الأربعاء، 21 أغسطس 2013

قلوب الشياطين د. راغب السرجاني

قلوب الشياطين 
قناصة يضربون المتظاهرين في رمسيس بالقاهرة




مشاهد عجيبة يراها المتابع لأحوال مصر في هذه الأيام.. فالبلد المسلم يشهد سفكًا عجيبًا للدماء، وامتهانًا للكرامة نادر الحدوث، وظلمًا شديدًا يخرج عن تصورات البشر، اللهم ما رأيناه من بشار الأسد، ومِنْ قَبْله والده المقبور حافظ الأسد..
إن هذا القتل العام بهذا الدم البارد ليحتاج إلى تفسير، فنحن عادة نفهم أن الحكام والوزراء مفتونون بكراسيهم، ومن أجلها يفعلون أي شيء، ويرتكبون أشنع الجرائم؛ ولكن الذي يحيُّرنا دومًا هم الحاشية والجنود والأتباع؛ الذين يرتكبون أبشع المنكرات لصالح أسيادهم، فيبيعون دينهم بدنيا هؤلاء، ويرضون بحمل السلاح في وجه إخوانهم وأبنائهم وجيرانهم وأصدقائهم وأبناء بلدهم؛ وذلك من أجل أن يرضى عنهم قائد أو مدير يكيل لهم الشتائم والإهانات كل يوم، فمجتمعهم هذا لا يحب فيه أحد أحدًا، ولا يُخلص فيه أحد لأحد، إنما الرابط الوحيد بينهم هو القهر والتسلط والمصلحة والإرهاب.
عجيب حقًّا أمر هؤلاء الأتباع!!
عجيب حقًّا أمر الجنود والضباط الذين نراهم يُطلقون النيران على الشباب الأعزل؛ بل ويتمايلون ضحكًا وطربًا وهم يرونهم يسقطون غرقى في دمائهم..
عجيب أمر هذا الضابط الذي يُريد أخذ صورة له، وفي خلفيته مجموعة من جثث الشهداء..
عجيب أمر هذا القناص الذي يقف أعلى الكوبري يمضغ اللبان ويُطلق النيران على امرأة تحمل هاتفًا تُصَوِّر به، أو على شاب يحمل جريحًا يُحاول إنقاذه!
عجيب أمر هؤلاء المجرمين الذين يحرقون الخيام وفي داخلها بشر!
مَنْ هؤلاء العتاة الذين يحملون الأسلحة في وجوه إخوانهم وأهلهم؟!
كنت أتعجب من طبيعتهم وقدرتهم على إنكار مشاعرهم، حتى قرأتُ حديثًا يصف نوعية هؤلاء الرجال..
فقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الوضع الخبيث بألفاظ عجيبة..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جزء من حديث طويل يرويه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وهو يصف هذه الفئة العجيبة من البشر: "يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ" ! [1]
ما أعجب هذا الوصف؟!
إن النصف الأول من الوصف يرسم صورة الحكام والوزراء.. فهم أئمة لا يهتدون بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يستنُّون بسُنَّته، وهذا أمر مشتهر بين الحكام الظلمة أصحاب الهوى، فلن يهتم أحد منهم بالبحث عن سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الحرص على اتباعها؛ بل إن منهم مَنْ يُخالفها عمدًا خوفًا من أن يُنسَب إليه الدين أو الفضيلة.
ولكن النصف الثاني من الوصف يتحدَّث عن هذه الطائفة العجيبة التي تُثبِّث أقدام الظالمين في الحكم؛ فهي في واقع الأمر ليست طائفة بشرية عادية، بل إنَّ لهم -كما في الوصف النبوي- قلوب الشياطين، وإن كان الشكل الخارجي لهم شكل إنسان!!
إنهم شياطين إذن!
ولهذا ليس هناك معنى لكلمة الرحمة والشفقة في قواميسهم..
إن الأمر الذي يتلقَّوْنَه بالقتل هو أمر عادي تمامًا ليس فيه ما يُنَغِّص المشاعر، أو يُوقظ الأحاسيس، إنهم في الغالب يسعدون به ويبتهجون! لماذا؟! لأنهم شياطين! وهذا تعريف رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم.
وهؤلاء الشياطين هم الذين يدعمون بقاء الظلم في الأرض؛ فالحكام الباطشون الظالمون لا يمارسون بأيديهم القتل أو السفك، إنما يرهبون الناس بهؤلاء الإجراميين؛ ولهذا فإنهم في العذاب مشتركون يوم الحساب، وما أكثر الآيات التي صوَّرت هذا المشهد الأليم يوم القيامة! حيث يتلاوم الأتباع مع قادتهم في محاولة لدفع العقوبة الرهيبة عن أنفسهم؛ ولكن هيهات! فبدونهم لم يكن للظلم أن يستشري في البلاد..
قال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ[غافر: 47، 48].
لقد وَضَحَ في هذه الآيات أن الله عز وجل لا يخصُّ الكافرين بهذه العقوبة الأليمة؛ إنما هو يذكر أن المستكبرين في الأرض بشكل عامٍّ، ومن يدعمهم من الضعفاء -كالجنود والضباط الأقل رتبة- الذين "يمارسون" القتل والظلم "بأمر" الحاكم المتكبر، كلهم سيقابل هذا المصير الأسود..
وفي مشهد عجيب آخر في سورة سبأ، يقول الله تعالى: {... وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ[سبأ: 31]..
هذه هي اللقطة الأولى! الظالمون الواقفون أمام الله عبارة عن مستكبرين وضعفاء؛ فالآية تذكر أن الظالمين يتناقشون ويتلاومون، فيُلقي الجندي التبعة على قائده، أو وزيره، ويقول له: لولا أنت لكنتُ رجلاً صالحًا مؤمنًا صاحب قضية شريفة!!
فتأتي اللقطة الثانية: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ[سبأ: 32]..
فهذه اللقطة تُوَضِّح أن المستكبرين يفهمون جيدًا طبيعة أتباعهم؛ فهم مجرمون على حدِّ وصفهم، ولهم قلوب الشياطين على حدِّ وصف الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أُتيحت لهم سبل الهداية، وكذلك سبل الإجرام، فاختاروا الظلم على العدل، وقبلوا بسفك الدماء ودعم الفساد، فيكشف هنا المستكبرون التمثيلية القبيحة التي يُحاول أن يقوم بها المستضعفون يوم القيامة.
تأتي اللقطة الثالثة تُصَوِّر محاولة يائسة من المستضعفين بتحميل المستكبرين المسئولية.. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا[سبأ: 33]..
ثم تأتي اللقطة الرابعة وقد أعلن الجميع عن ندمه بعد فوات الأوان: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ[سبأ: 33]..
 ثم اللقطة الخامسة والأخيرة: {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[سبأ: 33]..
إن القضية بدأت بالحديث عن الظالمين، وانتهت بالحديث عن الكافرين؛ فطريق الدماء والظلم يحمل هذه النهايات، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم محذِّرًا: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا[2].
إنها رسالة أُوَجِّهُهَا بعد قراءة هذه الآيات والأحاديث لعموم مَنْ يُطلقون على أنفسهم: "عبد المأمور". ليُسَوِّغوا لأنفسهم قتل العزَّل من أبناء شعبهم، أقول لهم: أنقذوا أنفسكم من النار، فلن يتحمَّل عنكم أسيادكم شيئًا، والقتيل الواحد قد يحرمك من دخول الجنة أبدًا.. قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا[النساء: 93].. لا تُبَرِّر لنفسك بأنك مسلم وموحِّد بالله، فالآية تتحدث عن القتلة بشكل عامٍّ.
ورسالة أُوَجِّهُهَا لأهل هؤلاء المشاركين في هذه الجرائم: أنقذوا إخوانكم وأزواجكم وأبناءكم وآباءكم.. تحدَّثوا معهم وانصحوهم؛ فالأجل يأتي فجأة، وهذا طريق نهايته مؤلمة.. لا تتركوهم على هذا المنكر؛ فالتوبة لا تكون إلا هنا في الحياة الدنيا، والموت يأتي بغتة.
ورسالة أخيرة أُوَجِّهُهَا إلى الصالحين الذين يُعانون من ظلم هؤلاء الظالمين؛ سواء كان ظلم المستكبرين أو أتباعهم من الضعفاء: احمدوا الله أنه لم يختر لكم هذا المصير، واحمدوه على ما عافاكم به من الشرِّ الذي وقع بهم، ونظرة واحدة إلى هذه النهايات تثلج صدوركم، وتخفف عنكم، فالآيات التي شرحتْ هذه المشاهد جاءت لردع الظالمين، وفي الوقت نفسه لتبشير المؤمنين، وتسكين قلوبهم..
والتعيس حقًّا من كان قلبه قلب شيطان!!
ونسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين.
د. راغب السرجاني

[1] مسلم: كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم، (1847).
[2] مسلم: كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن، (118)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق