قال التاريخ عن حكم العسكر
محمد إلهامي
"لما توقفت الفتوحات, وقلَّ الغزو, وضَعُف الخلفاء, وذهبت هيبة السلطة اختلف الأمر تمامًا؛ إذ لم يعد هناك جند للجهاد, وبدأت حركات التمرد تحدث… كَثُر عدد هؤلاء الجند مع الزمن, وقوي نفوذهم؛ لأنهم أصبحوا عصا الحاكم التي يضرب بها خصومه, وأصبح مركز قادتهم عظيمًا؛ لأنهم وحدهم يستطيعون أن يوطدوا الأمن, ويُخضعوا أية قوة مهما علت, ثم غلبوا على أمر الخليفة نفسه حتى قتلوا الخليفة المتوكل على الله عام 247هـ, وأصبح الخلفاء بعدئذ ألعوبة بأيديهم يعزلون من شاءوا، ويقتلون من شاءوا، ويُمثلون بمن شاءوا..
واستمر ذلك حتى جاء البويهيون فسيطروا على السلطة كعسكريين, وكذلك أتى السلاجقة بعدهم, ولم يختلفوا عنهم من حيث الصفة, هؤلاء الجند أمرهم واحد، سواء أكانوا عربًا أم فُرْسًا أم تُرْكًا, هم عسكريون, فالأمر ليس مقتصرًا على جنس أو خاصًّا به, فالجندي الذي رُبِّيَ تربية عسكرية, وعاش مع السيف والرمح وتعامل معهما, هو غير الذي يسوس الأمور, ويدبر الشئون, يلين لشخص ويقسو على آخر, يستعمل الرحمة ويضع كل شيء في موضعه, والجندي الذي يعيش في الثكنات, ويكون على أهبة القتال في كل وقت, ويخوض غمار المعارك حسب الأوامر التي تُعطى إليه، هو غير الذي يحيا بين أهله, يخطط للمعركة من وجهة نظر سياسية, ويبحث في النتائج وما تؤدي إليه, وإن الذي يحيا حياة قاسية قد يحقد على أولئك الذين يعيشون حياة المترفين، فيعمل ضدهم ويحاول أن يسلبهم ذلك, فإذا تم له سار على ما كانوا عليه..
وهذا ما يكون من العسكريين في كل وقت, وهذا التسلط العسكري على الحكم العباسي في عصره الثاني هو الذي أضعف الدولة، لا لأن هؤلاء العسكريين ينتمون إلى شعب غير الشعب العربي كما يدعي دعاة العصبية العربية. وعندما خضعت الدولة للعسكريين, وسيطر الجند على مقدراتها بدأ أمرها يضعف, وشأنها ينحط, وهذا الأمر دائم, وقد يكتسب مع سيطرة العسكريين بعض الدعاية الخارجية, والهيبة المصطنعة, ولكنه أمر ظاهري ولا يلبث أن ينهار بعد زوال حكم الطاغية أو مع أول معركة وإن كانت صغيرة؛ لأن الشعب الذي أُذِلَّ لا يمكن أن يُقاتَل به, والفرد الذي جُوِّع لا يُمكنه أن يتحرك ويضحي بأوامر الذين جوعوه"[1].
وأكاد أجزم بأن المؤرخ محمود شاكر لم يقرأ كتاب الأيام الحاسمة وحصادها، والتي روى فيها حسن العشماوي حديثًا دار بينه وبين جمال عبد الناصر:
"جمال: إن الشعب المصري في رخاء.. وقد أثبت التاريخ لي أن هذا الشعب يثور أو يؤيد الثورات وهو في رخاء… أما إذا شغل بضيق الحال وشح الرزق انشغل عن الثورة.
حسن: أتعني أنك ستحرمه رخاء الحال؛ لتضمن بقاءه تحت سيطرتك؟
جمال: لا.. لا طبعًا… لم أقصد ذلك.. يا لك من خبيث في تحليل أقوالي" ثم يضحكان.
غير أن جمال عبد الناصر فعل ما توقعه حسن العشماوي الذي قضى بقية عمره هاربًا في قصة هروب شديدة التأثير، يمكن الاطلاع عليها في كتاب "مذكرات هارب".
وفَسَّر أستاذنا الراحل العظيم الفذ الكبير محمد جلال كشك نكسة الحضارة الإسلامية في كتابه (طريق المسلمين إلى الثورة الصناعية) "وعجزها عن إنجاز الثورة الصناعية, وقد كانت منها قاب قوسين أو أدنى في منتصف القرن الحادي عشر. فَسَّرْتُ ذلك بالحروب الصليبية والاجتياح المغولي, وقلت: إن من أخطر نتائج هذا الحدث تراجع طبقة المثقفين والتجار وتولي العسكر مقاليد الأمور في العالم الإسلامي تحت مبرر أولوية الدفاع عن الوجود, ولو على حساب الحضارة والتمدين أو التقدم.
وهكذا تجمد المجتمع, وتحول المثقف من دور المفكر المحاور المطور للمجتمع, إلى نديم أو فقيه السلطان الذي يبرر ويحلل وينظر لحكم العسكر ثم حكمتهم! وتتابع التراجع والانهيار, وحتى عندما جاءت الهبة العثمانية التي رفعت راية المسلمين على أسوار فيينا, ورغم المستوى الثقافي الرفيع الذي كان لأوائل سلاطينهم إلا أنهم بحكم الروح العسكرية التي كانت تسيطر على العالم الإسلامي كله رأوا الخطر عليهم من ظهور قيادة مدنية تركية، لا شك أنها وحدها كانت القادرة على إقامة المجتمع التجاري المنفتح, والسفر إلى أعالي البحار لمزاحمة تجار غرب أوربا في العالم الجديد، ثم إنجاز الثورة الصناعية الكبرى.
لكن سلاطين آل عثمان استمروا في الاتجاه نفسه الذي بدأه الأيوبيون, عندما فرضوا العسكر على الرعية ولم تكن الإنكشارية التي اعتمدوا عليها وسلطوها على المجتمع المدني إلا مماليك الدولة العثمانية الذين حموها بسيوفهم وإخلاصهم, ومدوا حدودها في جميع أنحاء المعمورة أو الثلاث قارات المعروفة وقتها. وفي الوقت نفسه قضوا على فرصتها في دخول العصر الحديث, ثم كانوا أعجز عن أن يخلقوا حضارة، وأقوى من أن يرغموا على قبولها!
ومن دلالات التاريخ أنه كما كانت الحروب الصليبية هي التي دفعت طبقة العسكر إلى الصدارة في المجتمع الإسلامي وما ترتب على ذلك من ضياع فرصته في العصر الرأسمالي- الصناعي, فإن الحرب نفسها أحدثت العكس تمامًا في أوربا إذ خلصت المجتمع المدني من العسكر (ذبح عسكر المسلمين فرسان أوربا, فحرروا عدوهم التاريخي!) واستعان ملوك أوربا من ثَمَّ بالمثقف والتاجر في بناء الأوطان الموحدة والمجتمع المدني, ثم حضارة العصر الصناعي أو النظام الرأسمالي الذي استخدم العسكر لبناء الإمبراطورية ولم يستخدمه العسكر"[2].
حديث التاريخ طويل, غير أن ثمة موقفين هما أقدم ما يُعرف في هذا السياق..
الأول: حين ألقى موسى عصاه فالتقمت ما ألقاه السحرة من الحبال والعصي, أُلقي السحرة ساجدين.. غير أن الجند الذين شهدوا الموقف هم الذين قاموا بتعذيب السحرة حتى الموت!
والثاني: حين انشق البحر طريقًا صلبًا بين جبلين أمام موسى, كان الضلال قد استولى على قلب فرعون، فانطلق خلف بني إسرائيل دون أن يفقه المعجزة ولا حتى أن يتردد أمامها خائفًا.. وكذلك فعل جيشه!
قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص: 8]
[1] المؤرخ السوري محمود شاكر: موسوعة التاريخ الإسلامي 5/24, 25 - متحدثًا عن سيطرة الجند الأتراك على الدولة العباسية - صدر هذا الجزء قبل عشرين سنة 1991م.
[2] الطبعة الثانية من كتاب (طريق المسلمين إلى الثورة الصناعية), وهي صادرة في عام 1974م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق