الأربعاء، 16 سبتمبر 2015

في فهم النظام العالمي والخروج منه

في فهم النظام العالمي والخروج منه



ا.محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية


كان من فضل الله على هذه الأمة أن منَّ عليها بثورات الربيع العربي، التي –ومهما كان حجم التضحيات فيها- تؤسّس لمرحلة جديدة في وعي الأمة وبعثِها من جديد.
وكان من آثار ذلك اهتمام كثير من الناس، لا سيما الشباب الثائر، بمسألة: النظام العالمي، فهما ومقاومة!
على أن هذا الانتباه وإن كان مُقدَّرا، إلا أنه يكتنفه نوع من الحماسة المثالية، وهي ظاهرة طبيعية في الأجواء الثورية، فهم لا يقبلون بغير الخروج من النظام العالمي كله، ومقاومته كله ورميه عن قوس واحدة!
 ويرون أن أي تعامل سياسي أو حتى تصريح سياسي يُمكن تفسيره على أنه اعتراف بالنظام العالمي أو إقرار له.. يرون ذلك خطأ ثوريا أو حتى خيانة ثورية!
ولهذا تنطلق الألسنة تقدح في كثير من الحركات والدول التي تمثل أملا لهذه الأمة مثل: تركيا وحماس والإخوان المسلمين وأحرار الشام وأمثالهم وحتى جبهة النصرة (التابعة لتنظيم القاعدة المتأسّس أصلا على مواجهة النظام العالمي علانية)..
 فكل هذه الحركات والدول لها من السياسات والتحالفات والتصريحات ما يخرق “مثالية الثوار على النظام العالمي” إنْ في التعامل مع روسيا وإيران أو في الالتزام بحدود سايكس بيكو في الجهاد أو في بقاء علاقات مع إسرائيل أو البقاء ضمن أحلاف عسكرية غربية أو في غير ذلك.
وحاصل الأمر أنه لم يبق سوى أنصار “تنظيم الدولة الإسلامية” من يحسبون أنه لا حركة تحقق هذه “المثالية” سواها وسوى أميرها: أبو بكر البغدادي.. وحتى هذه الأخيرة يُعكِّر عليها الأمر أنها تتعامل –حتى الآن- بالدولار (عملة النظام العالمي) وعلاقات بالأتراك وصلت حدّ التسامح مع ضريح تركي (شركي) وأمور أخرى!
وفي هذا السياق يهمنا التأكيد على بعض أمور:
أولا: إن وجود نظام عالمي حقيقة لا شك فيها، وهذا النظام قد بنى لنفسه شبكات من التحالفات والمصالح والأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية ما يجعل حركة الدول المستقلة –فضلا عن حركات المقاومة- لتحقيق استقلالها الحقيقي في القرار السياسي والموارد الاقتصادية والخصوصية الثقافية.. يجعل ذلك شيئا عسيرا وبالغ الصعوبة ويحتاج إلى قدر عظيم من صبر ومثابرة مع ذكاء ومناورة.
ثانيا: إن أحدا لا يسعه أن ينفلت من واقعه بكل وجه، بل لا بد له من علائق وعوائق وارتباطات تفرضها الأوضاع وموازين القوى والإرث التاريخي والثقافي، وقد رأينا أنه حتى “دولة البغدادي” لم يسعها أن تنفلت من النظام العالمي في كل أفعالها. وإنما سيرة حركات التغيير جميعا أنها تستفيد من وضعها الحالي (بكل ما ترفضه منه) في تغييره والانتقال إلى وضع جديد يكون لها فيه وزن جديد.
إن مقولة “نزولك إلى الملعب بقوانين اللعبة يجعلك محبوسا فيها” هي مقولة سخيفة، فالواقع العملي أنه لا أحد يستطيع إنشاء ملعب جديد، بل العالم كلّه في ملعب واحد، ولا مناص عن النزول إلى هذا الملعب وأن تلعب فيه بقوانينه التي يفرضها القوي ثم يغيرها لصالحه، وفي ظل هذه القوانين تجاهد لتعديل قوتك وتغيير القوانين طبقا لموقعك الجديد.. هكذا فعلت كل حركات التغيير!
ولقد كان نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو قائد أعظم حركة تغيير في التاريخ قد استفاد من قوانين الجاهلية كالعصبية القبلية فتمتع بحماية عمه أبي طالب وعصبة بني هاشم، وكالإجارة فدخل في جوار المطعم بن عدي، وأرسل أصحابه إلى جوار كافر يقيم العدل فلا يُظلم عنده أحد.. وغير ذلك!
ولم توجد حركة تغيير انبثقت فخرجت على واقعها كله وانفلتت من قوانين مجتمعها دفعة واحدة!
ثالثا: إن النظام العالمي نظام بشري.. وهذا هو أهم ما نريد التركيز عليه في هذه السطور!
نحن نؤمن بأن الإسلام دين الله، وقد نزل الوحي المعصوم على النبي المعصوم، فتأسّست به خير أمة أُخرجت للناس، فسادت به العالمين وظلّت صاحبة لواء الحضارة لألف سنة على الأقل.
ومع هذا، فنحن نؤمن أن هذا المنهج الرباني حين أسيء تطبيقه أو تُخُلِّي عنه لم ينفع أصحابه بل هَوَوْا إلى وهدتهم الحالية من الضعف والتخلف والعجز حتى صاروا كالأيتام على موائد اللئام بل صاروا الفريسة التي تتقاسمها الأمم!
فإذا كان الأمر كذلك، فكيف لمن يؤمن بهذا أن يتصور ويعتقد أن النظام العالمي –الذي وضعه بشر وينفّذه بشر- يصل إلى مرحلة الكمال والتمام حتى يصير اختراقه مستحيلا، ويصير كل من استعمل بعض أدواته قد بات أسيرا له محتوما على حركته بالفشل مستوعبا بالضرورة في سياق النظام العالمي؟!
إن الخلل البشري -في التنظير والتطبيق- يجعل بُنية النظام العالمي حافلة بالخلل، فلن تكون أبدا كتلة صماء مغلقة لا سبيل إلى التعامل معها إلا بالرفض الكامل أو الذوبان الكامل..
هذا ونحن على الحقيقة لا نستطيع هذا الرفض الكامل لأننا داخل هذه الكتلة لا خارجها ومحكومون بنظمها وقوانينها وقيودها، فتصور الأمر على هذا النحو لا يدع فرصة عملية سوى الاستسلام والذوبان!
ثم إن النظام العالمي، وكل نظام بشري، لن يبلغ من القوة أن يخرق سنن الله في كونه، وإنما هو على الحقيقة صورة من صور استثمار هذه السنن والقوانين، وما على من يقاومها إلا أن يستثمر ذات السنن والقوانين الإلهية في مقاومة هذا الباطل!
كثيرا ما أخطأ هذا النظام العالمي وضلّ الطريق وعاد تدبيره وبالا عليه، إلا أنه لفرط القوة ما يزال قادرا على استيعاب وتصحيح كثير مما أخطأ فيه.. فديمقراطيتهم تأتي لهم بالإسلاميين فيحاولون بالقوة الناعمة والخشنة ترويضهم أو تنفيذ انقلاب عليهم!
 قد ينجحون في الترويض (كما في تونس) أو في الانقلاب (كما في مصر) وقد يفشلون (كما في غزة وأفغانستان وليبيا وكل ساحة جهاد لم تحسم فيها المعركة بعد)!
قد يتركون المجال للمجاهدين المسلمين لإنهاء المعركة في الاتحاد السوفيتي (وانظر وتأمل كيف احتاج النظام العالمي استعمال قوى أخرى في معاركه.. إنه ليس إلها) ولكن ليس معنى هذا أنهم يستطيعون السيطرة على كل آثار هذه الصحوة الجهادية!
وقد يدبّرون للتغيير في مكان، لكن لا يستطيعون سَوْق هذا التغيير في المسار الذي أرادوا كما أرادوا، بل يضطرون لنوع مناورة ومهادنة وكسب الوقت وتأجيل المواجهة.
وقد أرادت أمريكا أن تحتفظ بتركيا (العلمانية الكمالية) حليفا لها في معركتها ضد الاتحاد السوفيتي، خصوصا مع الموقع الجغرافي الخطير لتركيا، فحملت قادة هذه البلاد على تغيير النظام السياسي من حكم الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية (ونفّذ عصمت إينونو، صاحب أتاتورك ووريثه، في عام 1945م هذا التعديل الذي كانت فيه نكبته) وأنتج هذا نظاما تعدديا حقيقيا في تركيا كانت أولى ثمراته عدنان مندريس الذي حكم عشر سنوات، نتج عن تخطيطهم هذا نظام يأتي بالإسلاميين وينقلبون عليهم ويظل النظام، حتى جاءهم من لم يستطيعوا الانقلاب عليه بعد!
وهذا الذي جاءهم استثمر رغبة العلمانية التركية في الالتحاق بالاتحاد الأوروبي، واستثمر قوانين الاتحاد الأوروبي في شأن التدخل العسكري في الحكم، فأخذ من هذا وهذا لنفسه، حتى أحدث تغييرات واسعة ومؤثرة في مستوى العلاقة بين المدنيين والعسكريين في السياسية التركية!
وقد انتفعت الأمة بهذا أيما انتفاع، ويكفي أن نتخيل علمانيا كماليا مكان أردوغان ثم نتخيل سوء هذا على الأمة كلها منذ 2002 وحتى الآن.. ذلك هو استثمار ما في البناء البشري من خلل ليؤدي إلى عكس مقصوده، وضرب النظم بعضها ببعض والنزول إلى الملعب ثم تغيير قوانينه بتغيير موازين قوته.
يحتاج شباب الثورات، إضافة إلى ما اكتسبوه من وعي وحماس وثورية في التنبه إلى طبيعة النظام العالمي وطريقة عمله وضرورة التحرر منه، أن يعرفوا كذلك سنن التغيير، لا يعرفونها فحسب من نصوص الثورة والثوار وكتاباتهم، بل من تواريخ الثورة والثوار وواقعهم ومذكراتهم الشخصية التي تسرد التجربة العملية لا الشعارات الملتهبة.
وحين يكون التقييم متوجّها إلى من عُرِف جهاده وولاؤه للأمة وثبت له هذا بأفعال بل وبدماء، فينبغي حينئذ أن يكون الإعذار وحسن الظن مقدما في فهم وتعليل سياسته.. فكيف إذا كان الأمر والأمة كلها في لحظة استضعاف ووهن لا تملك أن تدفع عدوا إلا بنوع تعامل وتحالف مع عدو آخر، وأن تغض الطرف عن شيء وأشياء لتحصيل شيء وأشياء في جوانب أخرى.
فإن الذي سيقاوم أمريكا لا بد له من نوع تعامل مع روسيا والصين والهند (وسيغض الطرف بالضرورة عما يفعلونه في القوفاز وتركستان وكشمير) وإن الذي يموت من الجوع والحصار ولا يجد مالا سنيّا لا بد سيتعامل مع المال الشيعي (وسيكتم في نفسه بالضرورة ما تفعله إيران في سوريا والعراق واليمن).. وإن الذي يملك القليل الشحيح من المال والعتاد لهو أحرص على إبقاء جهاده في أضيق الحدود، فليس بالوسع خوض معركة أممية قبل أن تخلص للمجاهدين دولة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق