مصر ومسألة الجيش: عود على بدء
د. بشير موسى نافع*لأن الدولة الحديثة هي مشكلة المشاكل في المجال العربي ـ الإسلامي، ولأن الجيش هو مبرر وجود هذه الدولة وأداتها الضاربة، أصبح الجيش مسألة عصية على الإجابة في مسيرة معظم دول المشرق العربي ـ الإسلامي.
في مطلع القرن العشرين، كانت السلطنة العثمانية قد قطعت شوطاً كبيراً في التحول إلى دولة بمؤسسات وتراتبية حديثة، بجيش حديث البنية والتسليح والنظام الداخلي.
وفي ربيع 1908، قام الجيش بأول انقلاب على نظام الحكم في دولة مشرقية حديثة، تلاه بانقلاب ثان وحاسم في 1909.
بعد قليل من انهيار النظام العثماني، وولادة نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى، قاد ما تبقى من الجيش العثماني حرب استقلال تركيا، أحكم سيطرته على الجمهورية التركية، وأعاد بناء تركيا الحديثة، من رأسها إلى قدميها، لغة وديناً واجتماعاً وسياسة، في واحد من أكبر الانقلابات التي عرفتها أمة في تاريخها.
في العراق، قاد الجيش العراقي أول انقلاب عربي على نظام الحكم في 1936، ليتبعه انقلاب عراقي ثان في 1941، ثم سلسلة من الانقلابات أو محاولات الانقلاب في سورية ومصر والعراق والأردن والجزائر والمغرب وتونس وليبيا؛ كما في إيران وتركيا وباكستان.
بهذا المعنى، في سياق مديد وبالغ الاضطراب من العلاقة بين الجيش والدولة في المشرق العربي – الإسلامي، مصر ليست استثناء. فأي معضلة هي تلك التي يمثلها الجيش في الاجتماع ـ السياسي المصري؟
للجيش المصري تاريخ طويل، يبدأ بقرار محمد علي تأسيس جيش من المصريين في نهاية العقد الثاني من القرن التاسع عشر، بعد أن كان جيشه خليطاً من الألبان والشراكسة والمغاربة والأكراد، وغيرها من عناصر العسكرية العثمانية. بعد الاحتلال البريطاني، تقلص حجم ودور الجيش المصري، الذي ظلت طبقة ضباطه في أغلبها من غير المصريين. ولم يبدأ بناء الجيش من جديد، وتفتح أبواب كلية ضباطه لعموم الشبان المصريين، إلا بعد معاهدة 1936، التي وقعتها حكومة الوفد وأسست لاستقلال مصري تعاهدي ومشروط.
والمدهش، أن أغلب قيادات حركة الضباط الأحرار، التي قامت بانقلاب يوليو/يوليو 1952، جاء من فصول الطلاب الضباط الأولى، الذين فتحت حكومة الوفد أمامهم كلية الحرب.
منذ انقلاب الضباط الأحرار، أصبح الجيش المصري مؤسس الجمهورية وحارسها، ومرجعية نظام الحاكم وصاحب القرار الرئيسي في هذا النظام.
ولكن هذه مقولة عامة، ولا تعكس متغيرات العلاقة وتقلباتها بين الجيش ونظام الحكم.
حسم عبد الناصر الصراع مع محمد نجيب، الرئيس الأول للجمهورية لأن أغلبية الجيش وقفت إلى جانبه، وليس كلها على أية حال.
وكان طبيعياً أن يصبح للجيش، صانع النظام الجديد ومن وقف إلى جانب رئيسها الثاني، دور بارز في مؤسسات الدولة وفي منظومة الحكم. ولكن عبد الناصر، الذي كان يدرك معضلة العلاقة، عمل جاهداً من أجل أن يضفي طابعاً مدنياً على الجمهورية وأن يقلص دور الجيش في ممارسة الحكم.
سمح عبد الناصر لضباط الجيش السابقين، أو الراغبين في التخلي عن موقعهم العسكري، احتلال مواقع عديدة في جهاز الحكم والدولة، من السلك الدبلوماسي، إلى الحكومة والإدارة المحلية، مروراً بمؤسسات الدولة الموازية، بالغة الحيوية، مثل النقل والطيران المدني والتعبئة والإحصاء، إلخ.
ولكن تربع المشير عبد الحكيم عامر على مقعد قيادة القوات المسلحة، وهو الشريك في تموز/يوليو، أعطاه دوراً بالغ الأهمية في عملية الحكم. وبعد سنوات قليلة، لم يعد حتى بإمكان عبد الناصر إطاحته.
بمعنى أن الجيش أصبح مركز قوة سياسية، وليس فقط مؤسسة ذات دور خاص في منظومة الحكم؛ وبفعل هذا المتغير، تصاعد التوتر داخل نظام الحكم بصورة مطردة، سيما بعد انفصال سورية وانهيار الجمهورية العربية المتحدة في أيلول/سبتمبر 1961.
صنعت هزيمة حزيران/يونيو 1967 واقعاً جديداً، سيما أنها انتهت إلى إطاحة عامر ومجموعته وخروجهم من الساحة. وللوهلة الأولى، ونظراً لأن جهود القوات المسلحة كرست لإعادة البناء والرد على الهزيمة، بدا أن عبد الناصر نجح أخيراً في بناء حكم مدني. ولكن الحقيقة كانت مختلفة قليلاً؛ لأن مصر كانت قد تحولت في تلك السنوات العصيبة كلها إلى جيش، أو على الأصح إلى ورشة بناء عسكري. ولأن مصر سرعان ما ردت على الهزيمة وخاضت حرباً أخرى في تشرين أول/اكتوبر 1973، وأن الجيش تحمل العبء الأكبر للحرب، وجد السادات نفسه أمام سؤال الجيش مرة أخرى.
هذه المرة، قررت مصر السادات أن تخوض مغامرة السلام، ولأول مرة منذ ولادة الجمهورية، لم يعد شبح حرب وشيكة يهدد البلاد. ولذا، فقد تصور السادات أنه يضع صيغة طويلة المدى لسؤال الجيش ودوره. أصبح القائد العام للقوات المسلحة هو نفسه وزير الدفاع، وأصبح للجيش بذلك مقعد رسمي في مطبخ الحكم.
وعلى خلفية من زمن السلم الجديد، توسع دور القوات المسلحة الاقتصادي والإنتاجي.
وعندما قرر السادات تعيين نائب للرئيس، القرار الذي فهم منه تسمية لخليفته، اختار السادات الفريق حسني مبارك، قائد القوات الجوية. ليس ثمة شك أن فكرة إنهاء دور الجيش في الحكم قد خطرت للسادات أو أثيرت معه، ولكنه كان مقتنعاً أن وقت مثل هذه الخطوة لم يأت بعد.
لم تتغير الأوضاع كثيراً في عقود مبارك الثلاثة، سوى في العشرية الأخيرة، عندما أخذت المؤشرات في التزايد على تحضيرات تجري لتوريث الحكم من الأب إلى الابن. كانت سورية شهدت في نهاية القرن الماضي توريثاً لرئاسة الجمهورية من الأب حافظ الأسد إلى الابن، بدا لحظتها أنه سلس ومستقر. وباتساع الدور الذي أخذ جمال مبارك يلعبه في إدارة شؤون البلاد، الدور الذي وصل أخيراً إلى ملف العلاقات الخارجية، لم يعد من الممكن تجاهل حقيقة أن مصر تعيش مساراً مشابهاً.
كان واضحاً، على أية حال، أن فكرة التوريث لن تجد تأييداً من مؤسسات الدولة الرئيسية، ومن القوات المسلحة على وجه الخصوص؛ وأن التوريث سيعني وصول رئيس للجمهورية من خارج القوات المسلحة، للمرة الأولى من قيام الجمهورية.
بمعنى أن مسألة التوريث شكلت معضلة مزدوجة، في بلد لا يشابه سورية إلا قليلاً ولا تتشابه مؤسسة حكمه مع نظيرتها السورية إلا قليلاً.
في مصر، باختصار، لم يكن هناك طائفة تحكم، ولا عصبية طائفية تحمي، ولا وجود للحزب الحاكم في القوات المسلحة.
وإلى جانب خلافات حول مسائل أخرى في إدارة شؤون البلاد وسياستها الاقتصادية، بدأت المسافة بين القوات المسلحة ورئاسة الجمهورية تتسع.
هذه المسافة هي التي سمحت بأن تأخذ القوات المسلحة الموقف الذي أخذته في ثورة 25 كانون ثاني/يناير 2011، الثورة التي انتهت بتنحي الرئيس مبارك وتولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة مسؤولية المرحلة الانتقالية.
ربما بدون دراسة وتفكير عميقين، تصور مرسي أن جمهورية ما بعد الثورة تحررت كلية من علاقة الجيش بالحكم، سيما أن أحد أكبر مطالب ثورة كانون ثاني/يناير كان إقامة دولة مدنية، ديمقراطية، حرة، وأنه نجح في آب/أغسطس 2012 في وضع نهاية سريعة لازدواج السلطة، وأن إدارة المجلس الأعلى للقوات المسلحة للمرحلة الانتقالية، التي لم تكن إدارة عظيمة، على أية حال، علمت الجيش درس الابتعاد عن شؤون الحكم. ولكن الحقيقة، أن المسألة لم تكن قد حلت.
صحيح أن تجربة المجلس العسكري لم تكن ناجحة، ولكن الجيش كان تاريخياً شريكاً في الحكم وليس في إدارة البلاد، ولم يكن يفترض به أن يتحمل عبء إدارة مصر في هكذا مرحلة انتقالية.
إضافة إلى ذلك، أن إجماعاً لم يولد في صفوف الطبقة السياسية المصرية حول دور الجيش؛ وهو الأمر الذي بدا واضحاً في وثيقة السلمي الشهيرة، في التصريحات المتناقضة للبرادعي وقادة المعارضة الأخرين حول دور الجيش وموقعه.
ثمة جدل كبير حول الأسباب التي أدت إلى إطاحة أول رئيس مدني منتخب للجمهورية، وروايات متعددة حول أحداث الأيام القليلة السابقة على إطاحته مساء الأربعاء 3 يوليو/ تموز.
وربما لن نتمكن في زمن قريب من معرفة الرواية اليقينية؛ وكما أحداث كبرى سابقة في تاريخ مصر، سيترك الأمر في النهاية للمؤرخين.
ولكن مسألة المسائل أن مصر ما بعد ثورة كانون ثاني/يناير، كما مصر ما قبلها، لم تجب بعد على سؤال دور الجيش وموقعه إجابة نهائية وقاطعة.
الآن، الواضح أن الجيش لا يريد العودة إلى الإدارة المباشرة لشؤون الحكم، وهذا ما جعله ينقل الرئاسة مباشرة لرئيس المحكمة الدستورية وحكومة جديدة. ولكن المشكلة أن الجيش هو الركيزة الرئيسية لنظام ما بعد 3 تموز/يوليو، وقد يجد نفسه مجبراً، وبدون قرار واع، على التورط في شؤون الحكم اليومية. من جهة أخرى، تحقق دور الجيش التقليدي في الحكم، وليس في إدارة شؤون الحكم، دائماً من خلال شريك سياسي كبير ومؤثر، مثل الاتحاد القومي، الاتحاد الاشتراكي، والحزب الوطني؛ وليس ثمة قوة في البلاد اليوم، يمكن أن تحتل موقع الكتلة السياسية الرئيسة، التي يستند إليها استقرار البلاد، سوى الإخوان المسلمين. بكلمة أخرى، أدخلت إطاحة مرسي مصر إلى مرحلة طويلة من عدم الاستقرار الهيكلي، وليس مجرد عدم الاستقرار النابع من التدافع السياسي.
هذه قفزة في الهواء، لم تحسب جيداً، ولا يمكن أن تستقر بدون قمع نصف الشعب، على الأقل؛ وعندما يتعرض شعب لهكذا قهر، لا يمكن له أن ينهض.
ما تحتاجه مصر الآن هو العودة إلى الشرعية الدستورية، وحشد عقلها الاستراتيجي وحكمتها التاريخية على السواء، من أجل التوصل إلى إجابة نهائية، إجابة إجماعية، على السؤال الذي أرقها منذ ولادة الجمهورية. وليس ثمة شك أن خيار مصر سيصبح، في النهاية، خيار المجال العربي كله.
ملاحظة أخيرة: لم يمر سوى أسبوع واحد وحسب على غياب عبد الباري عطوان عن القدس العربي، وها نحن نفتقده. أشهد، بالرغم من الخلافات المتقطعة، أنك كنت رئيس تحرير يليق بهذه الصحيفة المناضلة، لم تمنع مقالاً واحداً من النشر، ولا مددت يدك بالتغيير لجملة واحدة في مقالة لم ترق لك.
* كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق