الاثنين، 18 مارس 2013

تفكيك فيلم اغتيال ابن لادن "زيرو دارك ثيرتي"‎ 2/2


تفكيك فيلم اغتيال ابن لادن "زيرو دارك ثيرتي"‎ 2/2

2013-3-17 | د. حمد العيسى
ترجمة وتقديم:  د. حمد العيسى / كاتب ومترجم عربي
(2)
وبمثل القلق الذي يسببه تصوير «زيرو دارك ثيرتي» لدور التعذيب في مطاردة ابن لادن، هناك قلق ناتج مما لا يصوره الفيلم حول الأمر نفسه.
السجل الذي لدينا عن برنامج «سي آي إيه» للاستجواب قد يكون ضئيلاً، ولكنه يروي قصة أكمل عن الفيلم.
على سبيل المثال، في بعض «المواقع السوداء» حيث قام محققو الـ «سي آي إيه» باستجواب السجناء وتعذيبهم، كان هناك عملاء من مكتب التحقيقات الفدرالي «إف بي آي» حاضرين أيضاً.
ولأن هؤلاء العملاء تم تدريبهم لإجراء استجوابات قانونية (أي من دون تعذيب) يمكنها أن تتحمل التدقيق والتحدي القانوني في المحاكم الأمريكية، ولأن تقاليد التدريب في جهاز «إف بي آي» مبنية على تقاليد الشرطة، وليس مكافحة الإرهاب أو الحرب، فقد اعترض بشدة بعض عملاء «إف بي آي» في المواقع السوداء على أساليب «سي آي إيه» العنيفة المسماة بـ «تقنيات الاستجواب المطورة». لقد شجبوا ونددوا بأساليب الاستجواب تلك لأنها تؤدي إلى نتائج عكسية، ولأنها غير أخلاقية.
ليس هناك أي سر حول هذه السلسلة من المعارضة داخل الحكومة حول برنامج «سي آي إيه» للاستجواب.
ولم يعرب عملاء «إف بي آي» عن قلقهم فحسب، ولكن فعل ذلك أيضاً بعض ضباط «سي آي إيه» بخاصة حول أسلوبي «الإيهام بالغرق» و«الحرمان من النوم» الوحشيين، كما وصفهما بالتفصيل محقق مكتب التحقيقات الفدرالي السابق علي صوفان في كتابه الصادر في عام 2011، المعنون «الرايات السود: قصة هجمات 11 سبتمبر من الداخل والحرب ضد القاعدة».
صوفان يتذكر حديثه بأسى مع ضابط «سي آي إيه» حول استخدام «تقنيات الاستجواب المطورة» والذي قال له: «هناك اتفاقيات جنيف بشأن منع التعذيب. الأمر لا يستحق خسارة ضميري». صوفان يصف أيضاً مجادلة بينه وبين محقق «سي آي إيه» حول ما إذا كان التعذيب يمكن أن يؤدي إلى معلومات موثوقة من المنظرين الإسلاميين الصلبين؟
وعندما تباهى المحقق بأنه يستطيع أن يروض أي سجين من القاعدة ويجعله «مطيعاً تماماً»، أجاب صوفان: «هذه الأساليب لا تعمل مع المعتقلين الملتزمين بالموت من أجل قضيتهم.. مثل هؤلاء الناس مستعدون لتحمل التعذيب والضرب المبرح. إنهم يتوقعون أن يفتعل بهم اللواط وأن يغتصب بعض أفراد أسرهم أمامهم! هل تعتقد حقاً أن تجريده من ملابسه وأخذ كرسيه سيجعله يتعاون؟».
وبالطبع، لا شيء من هذا النوع من الجدل الإيجابي «ضد التعذيب» متاح لمشاهدي فيلم «زيرو دارك ثيرتي»، لأن هذا الرأي المعارض بقوة للتعذيب (وهو رأي حقيقي وقد حدث بالفعل) يمكن أن يقوض تماماً الدراما والإثارة المبتغاة من الفيلم.
التعبيرات الوحيدة عن الندم ووخز الضمير بشأن التعذيب التي صدرت عن شخصيات «سي آي إيه» في الفيلم، كانت غامضة ولحماية الذات.
المحقق دان (أدى دوره الممثل جيسون كلارك)، يرثي لحاله بتبرم عندما عاد إلى مركز الـ «سي آي إيه» في أمريكا، لأنه «فقط» شاهد العديد من الرجال العراة، ولأنه يخشى أن تتغير البيئة السياسية في واشنطن التي هيأت له حالة متساهلة ليمارس طقوسه السوداء في التعذيب وتتبدل لتنقلب ضده.
كسينما، مشاهد التعذيب في الفيلم كانت عنيفة ومثيرة في الوقت نفسه. وكان من الواضح أن إذلال عمار يقصد به عمل صدمة لإثارة المشاهد. ولكن سوء معاملته كانت بالكاد أكثر قسوة من ما يتم عرضه بشكل روتيني على الشاشة التلفزيونية لبرامج مثل (هوم لاند) أو (24).
يتم تجريد عمار من ملابسه ليصبح عارياً، ولكننا نراه فقط من الخلف. ثم نسمع مايا ودان يقولان عند نقطة ما إن عمار فقد السيطرة على أمعائه، ولكننا لا نرى شيئاً من هذا الإذلال مباشرة.
مشاهد التعذيب في الفيلم تختلف عن ما هو معروف وموثق في ناحيتين. لقد خلط بوال وبيغلو بين علوم الاستجواب التابعة لـ«سي آي إيه» المسماة بـ «تقنيات الاستجواب المطورة» مثل أسلوب «الإيهام بالغرق» مع الأساليب البهيمية المنفلتة للتحقير في أماكن مثل «أبو غريب» و«غوانتانامو».
"دان" يضع طوق كلب في رقبة عمار ثم يسحبه وراءه في غرفة التعذيب في عمل من أعمال الإذلال والتحقير، ولكن هذا الأسلوب المعيب والأهوج ليس ضمن أساليب «سي آي إيه» المعتمدة (رسمياً).
والأهم من ذلك هو أن «زيرو دارك ثيرتي»، يتجاهل كل ما هو موثق عن الكيفية التي أصبح فيها التعذيب «عادياً» وروتينياً في بعض المواقع السوداء؟
ويشير تقرير أعده جون ل. هيلغيرسون، المفتش العام السابق لـ«سي آي إيه»، ورفعت عنه السرية جزئياً، إلى أن الأطباء من قسم الخدمات الطبية في «سي آي إيه» حضروا جلسات تحقيق وأخذوا العلامات الحيوية للسجناء للتأكد أنهم كانوا بصحة جيدة بما يكفي لمتابعة التعذيب!!!!
وكتب ضباط «سي آي إيه» –من دون مشاعر- برقيات ومذكرات لوصف ما يجري في جلسات الاستجواب «المطورة» تلك. وسُجلت أشرطة فيديو ورُقّمت.
وربما كان تصوير روتين الـ «سي آي إيه» البيروقراطي للتعذيب على الشاشة هذا سيشكل صدمة أكثر من صدمة الكليشة المعتادة للتعذيب ( مثل أسلوب «الإيهام بالغرق») التي يفضلها صنّاع الفيلم.
«زيرو دارك ثيرتي»، يفشل في نهاية المطاف كصحافة لأنه يتبنى اختصارات (في الرواية لتجاوز الإحراج) سيجدها معظم الصحافيين غير مهنية.
ومنذ فضيحة الصحافية "جانيت كوك"، في صحيفة واشنطن بوست (التي اختلقت قصة صحافية مؤثرة) فصاعداً، حذر المحررون وأساتذة الصحافة من مخاطر استعمال شخصية «مركبة» يمكنها أن تشابه أناساً حقيقيين.
مثل هذه الشخصيات المركبة (التي يوجد فيها خصائص أكثر من شخص) قد توفر إمكانية مقبولة لعمل أدبي، ولكنها أيضاً تزوير. «زيرو دارك ثيرتي» يعزز هذا الرأي.
كاتب السيناريو بوال قال لـ"نيويورك تايمز"، إن عمار الذي كان أكثر شخصية من تنظيم القاعدة وضوحاً في الفيلم، كان في الحقيقة شخصية مركبة وسماتها مشتقة من عدد من معتقلي القاعدة في المواقع السوداء.
ولكن الفيلم يحتوي على تفاصيل تشير إلى معتقل حقيقي في قبضة الـ «سي آي إيه» هو علي عبد العزيز علي، وهو الاسم الحركي لـ عمار البلوشي. علي الحقيقي عمره 35 عاماً وهو ابن أخ/أخت خالد شيخ محمد، العقل المدبر لهجمات 11 سبتمبر بحسب اعترافه شخصياً.
لقد أُلقي القبض عليه في باكستان عام 2003، ووضع في سجون سرية تابعة لـ«سي آي إيه» حتى تم نقله إلى غوانتانامو في عام 2006، حيث يواجه الآن تهماً كبرى عقوبتها الإعدام أمام محكمة عسكرية. لقد اتهم بإرسال، بحسب تعليمات عمه/خاله، مبلغ 200,000 دولار إلى الخاطفين وتوفير دعم لوجيستي إضافي لهم. عمار المركب في «زيرو دارك ثيرتي» يوصف بأنه ابن أخ/أخت خالد شيخ محمد ومقرب منه، والذي وجدت بصماته على أموال عملية 11 سبتمبر.
ويصور الفيلم عمار كرجل منكوب وبائس وسوف ينفق ما بقي من حياته كلها وراء القضبان من دون اللجوء إلى المحامين أو العدالة؛ في مشهد للاستجواب عند بداية الفيلم، تزيح مايا قناعها الأسود قبل الدخول لمواجهة السجين عمار بعد أن أكد لها زميلها المحقق دان، أن عمار لن يصبح حراً مطلقاً لينتقم منها. ثم تدعونا المخرجة بيغلو لكي نقدر ونعجب بقهر وتحقير عمار في وصلة تعذيب ينفذها كل من مايا ودان.
حقيقة علي ربما كانت أكثر إثارة للاهتمام. لقد كان فاعلاً ومشاركاً ومتحدياً أثناء المحاكمة العسكرية في غوانتانامو، وسعى محاموه إلى الحصول على إذن من القضاة العسكريين لتقديم أدلة في دفاعه تثبت أنه تعرض للتعذيب أثناء وجوده في سجون «سي آي إيه»، وأيضاً طلبوا إذناً للبحث عن هويات ضباط المخابرات الذين استجوبوه وعذبوه.
لقد تم رفض الطلب على أساس أن ما حدث لـ علي أثناء وجوده في سجون «سي آي إيه» يصنف بأنه «سري» وقد يضر بالأمن القومي.
تصوير «زيرو دارك ثيرتي» غير المباشر لتعذيب وتحقير "علي" قد يكون الرواية الحقيقية الوحيدة لحال السجين التي ستعرف قبل الحكم عليه بالإعدام. ولكن على الرغم من هذا، «زيرو دارك ثيرتي» لا يفعل شيئاً ليعترف بهذا الواقع.
لقد صمم «زيرو دارك ثيرتي» لإثارة وشد أعصاب المشاهدين وجعلهم يجلسون على حواف مقاعدهم ويقفون على أطراف أصابع أرجلهم. ومن خلال ردود الفعل الأولى، يبدو أن الفيلم نجح كثيراً بهذا الصدد. عيوبه من حيث كونه عملاً صحافياً مهمة لأنها قد تؤثر أيضاً في النقاش العام الذي لم يحسم حول التعذيب، والذي كانت مساهمة الفيلم فيه مشوهة.
في اليوم الثاني بعد بداية ولايته الأولى، أصدر الرئيس أوباما أمراً تنفيذياً حظر بموجبه التعذيب، لكنه رفض أن يأمر بتحقيقات علنية لكشف أو محاسبة نظام «سي آي إيه» للاعتقال والاستجواب خلال سنوات بوش.
وفي الحملة الانتخابية التي اختتمت مؤخراً، أعلن المرشح الجمهوري مت رومني، أنه سيعيد استخدام «تقنيات الاستجواب المطورة». التعذيب الرسمي ليس مبغوضاً في معظم أنحاء الولايات المتحدة بل هو خيار ذي صدقية.
وفي استطلاعات الرأي العام، هناك غالبية بسيطة من الأميركيين تعارض تعذيب السجناء حتى أثناء الكفاح ضد الإرهاب، ولكن الدعم الشعبي للتعذيب قد ارتفع بشكل ملحوظ خلال السنوات القليلة الماضية، وهو التغير الذي أرجعته الباحثة في قضايا الجاسوسية والأمن الوطني آمي زيغارت من جامعة ستانفورد، إلى تأثير ما أسمته: «الجاسوسية في وسائل الترفيه».
حتى لو نجح التعذيب، فإنه لا يمكن تبريره مطلقاً لأنه غير أخلاقي.
ولكن التعذيب الذي تقره الدولة، وتنظم أشكاله يتكرر حتى في الديمقراطيات المتقدمة، لأن هناك دائماً بعض الزعماء المستعدين لربط هيبتهم بالحجة القائلة إنه في ظروف الطوارئ الوطنية، فإن التعذيب قد يكون ضرورياً لأنه سيستخرج المعلومات الحرجة في الوقت المناسب للمحافظة على السلامة العامة، بينما الأساليب الأكثر إنسانية ستفشل.
ولكن لا يوجد دليل تجريبي لدعم هذه الحجة؛ فمن بين أمور أخرى، لن نجد عالم اجتماع كفء ومسؤول سيوافق على عمل اختبارات لمقارنة نتائج الاستجواب بالتعذيب من تلك الأساليب الأقل قسرية.
ولذلك يجادل المدافعون عن التعذيب في الولايات المتحدة عبر تقديم قياس منطقي معيب: «سي آي إيه» عذبت المشتبه بهم؛ وهؤلاء المشتبه بهم قدموا معلومات ساعدت على حماية الجمهور؛ وبالتالي، كان التعذيب مبرراً وضرورياً.
في بيانه الأخير لموظفي «سي آي إيه» عن «زيرو دارك ثيرتي»، أعطى القائم بأعمال مدير الوكالة موريل دعماً ضمنياً لهذه الحجة عندما قال إن النقاش الدائر بشأن معاملة «سي آي إيه» للمشتبه بهم من تنظيم القاعدة بعد عام 2002 «لن يتم حله بصورة نهائية».
إن هذا تكرار ممل، بل هو أيضاً لدليل على فشل سياسي عريض، كما هو الحال مع الخطاب حول سياسة تغير المناخ، فإن الإصرار حول فائدة التعذيب الرسمي يمثل انتصاراً لأولئك الذين يبررون مثل هذه الممارسات المسيئة للبشر.
لم يقدم «زيرو دارك ثيرتي» خدمة عامة من خلال توسيع قبول هذا الشكل من النقاش. (انتهى).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق