استعداد الشقيق لقتل شقيقه جزء من المأساة السورية |
|
قلة من المعارضين والساسة والثوار السوريين كانوا يتصورون او يتوقعون،
ان تبقى بلادهم الثائرة، معلقة على منصة التعذيب والقتل كل هذه الفترة. وحتى عندما أوغل النظام في القتل والتدمير واغتصاب الأحياء السكنية وحرق تاريخ المدن، راود الكثير من السوريين ومؤيدي ثورتهم، ألا يقف العالم، وبخاصة قواه العظمى، متفرجا على كل هذه المذابح والتصفيات، وان تنعقد المؤتمرات واللقاءات دون ظهور اي امل بالخلاص.
«ما هو قائم في سورية من نظام سلطة منذ عقود»، يقول الرئيس السابق للمجلس الوطني السوري د. برهان غليون، «ليس له علاقة بالسياسة او حتى بالدكتاتورية المعروفة، ولا بالحكم البوليسي ولا حتى الفاشي».
ما عسى ان يكون هذا النظام إذن؟
يقول مكملاً تحليله، «انه مشروع اغتيال سياسي منظم لشعب، هدفه الغاؤه من الوجود كشعب، وتحويله الى قطيع غير قادر على الاهتداء بنفسه ولا يعيش الا باتباع جلاده وتقبيل يديه»! الاسوأ من هذا، ان مثل هذا النظام يتصرف اليوم بخوف وعصبية.
فالنظام السوري، يضيف د. غليون، «يدرك اليوم اكثر من اي وقت مضى كم هو ضيق هامش مناورته السياسية والعسكرية، ويقاتل وظهره الى الجدار، ويقامر على قاعدة الكل او لا شيء. ولذلك لم تنفع التطمينات التي قدمتها المعارضة لأصحابه، لأنها تعني بالضبط تجريده من سلاح الترويع الشامل والمجنون الذي كان السبب الوحيد في بقائه حتى الآن». (الشرق الأوسط، 2013/2/20).
كيف يغطي المجتمع الدولي وجهه؟ وخلف اية حواجز يختفي؟ وكيف يمكن لشعب مدني في الحواضر والأرياف السورية ان يجابه قنابل الطائرات وقذائف الدبابات.. وصواريخ سكود؟!
ولا يعلم احد ما الاسلحة الاخرى التي ستستخدم ضد الشعب السوري في المراحل القادمة من الصراع ان استمر.
من الحجج التي تروج لتبرير عدم الحزم الدولي، وصف ما يجري في سورية على انه «حرب اهلية» لا «ثورة شعبية ضد نظام استبدادي»، ثورة متواصلة قدم الشعب السوري خلالها، يقول رضوان زيادة، مدير المركز السوري للدراسات بواشنطن، اكثر من سبعين الف انسان ما بين 1980 - 2000، وفي اقل من عامين «بلغ عدد الضحايا في سورية اكثر من 60 الفا، اكثر من %90 منهم من المدنيين».
وتقول احصائيات مجلس الامن الدولي «ان عدد الضحايا ارتفع من الف شهريا مع بداية الثورة الى خمسة آلاف شهريا بسبب استخدام النظام السوري المكثف لسلاح الطيران والاسلحة الثقيلة كراجمات الصواريخ والقنابل الفراغية والعنقودية». (الحياة، 2013/2/20).
الخروج من جحيم النار والصواريخ بالنزوح، وترك البيت والبلد، اما ما بقي منهما، بات مصير آلاف السوريين. وبحسب مفوضية اللاجئين، فان عدد النازحين الذين تركوا سورية يقترب من المليون.
هؤلاء ارغموا على الهرب من وطنهم بعد ان تحولت احياؤهم، التي كانت هادئة وآمنة في الماضي، الى ساحات للقتل. ولكن حياتهم في مناطق النزوح ودوله باتت جحيما. و«يعاني هؤلاء صدمة انتزاعهم من اراضيهم وابتعادهم عن اناس يمنحونهم احساس العيش في مجتمع، كذلك رأوا احباءهم يقتلون، واضطروا الى الهرب حاملين معهم الحد الادنى من ممتلكاتهم، وجارين وراءهم اولادهم الخائفين الى مدن خيام اقيمت في الدول المجاورة».
حياة هؤلاء النازحين قاسية جدا كما هو معروف ومتوقع. كما ان الاستياء او التنافس على الحاجيات الاساسية يدفعان بعض اللاجئين الى اعمال شغب عنيفة.
الاسوأ من كل هذا على الصعيد النفسي، «ان قلة من هؤلاء السوريين المحتجزين في هذه الدوامة القاتلة يأملون حقا بالعودة الى وطنهم قريبا. وهم يدركون ان ما سيرجعون اليه لن يشبه البتة ما يتذكرون عن الوطن. فقد خلفت الحرب دماراً مهولاً. (الجريدة، 2013/1/23).
يتوزع النازحون السوريون على دول الجوار، ولكل دولة من هذه مخاوفها من النازحين وحساباتها السياسية والاقتصادية.
فالاتراك تقلقهم المشكلة الكردية وبخاصة ان بين السوريين نسبة كبيرة من الاكراد داخل سورية وبين النازحين الى شمال العراق.
وللأردن مخاوفها المعروفة من التوازنات الداخلية وثقل الاسلاميين والتزامات الدولة الاقتصادية، وحتى في لبنان، حيث يسهل اندماج السوريين، يعانون من مشاكل، بما في ذلك ما يحاول ان يجد له عملاً كي لا يكون عالة على الآخرين، وكي يسترد شيئاً من نبض البقاء على قيد الحياة الطبيعية!
وقد تخطى عدد النازحين السوريين في لبنان الـ 265 ألف نازح، بحسب مفوضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين، ويشتكي هؤلاء، كما يقول تقرير، «من استغلالهم في لبنان برواتب زهيدة».
وحتى من لا يتم استغلاله يتحول الى احدى ضحايا غول التضخم وارتفاع الاسعار.
من هؤلاء مثلا «سليمان»، 40 عاماً، مدير سابق لميني ماركت في سورية. فهو يتقاضى 500 دولار امريكي في لبنان، راتبه بدل ايجار منزل، فيما يخصص الباقي لدفع بدل تنقلاته من منطقة الاوزاعي الى الحمراء ذهاباً واياباً.
والقى ولده الوحيد المصاب بمرض التوحد من غير دواء ولا عناية، «لانني عاجز عن توفير دوائه، وعن وضعه في مدرسة متخصصة نظراً لان تكلفتها، كما ابلغتني احداها، تصل الى عشرة الاف دولار. (الشرق الاوسط 2013/2/13)
وينسحب واقع سليمان، تضيف الصحيفة، على عدد كبير من النازحين السوريين الذي اكتسحوا سوق العمل اللبناني منذ اربعة شهور، «حيث يعمل هؤلاء في ميادين صناعية وتجارية بسيطة، مقابل اجر زهيد يعادل نصف ما يتقاضاه اللبناني في المكان نفسه، فوجدوا وظائف في مواقع سياحية وتجارية كبيرة. ويبحث معظم افراد الاسر النازحة من سورية عن عمل في لبنان، حتى لو كان بسيطاً ولا تكفي اجرته لتناول الطعام.
ففي احد المخابز في لبنان، ثم توظـيف مايزيد على 15 فتاة سورية لبيع الخبز والحلويات في الصالة، مقابل راتب لا يتعدى الـ 260 دولاراً شهرياً.
وتتكرر الصورة في متاجر بيع الملابس، وفي المطاعم ومراكز التسوق في لبنان.
اما سائقو حافلات الركاب الصغيرة، فباتوا يستعينون بسائقين سوريين، يتقاضون بدلاً يومياً يصل الى 25 الف ليرة لبنانية (17 دولاراً) مقابل العمل 12 ساعة على الخطوط التي تربط بيروت بالضواحي».
الحياة داخل سورية لا تطاق.
مكبات النفايات التي تطوق المدينة، وتتكدس عند نواحي الشوارع فيها،
يقول تقرير اخر عن مدينة «حلب الشهباء»، «تنفث ابخرة كريهة وذباباً وامراضاً». المشهد في المدينة اكثر تناقضاً وقسوة منه في الريف، المدينة هجرها الموظفون، ودخلها العسكر وتركت تواجه مصيرها منفردة.
ورغم مساهمة كبار تجار المدينة وصناعييها في دعم الثورة بالمال والمؤن والمساعدات منذ البداية، الا انهم نأوا بانفسهم وباحيائهم عن الانخراط المباشر فيها.
والكثيرون خائفون من انتكاس المعارضة السورية، ووقوع مجازر ضد مؤيديها.
فهؤلاء السوريون، «دفعوا ثمناً باهظاً في الثمانينات من القرن العشرين حيث ارتكب حافظ الاسد مجازر في المدينة لترويع اهلها في سياق حملته الدموية الشرسة على جماعة «الاخوان المسلمين».
ولا يزال جيل كامل يذكر كيف تم تجميع الاهالي في بستان القصر والمشيرفة وغيرهما واطلقت عليهم النار وسحلت جثثهم في الساحات العامة.
ذلك جرح لم يندمل بعد في المخيلة الجماعية لاهل حلب، ساهم في تحريكه الخوف من احتمال فشل الجيش الحر في صد الجيش النظامي». (الحياة 2013/2/17).
ويشعر السكان بخطورة الاوضاع وتدهور الامن على كل صعيد.
فقد تمسكرت المدينة واستولى الريفيون على مفاصلها. ولا يود الحلبيون النظام المتسلط ولكنهم كذلك لا يأتمنون المسلحين الوافدين على مستقبلهم وارزاقهم. وعلى الرغم من محاولات الجيش الحر لضبط الامور، تضيف الحياة، «الا ان مصادرة الاملاك والشقق والمعامل والسيارات باتت امرا اعتياديا، حتى تحولت المدينة الصناعية مدينة اشباح، فيما ازدهرت اعمال القادة الميدانيين في مجالات تجارة التصدير والاستيراد، وبيع وشراء
السيارات المسروقة والمهربة من بلغاريا عبر تركيا.
كما وضعت هذه القيادات نفسها يدها على المواسم الزراعية، فبيع موسم القطن مثلا بأسعار بخسة
بحجة شراء السلاح والذخيرة، وانتعشت سوق السلاح القادم من العراق وليبيا. ويتداول السوريون في
دمشق قصة اخوين كان احدهما متطوعا في الجيش ثم انشق بعد رفضه اطلاق النار على المتظاهرين
الذين خرجوا مطالبين بالحرية، وانضم الى كتائب الجيش الحر جنوبي درعا، فيما يعمل الأخ الثاني في
الاستخبارات الجوية في نفس المدينة وهكذا اصبح كل أخ منهما مع طرف مضاد، وعلى استعداد لقتل اخيه.
أبو حسام، 42 سنة، مؤسس جماعة مسلحة. في كل عملية ينفذها يتذكر ان له أخا في الجيش
النظامي: «الصراع هو صراع بين الحق والباطل، اعلم انه قد يأتي يوم أقف فيه أنا وأخي ضد بعضنا
بعضاً في طرفي الحرب، هو اختار وانا اخترت، واذا كان هو على باطل فيجب ان احاربه ليتبين
الرشد». «وليد» المنتسب الى الحزب الشيوعي السوري مازال يؤيد النظام ويدافع عنه ويدافع كذلك
عن موقفه: «في حال سقط النظام يعني وصول الاسلاميين الى سدة الحكم، يعني مصر ثانية،
وستحكمنا الشريعة الاسلامية وجبهة النصرة والتيار السلفي التكفيري».
عائلة «الخياط» دمشقية محافظة. السيدة «أم أياد»، 60 سنة، ربة منزل. زوج أم اياد اعتقل مرتين
لموقفه الداعم للثورة، وثلاثة من ابنائها مطلوبون لنشاطهم الداعم للجيش الحر، وابن آخر قاطعه
اخوته لتبنيه موقفا مخالفا لموقفهم، واصغر الابناء مازال عسكريا يخدم في الجيش النظامي. تقول ام
اياد: «هذا ابني والثاني ابني، كل منهما بمكان مختلف، نعيش كل ايامنا في الخوف. اولادي مطلوبون
والذي يخدم في الجيش قلبي محروق عليه. طلبنا منه ان ينشق ويلتحق بأخوته لكنه رفض، وهو
مقتنع، وابني الثالث غاضب على اخوته لأنه يؤيد حكامنا».
الانقسام، تضيف مقالة الحياة، امتد ليشمل الاقرباء. عمٌّ مع الثورة وآخر مع النظام. ابن الاخت يعارض
ويدعم الحراك الشعبي والخال يدافع عن شرعية النظام. أم اياد تنهمر دموعها لخلافها مع أخيها:
«أخي زعلان وما بيحكي معي صار له حوالي سنة ونص ما دخل دارنا، وهو معادي اولادي».
«سلمى» المتزوجة حديثا لم تهنأ بزواجها. فبعد اقل من عام تم اعتقال زوجها وائل لدعمه نشاط
الثوار.
والدها قرر مقاطعتها وعدم الترحيب بها في العائلة. «بعد استشهاد علي، شقيقها الاصغر، قرر الأب
مقاطعتها وتحميلها هي وزوجها مسؤولية وفاته كونهما يؤيدان الثورة. الأب رفض حتى مشاركة
سلمى في العزاء ومنعها من الدخول الى المنزل بعد مقتل اخيها في احدى المناطق الساخنة التي تدور
فيها اشتباكات بين القوات الموالية للنظام وكتائب الجيش الحر». (2013/2/8).
هذه مجرد جوانب من المأساة السورية.. قليلاً ما يتحدث عنها الاعلام!
خليل علي حيدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق