الأحد، 13 سبتمبر 2015

في أنّ دمار سورية سببه نظرة ازدراء!


في أنّ دمار سورية سببه نظرة ازدراء!


أحمد عمر

استمرت حرب طروادة عشر سنين، بسبب حسناء، وكذا داحس والغبراء أربعين سنة بسبب بغلين، ومثلهما البسوس بضعة وعشرين سنة بسبب ناقة، أما دمار سورية في خمس سنوات حتى الآن، فسببه نظرة ازدراء!

من أقوال القائد الخالد حافظ الأسد الحكيمة والمجسدة لأسس بناء العمران والأوطان هذا القول الذي كان منصوبا في الساحات: " عندما نجد سيارة أو مواطنا يخالف النظام العام في البلد، ويخرق قانون السير، يجب أن ننبهه إن كان يجهل أنه يخالف، وننظر إليه بازدراء( باستخفاف) إن كان يعلم أنه يخالف".

كان عبقريا، حكيما، وتجد البلاغة في إرداف القائد الرمز النظام العام بقانون السير، وليس بحق التقاضي العادل، ولا حرية الرأي!
ثم يأتي بعد ذلك العقاب والقصاص العادل، الذي سنَّه باني سورية الحديثة، وحمورابي العصر والأوان، وهي التنبيه عقوبة دنيا، ونظرة الازدراء عقوبة عظمى، لكن الرجل يربط النظام العام بعنصرين، هما السيارة والمواطن، ويتجاهل الدولة وأجهزتها ومؤسساتها والقضاء، فالعدل هو أساس الملك في حكمة الأجداد والأديان والشرائع والأمم طرا وقاطبة.

الشاعر ممدوح عدوان في كتابه
"حيونة الإنسان"، وكان شجاعا، وإذا قمنا بكشف ومسح للجسورين في المرحلة السابقة، سنجد أن كل الشجعان هم من الأقليات الكريمة!

فشجعان الأكثرية قضوا في السجون، أو هربوا إلى المنافي، يروي إنه رأى سيارة حكومية تلفظ حمما دخانية من سيارة قديمة في سورية الحديثة، فغار عليها، واقترب، وقد نوى على أكرم الحسنيين تأسيا بتوجيهات الحمورابي، أي التنبيه بنظرة الازدراء، فأجابه الشرطي: رُح من هنا قبل ما أنزع لك صباحك.

ولي تجارب قاسية مع تنفيذ وصية الأسد الفاضلة التي بنى بها سورية الأسد سجنا سجنا، ومفرزة مفرزة، ذلك أني كدت أن أفقد حياتي بسبب نظرة الازدراء، منها أني كنت صبيا على أعتاب شهادة الثانوية العامة، رأيت أول مرة في حياتي سيارة شبح سوداء اللون والزجاج، وهي "تشحط" في الشارع في بلدتي النائية، فوقع لي ما يقع في أفلام الخيال العلمي، عندما يرى إنسان من العصر الجاهلي برنامج "رامز وأكل الزفت"، فنظرت لسائقها الملثم بالزجاج بازدراء، ليس استجابة لتوجيهات باني سورية الليموزنية، وإنما بالفطرة، فخرج سائقها مشهرا رشاشا حربيا، وهو يزمجر بلهجة غريبة سكسونية مرعبة، ما ترجمته بالفصحى: لمن هذه النظرة المزدرية أيها الكلب. ولا أعرف كيف نجوت من الإغماء، أو من أن ينزع لي عمري كله لا صباحي فقط، وأذكر أني سمعت صوت الدماء، وهي تهدر في جداول شراييني..
 أقرُّ أنني عملت على ترجمة نظرة الازدراء إلى نظرة غرام "يا سهام في العين" بعد رؤية الموت منتصبا في ماسورة الرشاش.. فرضي السائق باعتذار الذل الذي قدمته جاثيا من هول الصعقة.

ومكثت سنتين في البلد المنكوب بقانون الأسد "و" نحرق البلد، وأنا طرف جلابيتي في فمي، و أتيقن أن الهرب كل المرجلة، وليس ثلثيها، وتعرضت في الأماكن التي لجأت إليها إلى حوالي اثنتي عشرة مداهمة، وفي إحداها، خرجنا جميعا وأيدينا فوق رؤوسنا، كما في أخبار اقتحام مخيم جنين، ثم جمعونا ونحن نجهل مصيرنا، هل هو الحرق أم نظرة الازدراء، ثم كان أن انتبه قائد الحملة إلى أن معظم الأسرى من حملة الشهادات الجامعية، فجمعنا ثم جلدنا بخطبة عن القائد والأمن والاستقرار والجماعات السلفية العرعورية، ولم تكن داعش قد ولدت بعد، فقد كانت في الشهر الثالث من الحمل، ثم كان أن توقف عن الخطاب، وقال لي: أنت تنظر إلي بازدراء!
 فوجئت وقتها بأمرين أنه مثقف، ويعرف معنى الازدراء، ويقرأ العيون أكثر من محمد عبد الوهاب في أغنية الايس كريم، والثاني أن قطرة بول سقطت من .. عيني خوفا! نجوت بفضل الله وحمده، بعد أن برهنت له أني معجب ببلاغته وفصاحته، وأن نظرة الازدراء ليست له ولخطابه، وإنما للجماعات الإرهابية والسلفية التي يتحدث عنها في خطابه. اعتذرت بفم جاف، قاحل، عبر صاحبه صحراء الربع الخالي.

وفي مرحلة الثانوية كان في صفي صبي مجرم، يرأس عصابة اسمه وهاب، يخرج في الاستراحة " الفرصة" ويجلس في النادي أو في إحدى الظلال، ويتحدث عن مغامراته وفروسياته لبعض الزملاء المريدين، وكأنه حكواتي سيرة بني هلال وعنترة .. والمغامرات هي: لواطة، حرق هررة وحمير بعد دهنها بالبنزين، عمليات نهب علني، معارك ..
ثم كان أن كمن لي مع عصابته بسكاكين الكباس في أحد أيام الصيف، وفي يدي جزء غير كامل من سيرة سيف بن ذي يزن فارس اليمن، النسخة الحجرية القديمة، كنت سعيد باستعارته من بائع خردوات .. أمسكني من رقبتي، وقال: لمَ تنظر لي دائما بازدراء يا زميل! اقتادوني إلى أقرب خرابة، وأشعلوا النار بسرعة، وقيدوني بخيطان أكياس الحنطة القنب، وهي خيطان رفيعة حفرت في لحمي حفرا، ورسمت فيه أخاديدا، ثم بدؤوا عمليات التعذيب، ولم يكن ذلك العهد عهد" السيلفي" ويجب أن أقرَّ أنهم كانوا لطفاء، واكتفوا بحرق قدمي من الأسفل بجمرة من الجمرات، ولم ينتقلوا بالحرق إلى مناطق أعلى وأشرف، على صوت صراخي جاء أحد العابرين الشيوخ، وسأل بفضول: لم تعذبون الصبي؟

فقال له وهاب: هذا زميلنا، وينظر إلي بازدراء دائما يا خال.

قال الشيخ: سامحه يا بني، العفو من شيم الكرام، ولك الجنة.

بعد أربعين سنة التقيت مع أحد أفراد العصابة، في إسطنبول بعد الربيع السوري المحروق.
 كان جريحا ومصابا في قدمه، ومذهولا من الغدر، فالرصاص أطلق عليه ممن يفترض أنهم أهله، وليس من شبيحة النظام!
تذكرنا واقعة الحرق، فانكبَّ علي يعانقني ويعتذر ثم قبل يدي، وطلب أن أسامحه وأغفر له، فقلت له: العفو من شيم الكرام .. لك الجنة يا أبو حميد.

فكرت في شراء نظارة شمسية، ولكني أضيق بقيد حزام ساعة اليد، وخاتم الزواج، والنظارة الشمسية تلبس في الشمس، وليس في الأوقات كلها، وكان أن تدربت مثل بقية أبناء شعبي على تحويل الازدراء إلى نظرة حب وهيام، فكان من ذلك أن سورية دمرت تدميرا.
نرى شبيحة أو محسوبين، أو أقوياء يخالفون السير، أو يخرقون القانون والعادة، فنصفق لهم بجفوننا وأهدابنا، ونبتسم لهم، وكأنهم أبطال سباق رالي، وكنت أكرر في مقالاتي أنه لو طبق قانون مثل قانون حمورابي على الناس سواء بسواء لنجونا وكنا بخير. وفي الحديث الشريف " إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ .." والحال أننا أفرطنا في الفجور، فنحن كنا لا نترك الشريف السارق، أو ننظر له بازدراء، بل نرفعه ونوليه رتبا وشرفا، ونطلق عليه ألقابا طيبة مثل ذو اليد البيضاء أو الفهلوي، أو "قد حاله" .. وحلال ع الشاطر ..

نظرة الازدراء تحولت إلى غرام، وولدت منها داعش، فالضد يظهر حسنه الضد، السيف والحرق الداعشي جواب على بريد نظرات ازدراء العاشقة.
هل كان الأسد زرقاء يمامة، أم يعتقد أن رعاياه هم من الآلهة الإغريقية ميدوزا التي كانت تحول بنظرتها الإنسان إلى حجر!

بنظرات الازدراء تبنى الأوطان، وتعمر الحضارات وتسود الأمم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق