وأخيرًا فهم الخطيب
شريف عبد العزيز الزهيري
"كل ما جرى للشعب السوري من تدمير في بنيته التحتية، واعتقال عشرات الألوف من أبنائه، وتهجير مئات الألوف، والمآسي الأخرى ليس كافيًا كي يُتخذ قرار دولي بالسماح للشعب أن يدافع عن نفسه".
بهذه الكلمات الحزينة التي تقطر ألمًا وكمدًا، على صفحته الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي "الفيس بوك"، عبَّر الشيخ الخطيب عن قناعاته الشخصية، بصعوبة إن لم يكن استحالة الحل الدولي للأزمة السورية؛ لذلك فقد بادر بتقديم استقالته، كما تعهَّد بذلك في بداية استلامه للمنصب، أن يستقيل إذا وصلت الأمور إلى الخطوط الحمراء، وهو لم يكن يدري أنها قد تجاوزت تلك الخطوط منذ زمن بعيد، وقبل تشكيل الائتلاف المعارض أساسًا.
الشيخ الخطيب رجل علم ودعوة ليس في السياسة ودهاليزها ومسالكها الملتوية في شيء، فهو من بيت دعوة وعلم، فالخطابة بالأموي في بيتهم منذ سنوات طويلة، وقد استلم دوره في الخطابة منذ سنة 1990، أي وهو في الثلاثين من العمر، ودرس مادتي الدعوة الإسلامية والخطابة في معهد التهذيب والتعليم للعلوم الشرعية في دمشق. وألقى محاضرات عن الإسلام في نيجيريا والبوسنة وبريطانيا والولايات المتحدة وهولندا، وغير الدراسة الشرعية، فقد درس الجيوفيزياء وحصل على إجازة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ثم تابع دروسًا في الشرع. وانتسب إلى الجمعية السورية الجيولوجية والجمعية السورية للعلوم النفسية، وعمل لمدة ست سنوات مهندسًا بتروفيزيائيًّا في شركة الفرات للنفط، وهي شركة مختلطة تضم الشركة الوطنية السورية للنفط وشركات أجنبية، أي أن الرجل لم يشتغل بالعمل السياسي لا على الصعيد الداخلي ولا الخارجي، ومع ذلك تم اختياره رئيسًا للائتلاف الوطني المعارض الذي أشرف على تشكيله وتأسيسه الأمريكان، من أجل هدف واحد فقط لا غير، وهو السيطرة على العمل الميداني في داخل سوريا، بعد بروز القوى الإسلامية، وتدفق جموع المجاهدين على سوريا من جميع الدول العربية، وسيطرة المجاهدين الفعلية على العمل الثوري ضد طاغية سوريا وأزلامه.
الشيخ الخطيب جاء لرئاسة ائتلاف تشكَّل بأيدي أمريكية، على خلفية تركيبة متباينة تضم الإخوان المسلمين والليبراليين والعلمانيين والاشتراكيين والقوميين، وكلها تكتلات حزبية لها حساباتها الخاصة، وأوزانها النسبية التي يجب أن تراعى عند تأسيس أيَّة تركيبة أو تشكيلة سياسية، الشيخ الخطيب جاء على خلفية أنه شخصية عامة مستقلة لا تنتمي لأحزاب أو تكتلات، محل احترام واتفاق بين الكثيرين، لا تمثل بعدًا سياسيًّا معينًا، حتى أنه نفسه لم يعلم باختياره لهذا المنصب إلا عبر وسائل الإعلام، فالخطيب أريد له أن يكون مجرد واجهة تمرر من ورائها الاتفاقيات السرية، والتربيطات السياسية، والمصالح الإقليمية والخارجية، والأهداف الأمريكية والأوروبية، لذلك جاءت كل تحركاته السياسية غير مرضي عنها ممن أراد حصره في الدور، رئيس شرفي فحسب.
الشيخ الخطيب أراد أن يمارس دوره السياسي من خلال رئاسته للائتلاف الذي يرأسه، والذي يفترض أن يكون الممثل السياسي الوحيد للشعب السوري المقهور تحت آلة عسكرية شديدة البطش، فبدأ في جولة مكوكية لحشد التأييد الدولي والإقليمي لرفع الشرعية عن نظام البطش والطغيان، وسرعان ما اكتشف الشيخ الخطيب أن اللعبة الدولية تجاه الأزمة السورية تختلف بالكلية عن آماله وطموحاته ورغبته الحقيقية في إنقاذ شعبه، فالمجتمع الدولي يمارس نفاقًا فريدًا من نوعه تجاه الأزمة السورية، فهو يتباكى ظاهريًّا وإعلاميًّا على ضحايا الشعب السوري، وفي السر يمد القاتل بالسلاح والمؤن والغطاء السياسي، وفي نفس الوقت يمنع السلاح والمساعدات عن الثوار والمجاهدين، الخطيب رأي دولاً تجتمع تحت مسميات فارغة "أصدقاء سوريا"، وتُباري في وعود معسولة، وعهود قاطعة، ولكنها أخلف من عرقوب، تعد ولا تفي، دول تقول للثوار: "تقدموا واقتحموا، وسنوفر لكم الغطاء والإمداد العسكري"، ثم تتركهم وسط الميدان لصواريخ وقاذفات بشار، فوصل الشيخ الخطيب لقناعة هامة، وهي ضرورة البحث عن حل داخلي للأزمة السورية.
الخطيب أراد أن يتحرك على المسار الذي لم يحاول أحد أن يتحرك فيه، وهو مسار التفاوض مع النظام المجرم نفسه، بعدما تأكد الخطيب أن المجتمع الدولي منافق من الدرجة الأولى، وأنه لن يسمح لبشار بالسقوط حتى تصبح سوريا قاعًا صفصفًا، خالية من أي معنى من معاني الدولة ومقومات المجتمع، فطرح الخطيب مبادرته الشهيرة مع نظام الأسد، وطرحها وعَيْنُهُ على مائة وستين ألف معتقل، وقرابة المليوني مهجر، يريد إعادتهم لأوطانهم، بعدما تفرقوا أيدي سبأ بين البلاد، أو يجعل إقامتهم بالخارج مؤقتة لا دائمة، بتمديد قانونية جوازات السفر الممنوحة لهم، اجتمع الخطيب مع وزيري خارجية روسيا وإيران، في أول لقاءين على هذا المستوى بين المعارضة السورية ومسئولين يمثلون أبرز حليفين للنظام.
هذه التحركات الجديدة جلبت عليه كثيرًا من الاتهامات والهجوم الشرس الذي بلغ حد السب والشتم والنيل من العرض والكرامة والشرف، وهو ما لم يتعود عليه رجل في مكانة الشيخ الخطيب، فهَمَّ بالاستقالة، ولكنه صابر واحتمل لعله ينجح في مساعيه، ويخفف الضغط على الشعب السوري المطحون، لكنه أقدم على خطوة كان من شأنها التعجيل برحيله، وهو قيامه بزيارة المجاهدين في دوما بسوريا عدة مرات، واجتمع معهم في الصلاة والدعاء وألقى عليهم درسًا في الثبات والجهاد وتقوية العزائم، وهو ما جعل شعبيته ترتفع بين صفوف المجاهدين والجيش الحر، ثم قام بما هو أشد من ذلك على أمريكا الراعي الرسمي للائتلاف المعارض، وهو رفضه الخطوة الأمريكية الخاصة بوضع "جبهة النصرة" المجاهدة في سوريا على قائمة المنظمات الإرهابية، واعتبره إجراءً مرفوضًا، أعلن تأييده لجبهة النصرة، رغم خلافه الفكري معها، مما أغضب الأمريكان منه بشدة، ثم كانت خطوته الأخيرة برفض المشاركة في مؤتمر أصدقاء سوريا الأخير في باريس، ومن ثم تم الترتيب لرحيل الرجل سريعًا.
أصبح لدى الأمريكان وأوليائهم داخل الائتلاف المعارض قناعة بضرورة رحيل الخطيب أو إجباره على الرحيل، ومن ثم كانت الخطوة الأخيرة من جانب الأمريكان، وهي الدفع بالبديل المطيع الذي يسير وفق الأجندة المرسومة، ولا يجتهد من تلقاء نفسه، ومن ثم كان الدفع بغسان هيتو المعارض السوري المقيم بأمريكا منذ سنين طويلة، والمقرب من تيار الإخوان المسلمين، ليكون رئيسًا للائتلاف المعارض، وهو ما تم فعلاً في اجتماع الائتلاف السوري في إسطنبول يوم الاثنين الماضي، ليقرر الشيخ الخطيب بعدها الاستقالة من منصبه، بعدما فهم الرسالة والمراد منها، وذلك قبل قمة الدوحة بـ48 ساعة ليسبب حالة بالغة من الحرج لقطر راعية القمة والتي ترغب في استغلال القمة لمنح الائتلاف المعارض مقعد سوريا في جامعة الدول العربية، هناك ضغوط كثيرة على الخطيب كي يعدل عن استقالته، وقد تنجح هذه الضغوط مؤقتًا، أو على الأقل حتى تمرير الهدف القطري، بمنح المعارضة المقعد السوري في الجامعة.
الشيخ الخطيب مثال للرجل الذي أراد أن يدخل مضمار السياسة بالمثل والقيم والإرادة المستقلة التي تبتعد عن الحسابات الضيقة، والمصالح الخاصة، وأصول اللعبة الدولية، وهو مضمار مليء بالمناورات والأكاذيب والخداع والضرب تحت الحزام، والتنقل بين الحبال، لذلك لم يصمد فيه طويلاً، وألقى المنشفة من الجولة الأولى، مؤثرًا أن يلعب دوره باستقلالية بعيدًا عن المصالح والحسابات والتكتلات، لعله يستطيع أن يحقق أمله في نصرة الشعب السوري، ومن يدري ربما نجد الشيخ منخرطًا في صفوف المجاهدين، بعدما تصل قناعاته إلى أن الجهاد والمقاومة والكفاح المسلح هو الحل الوحيد للأزمة السورية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق