النوازل الكبرى في التاريخ الإسلامي
الأمة الإسلامية اليوم في أمسِّ الحاجة إلى الفهم الواسع للسنن الإلهية في الخلق والكون
والنصر والهزائم، وبقدر دراستنا لتلك السنن تتكون لدينا الحصانة العقدية والثقافية
والمعرفية ومن ثم يجنبنا الوقوع في الزلل، والكشف عن هذه السنن التي تحكم حركة
المجتمعات يكون بالسير في الأرض والسعي فيها وبالنظر في تاريخ الأمم، وكذلك
الاطلاع على القوانين الضابطة لحركة الناس في الحياة.
الكتاب: النوازل الكبرى في التاريخ الإسلامي
المؤلف: د/ فتحي زغروت
الناشر: الأندلس الجديدة للنشر والتوزيع
سنة النشر: 1430هـ - 2009م، ط1
عدد الصفحات: 751
مركز التأصيل للدراسات والبحوث
يتناول هذا الكتاب الحديث عن النوازل الكبرى التي ألمت بأمتنا الإسلامية عبر تاريخها الطويل، فقد تعرضت الأمة لعديد من النوازل شأنها في ذلك شأن الأمم الأخرى، ولكن الأمة الإسلامية في مواجهتها للنوازل ومقاومتها للكوارث والخطوب تختلف اختلافا بيِّنًا، إذ يحكمها في ذلك منهج عقدي وتصور إسلامي وعقيدة تؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره، وأن النوازل أو النوائب هي من قدر الشر المر، ومع مرارته فينبغي الإيمان به على أنه ركن من أركان الإيمان.
وفي مقدمة كتابه أشار المؤلف إلى ملاحظتين مهمتين وهما:
أولا: أن الأمة الإسلامية اليوم في أمسِّ الحاجة إلى الفهم الواسع للسنن الإلهية في الخلق والكون والنصر والهزائم، وبقدر دراستنا لتلك السنن تتكون لدينا الحصانة العقدية والثقافية والمعرفية ومن ثم يجنبنا الوقوع في الزلل، والكشف عن هذه السنن التي تحكم حركة المجتمعات يكون بالسير في الأرض والسعي فيها وبالنظر في تاريخ الأمم، وكذلك الاطلاع على القوانين الضابطة لحركة الناس في الحياة.
ثانيا: يتعلم من هذه السنن مسألة التعاقب والتناوب الحضاري التي تحكم حركة الحياة وحركة التاريخ، وسُنة التداول الحضاري أو التدافع الحضاري هذه هي السُنة الأساسية لباقي السُنن الإلهية في خلقه، أي أنها سُنة ثابتة ومطردة حكمت كل المجتمعات البشرية.
وقد وقع اختيار الكاتب في كتابه على أربع نوازل في تاريخنا القديم، وجد فيها الفائدة المرجوة في إحاطة المسلم بكيفية مواجهة النوازل، ودفع القواصم، وكيف ينفذ منها من ضعف إلى قوة، ومن هدم إلى بناء، ومن يأس إلى رجاء، وهذه النوازل هي:
1- سقوط بغداد على أيدي المغول.
2- سقوط بيت المقدس على أيدي الصليبيين.
3- سقوط غرناطة وإنهاء دولة الإسلام على أيدي الإسبان.
4- سقوط الخلافة العثمانية الإسلامية بتركيا.
وعليه فقد جاء هذا الكتاب مقسما على أربعة أقسام تسبقها مقدمة وتمهيد، يناقش كل قسم نازلة من الأربع المختارة، تحت كل نازلة أربعة فصول، عدا النازلة الأولى حيث جاءت في ثلاثة فصول فقط.
النازلة الأولى: سقوط بغداد على أيدي المغول.
عرض الكاتب لهذه النازلة في ثلاثة فصول، تحدث في الأول منها عن الخلافة العباسية والفرق بينها وبين الخلافة الأموية مع بيان مظاهر قوتها وازدهارها وأسباب ذلك، ثم عرض في الفصل الثاني أسباب ضعف الخلافة العباسية وانحلالها، ثم جاء الفصل الثالث للحديث عن سقوط بغداد بأيدي المغول.
وفي ختام هذه النازلة بين الكاتب أن بغداد سقطت ونكبت مرتين لا مرة واحدة، وأن النكبتان قد تشابهتا في الهدف والحركة والشكل والأداء والخيانة تشابها يدعو إلى العجب والتأمل، وقد كان السقوط الأول عام 656هـ، 1258م على أيدي المغول وعلى رأسهم هولاكو ومن جاء معه من العملاء الذين شاركوا هولاكو في حملته العسكرية، بينما كان السقوط الثاني عالم 2003م والذي كان على أيدي قوات الاحتلال من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها ومن جاء معهم من العملاء بزعامة بوش.
وبين الكاتب أنه من الملاحظ أن المهاجمين لبغداد سواء في القديم أو الحديث كان يجمعهم هدف واحد هو القضاء على الإسلام ودولته بأي طريقة من الطرق سواء بمحق المسلمين أو الطعن في العقيدة الإسلامية ومحاولة تحريف القرآن والسنة النبوية وإغلاق المعاهد العلمية والدينية في أغلب بلادنا الإسلامية استعدادا للوصول إلى ذلك الهدف.
النازلة الثانية: سقوط بيت المقدس على أيدي الصليبيين.
عرض الكاتب لهذه النازلة في أربعة فصول تحدث في الأول منها عن تاريخ القدس بشكل مفصل ثم تحدث في الفصل الثاني عن مسير الحملة الصليبية الأولى نحو بيت المقدس، ثم أردف ذلك بفصل تحدث فيه عن سقوط بيت المقدس في أيدي الصليبيين، وختم الكاتب حديثه في هذه النازلة بفصل عنونه بـ"القدس في التخطيط الصهيوني".
وفي خاتمة هذه النازلة تحدث الكاتب عن الأثر الثقافي أو ما يسمى بالشر الثقافي- كما يسميه الكاتب- الذي نشأ نتيجة تسميم العقل الغربي في ذلك الوقت، حيث استقرت مفاهيم خاطئة عن الإسلام في عقول الأوربيين حتى أصبح احتقار الإسلام والمسلمين جزءا أساسيا في التفكير الأوروبي.
ومن هذا المنطلق فقد تهيأت رؤية فكرية في ذهن الأوروبي الغربي في القرن الثاني عشر ثم توسعت لتمتد حتى القرن الثامن عشر وهو ما عرف بعصر الاستعمار، وهذه الرؤية الخاطئة تنطلق من عداء واسع للنبي صلى الله عليه وسلم إذ يدعون كذب نبوته وأنه برسالته الإسلامية تلك أوقف تطور الإنسانية تجاه المسيحية وتسبب في ضرر كثير إزائها كما يزعمون، ومن هنا فإن شبح الحروب الصليبية مازال ماثلا فوق ربوع أوروبا وتدعمه تلك الأساطير الكاذبة التي استقرت في اللاوعي الجماعي للغرب.
النازلة الثالثة: سقوط غرناطة وإنهاء دولة الإسلام على أيدي الإسبان.
بدأ الكاتب هذه النازلة بفصل لخص فيه تاريخ الأندلس من القوة حتى الضعف وجاء الفصل الثاني بعنوان عهد الفوضى والكفاح وفيه تحدث الكاتب عن دولتا المرابطين والموحدين، ثم أعقب ذلك بفصل تحدث فيه عن سقوط دولة الموحدين، وختم الكاتب هذه النازلة بفصل تحدث فيه عن التنصير القسري ومحاكم التفتيش التي أعقبت ضياع ملك المسلمين في الأندلس، وموقف العثمانيين من الموريسكيين، وهم الأندلسيون المسلمون الذين تم تعميدهم قسرًا.
وفي خاتمة هذه النازلة بين الكاتب أن نازلة الأندلس ليست فريدة فهي تتكرر في حياتنا وفي واقعنا نحن المسلمين حينا بعد حين، فقد مرت تلك المآسي في فلسطين وأدركناها في أفغانستان وفي البوسنة والهرسك وأرتيريا والفلبين والعراق، فهي سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وبين كذلك أن سقوط الأندلس كانت نذره وشيكة وعلاماته واضحة منذ أن منيت الأندلس بسقوطين هزا كيان المسلمين هزا عنيفا: السقوط الأول، وهو سقوط الخلافة الأموية في الأندلس عام 421هـ تقريبا، حيث أضحت البلاد نهبا لدويلات مشرذمة مستضعفة متعادية فيما بينها...أما السقوط الثاني فكان بسقوط دولة الموحدين والذي بدأت طلائعه بعد هزيمة العقاب سنة 609هـ، ولم تقم بعدها للأندلس قائمة تذكر.
النازلة الرابعة: سقوط الخلافة العثمانية الإسلامية بتركيا.
في الفصل الأول من هذه النازلة تحدث الكاتب عن الجماعات المتسلطة على الخلافة العثمانية، فذكر منها العلمانية، وتحدث عن هيمنتها على صنع القرار ثم صور العلمانية في تركيا، ثم تحدث الكاتب عن يهود الدونمة وتآمرهم على الخلافة وتاريخهم السري، وفي الفصل الثاني تحدث الكاتب عن وسائل زعزعة أركان الدولة العثمانية، فذكر منها: إثارة الأقليات غير المسلمة، ثم سياسة التتريك وبعث القوميات.
وفي الفصل الثالث تحدث الكاتب عن إلغاء الخلافة العثمانية وإعلان الجمهورية، وما تبع ذلك من أمور منها: تمجيد الحضارة الغربية، وفصل الدين عن الدولة، ودور الإنجليز في القضاء على دولة الخلافة..وفي الفصل الأخير تحدث الكاتب عن تركيا بين الأمس واليوم، وفيها ناقش تجربة كمال أتاتورك العلمانية، وتركيا بين الإسلاميين والاتحاد الأوروبي.
وخلال هذا العرض بين الكاتب أن سقوط الخلافة العثمانية كان حدثا جللا ونازلة كبرى من النوازل التي حلت بالمسلمين إذ لم يبد المسلمون تجاهها أي حراك ولم نسمع عن أصوات حرة أو أعمال تنادي بالمقاومة أو النهوض من تلك الكارثة بل أصيبت الأمة بكتمان أنفاسها مرة واحدة إلى أن انحلت شخصيتها بمفارقة الخلافة التي هي الإمامة الكبرى للمسلمين.
وأخيرا نسأل الله تعالى أن يجزي الكاتب خير الجزاء على هذا العرض الطيب الذي كساه ودبجه بالكثير من الفوائد والدروس والعبر، ونسأل تعالى أن يعيد عز أمتنا وأن يمكن لدينه ولأهل طاعته.
قراءة مهند الخليل
على امتداد 750 صفحة، يبحر الدكتور فتحي زغروت مع (النوازل الكبرى في التاريخ الإسلامي) –بحسب عنوان كتابه، الذي نشرته دار الأندلس الجديدة بمصر، في طبعته الأولى في عام 1430- .يتصدر الكتاب قول الحق تبارك وتعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 139- 140].
وهو اختيار في محله؛ لأن المؤلف استهل مقدمته بالتركيز على مفهوم النوازل –ومفردها: نازلة- أي: الشدائد، باعتبارها من قضاء الله وقدره الذي يؤمن به المسلمون ويتلقون ما يقضيه ربهم ويقدره بالرضى والتسليم، سواء أكان حلواً أم مُرّاً.لكن التسليم بقضاء الله تعالى لا يعني السلبية ولا الرضوخ للأسباب أو الاستكانة للظروف العابرة، فالرضى بقدر الله مختلف جذرياً عن الرضى بالمقدور ذاته الذي قد يكون نتيجة تقصير أو تفريط.
في غزو أحد استشهد 70 صحابياً وكُسِرت رباعية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشُجّ وجهه الشريف وأثخن أصحابه بالجراح، فجاء الوحي يسدد المسار ويؤكد أن ما جرى، جرى نتيجة أخطاء ومخالفات وقع فيها بعض المسلمين، ثم يحضهم بالرغم من الجراح والوهن العابر على اقتفاء اثر المشركين وعدم الوهن في مجاهدتهم. وقد جاءت الثمار يانعة في غزوة الأحزاب وما بعدها وصولاً إلى فتح مكة المكرمة... ثم انتشار راية التوحيد وأنوار الحق في مشارق الأرض ومغاربها.
اختار الدكتور زغروت أربع نوازل كبرى هي:
1-سقوط بغداد على أيدي المغول
2-سقوط بيت المقدس على أيدي الصليبيين
3-سقوط غرناطة وإنهاء دولة الإسلام على أيدي الإسبان
4-سقوط الخلافة العثمانية الإسلامية في تركيا
فنكبة الأمة في بغداد كانت ضخمة بكل المقاييس والاعتبارات الرمزية والواقعية، حيث سقطت الخلافة الإسلامية ولقي زهاء مليون مسلم نحبهم وأُتْلِفت كنوز حضارية رائعة من كتب نفيسة ومنجزات راقية... لكن الأمة لم تستسلم وإنما حشدت طاقاتها في مواجهة الغزو المغولي الهمجي بقيادة المظفر قطز حتى أزيل الغزو ثم تحول المغول إلى الدخول في دين الله تعالى، وأعيد نصب الخلافة العباسية في مصر والشام ولو بصفة رمزية أكثر منها عملية ذات سيطرة فعلية.
كما واجهت أمة الإسلام محنة الغزو الصليبي الحاقد الذي تمكن في غفلة من الأمة من إقامة أربع مستعمرات أذاقت المسلمين ويلات كبرى، إلى أن قيّض الله سبحانه للأمة القائد الهمام نور الدين آل زنكي الذي وحّد مصر والشام وأنشأ فيهما جيشاً قوياً مجاهداً قاده البطل صلاح الدين الأيوبي بعد مصرع نور الدين فيطهر بيت المقدس من رجس الصليبيين الذين هزمهم شر هزيمة في موقعة حطين الفاصلة.
وبذكاء جلي يعقد د.زغروت مقارنة بين النازلتين السابقتين: الغزو المغولي والغزو الصليبي، وبين نازلة الأندلس ونازلة إسقاط الخلافة العثمانية، ففي الأوليين نهضت الأمة من كبوتها وتغلبت على عوامل الوهن فانتصرت وأزالت الغزاة.أما في النازلتين الأخيرتين فقد كانت السلبية هي السمة الواضحة في التعامل معهما، حيث تناسينا جرح الأندلس الأليم حتى تركناه نهباً للمزورين الذين يشوهون تاريخنا الزاهر هناك.
وأما إزالة الخلافة العثمانية فما زلنا نتجرع آثارها المريرة من تمزق وتفكك واحتلال لفلسطين ثم للعراق وأفغانستان ....فضلاً عن تسليم الاستعمار الغربي مقاليد الحكم لعملائه التغريبيين الذين كانوا شرّاً على الأمة من سادتهم الأجانب الغاصبين بطغيانهم وتنكيلهم بالشرفاء والأحرار ونهب ثروات البلاد وتسليم أراضيها إلى أعدائها!!
إنه كتاب قيّمٌ بما احتواه من معلومات تاريخية موثقة، وبما اشتمل عليه من قراءة واعية لأسباب السقوط والدروس المستفادة منه، قراءة شرعية وعلمية موضوعية تستحق التقدير.
وما أحوجنا اليوم إلى كتب عميقة كهذا الكتاب النفيس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق