السبت، 16 مارس 2013

الموروث والعصر

الموروث والعصر



هل صحيح أن الصراع الحاصل في مصر الآن هو بين الموروث والعصر؟ استوقفتني هذه المقولة حين ترددت في الآونة الأخيرة. واعتبرتها من قبيل التشخيص المتسم بالتبسيط والتغليط، لماذا؟
لعدة أسباب أولها: أن الأزمة يتعذر اختزالها في عنصر واحد، وإنما هي حصيلة عوامل عدة بعضها داخلي والبعض الآخر خارجي؛ ذلك أن اللاعبين على المسرح السياسي هم نتاج عدة عقود من الاستبداد والإقصاء، أحدثت تشوهات عميقة في جميع القوى السياسية أفقدتها القدرة على العمل المشترك، بقدر ما حرمتها من خبرة إدارة الشأن العام، ثم إن تلك المرحلة تخللتها ارتباطات وتعهدات قدمتها القيادة المصرية السابقة للولايات المتحدة و"إسرائيل" بوجه أخص، أحسب أنها تشكل قيودا تكبل حركة أي نظام جديد يقوم في البلد؛ الأمر الذى يؤثر سلبا في مجال وكفاءة إدارته.
السبب الثاني للتبسيط أننا لا نكاد نرى في التجاذب الحاصل في مصر صراعا حول معادلة الموروث والعصر. فإذا تساءل المرء منا عن طبيعة الموروث أو العنوان العصري المختلف عليه فإنه لن يجد. وفيما خص الشريعة مثلا فإننا نجد إجماعا بين القوى المتصارعة على الأقل على القبول بالمادة الثانية في الدستور التي اعتبرت أن مبادئها تشكل المصدر الأساسي للتشريع. وحتى الخلافات القائمة حول الجمعية التأسيسية أو الدستور أو قانون الانتخابات، فإننا نراها خلافات حول أسلوب إدارة الدولة وصراعا بين التيارات السياسية بشأن التمثيل والحصص والاجتهادات في ترتيب أولويات المرحلة، ولا نكاد نجد أثرا لخلاف حول شيء من الموروث أو حول التعامل مع شيء من تحديات ومتطلبات العصر.
خطورة فكرة الصراع بين الموروث والعصر تكمن في أنها تصوغ العلاقة بينهما على أساس إقصائي وتصادمي، ولا استبعد أن تكون تلك الفكرة من أصداء القسمة المتعسفة غير البريئة التي أقامت معسكرا منفصلا حشرت فيه القوى الدينية. وفي مقابلة معسكر آخر جماعات اعتبرت نفسها قوى مدنية. وقد اعتبرتها غير بريئة لأن العنوانين يعبران في حقيقة الأمر عن الخلاف الإسلامي العلماني.

 ولأن العلمانية مصطلح سيئ السمعة ولا جماهيرية له في مصر، فإن أنصارها آثروا إخفاء الصفة بتعبير آخر أكثر قبولا وجاذبية. ووقع اختيارهم على مصطلح المدنية، وهو ما أساء إليهم من حيث لا يحتسبون؛ لأن وضعه في مقابل القوى الأخرى ظلمهم من حيث إنه اعتبرهم في حالة اشتباك وصراع مع المرجعية الإسلامية، في حين أن أغلبهم ليس كذلك.
 تماما كما أن ما سمى القوى الدينية ليست في حالة اشتباك أو خصومة مع الفكرة المدنية، إذ إن المقصود بها إدارة المجتمع من خلال مؤسسات منتخبة دونما إقصاء للبعد الديني والإيماني. ولدى مفكري الإسلام المحدثين كتابات غنية في مدنية الإسلام قدمها شكيب أرسلان ومحمد عبده والشيخان محمد الغزالي ويوسف القرضاوي والدكتور محمد طه بدوي وصولا إلى الدكتور محمد عمارة والمستشار طارق البشرى، وغيرهم كثيرون.
تحضرنا تجربة تونس في هذا السياق، فالحكم هناك قائم على تحالف حركة النهضة الإسلامية صاحبة الأغلبية في المجلس التأسيسى مع حزبين آخرين لهما تمثيلهما النسبي في المجلس، أحدهما علماني والآخر أكثر ميلا إلى اليسار، فيما سمى بـ«الترويكا»، ولم يمنعهم اختلاف الرؤى من إقامة ذلك التحالف، في حين أن هناك قوى أخرى في المعارضة ليبرالية وعلمانية ويسارية، والتجاذب بين الطرفين مستمر طوال الوقت.

 وهذا النموذج يشهد بفساد فكرة التقاطع بين الموروث والعصر أو بين الديني والمدني، بقدر ما يدلل على أن سعة الأفق وحسن الإدارة السياسية كفيلان بتحقيق التوافق بين المختلفين واجتماعهم على ضرورة الاحتشاد للدفاع عن المصالح العليا للوطن.
لست أشك في أن أخطاء إدارة الرئيس مرسي أسهمت في احتشاد القوى الليبرالية والعلمانية واليسارية ضده، لكني لست واثقا من أنه لو أحسن الإدارة سوف يحظى بقبول تلك القوى وتأييدها له، لسبب آخر لا علاقة له بالموروث أو العصر، يتلخص في أن هؤلاء الأخيرين احتكروا السلطة في مصر طوال العقود الثلاثة الأخيرة؛ الأمر الذي أخضع البلد لحكم الأقلية السياسية في تلك المرحلة.

 وحين أجريت الانتخابات الحرة خسرت تلك الأقلية موقعها، وارتفعت أسهم التيارات المعبرة عن الهوية الإسلامية، الأمر الذي أحدث انقلابا في المعادلة أثار حفيظة أحزاب الأقلية فاستشاطت غضبا، وقررت أن تخوضها حربا شرسة دفاعا عن وجودها، فكانت الأزمة التي نحن بصددها الآن،
والله أعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق