهو ما لم يحدث حتى الآن من المحتجين، خصوصاً في لبنان.
ومن جهة ثالثة، تأتينا احتجاجات لبنان والعراق في وقت ظنّ فيه كثيرون أن فكرة الاحتجاج والتظاهر فقدت بريقها وتأثيرها تحت وطأة ما يحدث في المنطقة من تدمير وتفكيك وقمع وعنف.
وهو ما يؤكد خطأ الذين يراهنون على تخويف الشارع العربي وترهيبه، وإعادته إلى حظيرة الطاعة والسلطة الأبوية.
نحن إذاً إزاء حالة جماهيرية متدافعة، لا تنظر إلى النتائج والمآلات، بقدر ما تحاول إعادة الثقة لنفسها ولقدرتها على التعبئة والحشد والضغط. وبغض النظر عما سوف تسفر عنه الاحتجاجات الراهنة، إلا أنها أكدت أن "بذور" الربيع العربي التي تم نثرها قبل أربع سنوات لا تزال "ثاوية" في مكان عميق داخل الجيل العربي الشاب، وأنها سوف تثمر تغييراً، إن آجلا أو عاجلاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق