كبسولات صحفية
ليسوا "إخوان".. بل مصريين!
محمد خضر الشريف
تعلمنا في "سنة أولى حرية" حقيقة مضت على مصر، أن نقول كل شيء بحرية، وأن ننتقد من نشاء، ولو كان رئيس البلاد نفسه، ورئيس الوزراء نفسه، وكم وزيرًا سخطنا عليه فعزلناه، وكم محافظًا لم نمكنه من الوصول إلى مكتبه بحرية، ولم نمكنه حتى من الجلوس على مكتبه بعد القرار الرئاسي الصادر له، وحدث ذلك دون خوف أو وجل أو قلق..
وقابلنا القانون الجميل لرئيس البلاد (مرسي) المتمثل في عدم حبس الصحفي احتياطيًا في أية قضية قانونية ترفع عليه، بمزيد من المعارضة غير الشريفة والردح الإعلامي والسياسي غير المؤدب، وجعلنا من زيادة مساحة الحرية التي كنا نسعى إليها، مجالاً لزيادة "قلة الأدب" على من أصدر هذا القانون الجميل، والذي يحدث لأول مرة على أرض مصر الكنانة.
كنا كمن نشط من عقال بعد مضي ستين سنة، حبست فيها الكلمة في الأفواه، فخرصت الألسنة، وجبنت الشجاعة، وجفت الصحف، وسبّحت الشاشات بحمد السلطان، وأصبح الشعب كله إلا قليلاً "تنابلة السلطان"، فانطلقنا نمارس الحرية الإعلامية بشكل لم يحدث حتى في أكبر الدول الديمقراطية وأقدمها ممارسة لها.
وإن كانت هناك حرية لا نزال نمارسها، فهي من بركة تلك السنة الماضية، ولا يزال من أسدى لنا جميل فتح نافذة الحرية (الرئيس السابق) يتحمل غبار تلك الحرية الذي لا يرحمه شتمًا وسبًا ولعنًا وإلصاق كل عيب فيه، وهو معزول ليس له من الأمر شيء، في الوقت الذي لا يستطيع الآن أن ينعق ناعق فيقول كلمة حق في عسكري مرور في نقطة ريفية أو صحراوية بعيدة.
وقد اعترفت إحدى وكالات الأنباء العالمية الشهيرة جدًا "أسوشيتد برس" منذ أيام قليلة بالقول الصريح: "تعرضنا لضغوط أمنية لمنعنا من تزويد "الجزيرة" ببث حى لميدان التحرير.. وكانت معضلة كبرى في أول لحظة من العصر الجديد الذي تعيشه مصر بعد سنة أولى حرية حقيقية".
البعض يعتبر أن هذه شجاعة وهي - وايم الله - نقيصة خُلقية، وعيب في التربية، وجبن في الأخلاق، وأصل سيئ يعبر عنه صاحبه، ويترجمه وهو يبكي على جثة الأسد، أو يرقص على قبر الميت، أو يكرر ما فعله الصليبيون ذات يوم، عندما فشلوا في مواجهة صلاح الدين الأيوبي، حيًا بطلاً مغوارًا، فوقفوا على قبره رافعين عقيرتهم: "ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين"!!
إن اختلافي في بعض وجهات النظر مع المسبحين بحمد السلطان الجديد - أيًا كان شرعيًا أو انقلابيًا – لا يعني بالضرورة أني أنتمي لجماعة الرئيس السابق أو من حزبه أو "أهله وعشيرته"، فإنما هي "معادلة الرأي والرأي الآخر"، التي وجب أن تكون أولى درجة من درجات الديمقراطية الحقيقية..
وإلا فثلث أبناء مصر في الداخل، ومعهم ثلث آخر في الخارج يعتبرون "بهذ المنطق إخوان"، وبهذا نضخم من "الإخوان" كثيرًا، ونجعلهم هم الشعب كله، ونظلم ناصري الشرعية مع اختلافهم مع "الإخوان"، وربما مع مرسي نفسه، ممن يعارضون الوضع الجديد ولا يزالون يدافعون عن الشرعية، ليس في ميادين مصر فحسب، بل في هولندا وفرنسا وبعض الدول الأوروبية وفي اليابان وبعض دول شرق آسيا، وهؤلاء ليسوا "إخوانًا" بل مصريين عاديين - مسلمين ومسيحيين - معارضين، يحق لهم أن يعبروا عن وجهة نظرهم، وأن يعبروا عن ذلك في مظاهراتهم السلمية في تلك الدول، وترعى هذه الدول لهم مظاهراتهم، وتحرم وتجرم أيضًا أن يمسسها أحد بسوء أو يطلق عليهم أحد أو جهة أو مجموعة أو جماعة أو جيش، طلقة رصاص واحدة، كما فُعل بأبناء مصر من قبل أبناء مصر في "حادثة الحرس".
إن رجلاً مسيحيًا في بني سويف صرخ في المنصة المؤيدة للرئيس مرسي وهو يقول إن تعاليم ديني وتعاليم السيد المسيح تقول لي وجب أن أحب مرسي وأن أدافع عنه لأني اخترته لي رئيسًا، ووجب أن أكون وفيًا له، وهو يصرخ في بني جلدته من المسيحيين أن يكونوا أوفياء، كما علمهم ذلك السيد المسيح.
فمن أجبر هذا المسيحي أن يقول ما يقول، وهل يتجرأ عاقل فيدعي أن هذا المسيحي هو من "الإخوان"؟!
إن الذي أجبره وطنيته فقط وحريته أن يقول ما يراه صوابًا، وأنه رأى أنه لم يظلم في عهد مرسي وأنه كان يكتسب حقوقه وأن حكم من يخاف الله ويؤسس دعائم الديمقراطية الصحيحة هو الأجدر بأن يؤديه ويسمع له ويطيع حتى يعيش في نسائم الحرية الحقيقية والأمن الذي يتوخاه ويتوخاه كل مصري، مسلمًا كان أو مسيحيًا.. ولا يتشدق من في قلبه مرض فيحلل بعينه "العوراء" أن متظاهري اليابان "إخوان"، وإلا فلن يصلح في علاجه عينه العوراء كل أطباء العيون في دنيا الله كلها.
قاعدة الرئيس الأمريكي بوش الابن: "إن لم تكن معي فأنت ضدي"، يصر البعض في مصر على أن يطبقها بحذافيرها، فكل من يعارض - والمعارضة الشريفة حق لكل إنسان، وإن اختلفت صورها وأشكالها - ليس بالضرورة أن يكون عدوي أو كارهًا لي. وقديمًا أمسك أعرابي بثوب رسول الإنسانية صلى الله عليه وسلم، وشد عليه حتى حز الثوب في عنقه - أي وصلت لدرجة من درجات الخنق - وهو يسأله أن يعطيه مالاً بصورة فجة: "أعطني من المال الذي عندك، فإنه ليس مالك ولا مال أبيك".. هذه صورة فجة لمن يعارضك القول أو الفعل، وأنت على الحق المبين، وكانت ردة الفعل أن ضحك صلى الله عليه وسلم وأمر أن يعطى له ما يريد، وآخر يصرخ بها على أعين الناس وهو يقسم الغنائم "اعدل يا محمد"! فقالها صلى الله عليه وسلم مغضبًا على قيمة العدل وليس لنفسه: "من يعدل إن لم أعدل"؟!
ووقف رجل لعمر ابن الخطاب يعارضه وهو على منبر النبوة قائلاً: "والله لو وجدنا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا"! فما كان رد القائد العملاق إلا أن قال: "الحمد لله أن جعل في أمة محمد من يقوم اعوجاج عمر".
ولم يقص القائد هذا ولا ذلك عن المجتمع أو المساهمة في بنائه، بل انخرطوا جميعًا في المجتمع، وكانت معارضتهم في الصالح العام للوطن الذي يخدم رأيه أبناء الوطن نفسه بالحق والعدل والأدب في الخطاب والسلوك.
إن الذي تناقشه بمنطق العقل والأحداث وتتابعها، ثم لما يجدك تملك الحجة القوية وقد باتت حجته هشة ضعيفة يصرخ في وجهك شكلك "إخواني" أو "هذا فكر إخواني"، ليس شجاعًا لأنه يلجأ لرمي التهم جزافًا، وقديما رمى الناس الإمام الشافعي رحمه الله بتهمة يضحك منها الجنين في بطن أمه، ويترك الرضيع ثدي أمه ليرد على قائلها وكأنه يقول له: "عيب يا كبير"، وتمثلت التهمة في أن الشافعي رحمه الله كان يكثر من الحث على حب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويترحم عليهم ويترضى عنهم، فاتهموه بالتهمة السائدة في عصره وفي مصره أنه "رافضي" - أي شيعي - وقابلهم الإمام الكبير بجلالة قدره ببيت شعري غاية في الأدب والعقلانية جعل متهميه ينكصون على أعقابهم بعد أن ألجمهم به فقال:
(إن كان رفضًا حب آل محمد // فليشهد الثقلان أني رافضي)
السفسطائيون الآن يكررون المنهج نفسه من اتهام كل معارض بالتهمة المعلبة والفزاعة التي كانت تستخدمها الأنظمة البائدة كلها "إخواني"، وهي التي عادت للساحة من جديد..
حتى وإن كان قادة "الإخوان" خارج السلطة وداخل أسوار السجن، وهي دليل على إفلاس من يلقيها جزافًا وخوائه، وأنه كاره للرأي الآخر - أيًا كان هذا الرأي ومصدره – ما دام ذات مسحة دينية، ولا يستطيع أن يتعامل معه بعقلانية وموضوعية، ومثل هؤلاء ضعاف البصر والبصيرة، ومصدر تعطيل لمسيرة الديمقراطية الحقيقية التي كنا نحلم أن تكون حقيقة، نراها رأي العين تمشي على أرض مصر.
إن الذين منعوا رفع أذان ظهر أمس الأول (الأحد) من الجامع الأزهر وغلق أبواب الجامع أمام المصلين لأول مرة في تاريخ مصر؛ لمنع مظاهرة، كان مقررًا لها الانطلاق من الأزهر لميدان رابعة العدوية، لا يؤمنون بالحرية الحقيقية ولم يشبوا بعد عن طوق الديكاتورية، وهي خطوة لا يختلف فيها اثنان أنها قمعية بشعة، تعيد مصر لعهد ما قبل العهود البائدة، وتترجم للعالم كله أننا سائرون في مصر على نظيرة بوش التي سقتها لكم آنفًا، وهي تترجم أيضًا أن "مصر الأزهر" التي كنا نلقبها، ونتغنى بها، ونفخر، لم تعد هي "مصر الأزهر"، بل "مصر العسكر".. وسواء كانت الأزهر أو العسكر فلا فارق، لأن كلتا الكلمتين تنتهي بقافية الراء..
والحمد لله أننا أبقينا حرف الراء للأزهر ولم نحذفه من أصول الكلمة، كما حذفناه من كلمة مصر الآن بعمليات الإقصاء المتعمدة لكل ما هو ديني، سواء بغلق القنوات الدينية أو الصوت الإسلامي، وأخيرًا ترقينا بغلق أبواب الجامع ومنع الناس من الصلاة ومنع صوت "الله أكبر" أن يجلجل في سماء الأزهر.
ألا فلتفرحي يا مصر بما يقدمه لك أبناؤك من الديمقراطية الحديثة بالنكهة القمعية الجديدة!!
دمتم بحب
makhder2004@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق