أقنعة بشار الخمسة
شريف عبد العزيز
فقرة من تاريخ الخداع
في سنة 1909 كانت مخططات الماسونية العالمية ممثلة في حركة الاتحاد والترقي العثمانية ، والصهيونية الأوروبية للإطاحة بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني ، آخر الخلفاء الأقوياء في الدولة العثمانية ، والصخرة الكئود أمام مشاريع توطين اليهود في فلسطين ، قد بلغت مرحلتها النهائية ولم يبق سوى إخراج سيناريو الإطاحة ، وعلى الرغم من أن حركة الاتحاد والترقي كانت حركة علمانية ماسونية ، تعادي الإسلام وتحاربه ، إلا أنها قررت أن تستغل الدين عند مخاطبة الناس ، وتوظفه للتأثير فيهم وإقناعهم بالإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني ، فكانت تصّدر بياناتها بصيغة إيمانية مثل : " أيها المسلمون : كفانا أن نقوم بدور المتفرج على سلطان جبار ، عديم الإيمان ، يسحق القرآن تحت أقدامه " ، " استيقظوا يا أمة محمد " ، " انهض أيها المسلم الموحد ، وانقذ دينك وإيمانك من يد الظالمين " إلى آخر هذه الشعارات الحماسية البراقة التي استقطبت كثيرا من الشباب العثماني المتحمس .
ولما بلغ السيل الربى ، ونضج المخطط تماما ، تم تدبير أحداث عنف واسعة في 31 مارس في إسطنبول ، بتخطيط من يهود أوروبا ، وراح ضحيتها كثير من العسكر المنتمين لحركة الاتحاد والترقي ، وتحركت قوات الاتحاد والترقي لمحاصرة قصر الخليفة عبد الحميد ، وتم توجيه عدة تهم للسلطان العظيم تتماشى مع روح التسخين والتحريض ضده ، إذ اتهموه بحرق المصاحف ! ، والإسراف ! ، والظلم وسفك الدماء ! ، ولمزيد من الخداع وإضفاء الشرعية الكاذبة على جريمتهم الشيطانية ، تم الضغط على مفتي الدولة العثمانية الشيخ محمد ضياء الدين أفندي ، من أجل إصدار فتوى الإطاحة ، وبالفعل صدرت الفتوى في 27 أبريل 1909 بوجوب عزل السلطان عبد الحميد بسبب ظلمه وفساده و تبذيره لمال المسلمين ومعاداته للنصوص الشرعية ! .
واليوم تكرر نفس فصول الملهاة على أرض سوريا المجاهدة الزكية ، فالسفاح بشار الأسد السائر على درب أبيه في الطغيان والاستبداد ، قرر في لحظة بائسة أن يلجأ إلى الدين الذي قضى عمره كله في محاربته ، كما كان أبوه ، وبعد أن تقطعت به السبل ، ففي ازدواجية عجيبة لا يوجد مثلها إلا عند من هم على دينهم من الرافضة والشيعة ، يدلي السفاح بحوار بائس مع جريدة إنجليزية قبل أيام ، يصف فيه نفسه : بأنه حامي العلمانية ، ومعقلها الأخير في المنطقة ، بعد أن استولت الأنظمة المتشددة على الحكم دول الربيع العربي ، وهو بذلك يلمع نفسه ، ويستجدي التعاطف الغربي المتخوف من الصعود الإسلامي بعد الثورات العربية ، ويلعب لعبة تخويف وتفزيع من مستقبل سوريا حال رحيله عنها بهذه الصورة الثورية ، وإذ به بعد وصلة المديح والعويل على مستقبل العلمانية في الشرق الأوسط بعد اختفائه الحتمي ، يقوم بتوجيه أوامره لنكبة الإسلام في بلده الملقب بالمفتي ؛ بدر الدين أحمد حسون من أجل استصدار فتوى من الطراز القاعدي الجهادي الصميم ، بوجوب الجهاد على كل مسلم في العالم من أجل نصرة بشار الأسد ضد أعدائه وخصومه ، وذلك في أعقاب امتناع الطائفة العلوية عن إرسال أبنائها لقتال في جيش بشار ضد الثورة ، حتى إن أهالي منطقة القرداحة مسقط رأس عائلة الأسد نفسه ، رفضت إرسال أبنائها للقتال ، ودخلت في صدام عنيف ضد الشرطة العسكرية التي جاءت لضبط 2500 من المتخلفين عن التجنيد ، ووصل الأمر لاستدعاء قوات إضافية ، وتدخل المجلس الأعلى للطائفة العلوية في الأزمة ، وانتهت برفض انضمام الشباب العلوي للقتال ، والاكتفاء بما قدموه من قبل .
هذه الازدواجية ليست جديدة على نظام اعتاد أن يرتدي أقنعة عديدة يخدع بها الداخل والخارج ، العرب والغرب ، والمسلمون وغير المسلمين ، فهو نظام قد احترف الكذب والتضليل والخداع ، في كل مناسبة يرتدي القناع اللازم الذي يناسب طبيعة المرحلة ، فلبشار كما كان لأبيه أقنعة خمسة ، يتبادل ارتداءها حسب الأحوال والمناسبات والظروف ، قناع العروبة ، الإسلام ، العلمانية ، القومية ، الممانعة .
ففي الستينيات ارتدى النظام قناع العروبة والدفاع عن قضاياها وهويتها ، وصال النظام وجال باسم العروبة ، ومع أول اختبار للسفاح الأب حافظ الأسد ، في الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات ، دخل في حلف مع إيران الفارسية ، ضد العراق العربية ، وقدم مساعدات ضخمة للنظام الخوميني ، ليؤكد على زوره وكذبه وخداعه للعرب والعروبة ، وجاء بشار من بعد أبيه الهالك ليؤكد على كذب دعاوى العروبة ، فارتمى بالكلية على العتبات الإيرانية ، وصار لا يأتمر إلا من سادته في طهران وقم ومشهد .
أيضا ارتدى النظام قناع القومية ، ودعا لتجاوز الخلافات الطائفية والعرقية ، وأعلن أنه حامي الأقليات غير المسلمة ، فإذا بهذه الثورة تكشف عن طائفية ضيقة شديدة الدموية والوحشية ، وأخذ يمزق في أوصال سوريا ولبنان ، ويهيئ الأجواء والمنطقة لدويلة طائفية علوية في الشمال ، وحرب تأكل الأخضر واليابس في المنطقة بأسرها ، ونسي ما كان يدعو إليه من قبل من قومية تجمعنا ، وقطرية تشملنا ، ووحدة ما يغلبها غلاّب ، إلى آخر هذه الشعارات الاستهلاكية باسم قناع القومية .
أيضا ارتدى النظام الأسدي قناع الإسلام ، وقت الاحتياج إليه ، فزار المشاهد ، وحضر الصلوات ، دخل المساجد ، وشهد المناسبات ، على خوف واستغفال للمسلمين ، واستصدر الفتاوى الجهادية ، لتجميل وجه جرائمه القبيح . ثم إذا به لا يعرف عن الإسلام شيئا ، نصيري حتى النخاع ، يستحل الدماء والأعراض والحرمات ، ويخوف الغرب من حكم الإسلام ، ويستعدى الخارج ضد أي مطالب بحكم إسلامي رشيد ، ويصف نفسه بحامي العلمانية ومعقلها الأخير ، والمدافع عن حقوق الأقليات ، والذي سيؤدي سقوطه لقدوم حكم متشدد يقصي العلمانية ، ويحكم باسم الإسلام .
وأخيرا ارتدى النظام قناع الممانعة والمقاومة للصهاينة والأمريكان في المنطقة ، وحامل لواء الدفاع عن الأمة العربية والإسلامية ، وأنه معقل الثوار الأحرار ، وموطن الشرفاء والمجاهدين ، ثم اتضح أنها ممانعة خطابية ، ومقاومة صوتية ، في بلد الميكروفونات الأول في المنطقة ، فلم يطلق رصاصة واحدة على الجولان الأسيرة بيد الصهاينة ، في الوقت الذي تدخل في الشأن اللبناني لسنين طويلة حتى أفسدها وأفسدها المنطقة من حولها ، وأطلق رصاصاته في كل اتجاه لتدعيم نفوذه ونفوذ إيران في المنطقة ، ولخدماته الجليلة كحارس أمين للبوابات الشرقية والشمالية للصهاينة ، ظل النظام الأسدي يحظى بدعم الغرب وتأييده ، وهو ما ظهر جليا في الثورة السورية ، فلم يقدم الغرب حتى الآن على خطوة فعلية على طريق حل الأزمة أو الضغط على بشار الأسد لحلها ، ناهيك عن الدور الذي يقوم به الجيش الصهيوني في قطع طرق الإمدادات على الثوار ، وقصف مواقعهم بالطائرات والسلاح الثقيل ، ليتأكد الجميع في أي الصفوف يقف الغرب وأمريكا وإسرائيل في هذه الثورة .
فتوى الجهاد الأخيرة أسقطت كل الأقنعة ، ليس عن بشار الأسد فحسب ، ولكن عن العالم الخارجي وما يسمى بالنظام الدولي ، والضمير الإنساني ، فلم يكن لهم أي رد فعل يناسب علمانيتهم وأفكارهم الإنسانية الكاذبة ، فلم يتهم الغرب بشار الأسد بالطائفية أو الإقصائية أو الإرهاب إلى آخر هذه الاتهامات التي كانت ستوجه على الفور للثوار إذا أصدروا مثل هذه الفتوى القوية ، ليبقى في النهاية الحقيقة الثابتة في كل هذه الأجواء المليئة بالكذب والخداع والتضليل ، وهي قول الله عز وجل ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق