مصر: الغول.. والنسر!
أحمد بن راشد بن سعيّد
سهم بن كنانة، مؤرخ ومؤلف سيبزغ نجمه بعد نحو قرن من الزمان. فيما يلي رواية عن أحداث مصر الحالية سيرويها في عام 1534 للهجرة، 2110 للميلاد.
حدّث سهم بن كنانة، قال:
خلوت ذات ليلة بجدي، فتمتمت فرِحاً: ما أعظم جدي، وكنت وقتها أكتب ما شهدته مصر في عامَي 1434 و1435 للهجرة من أحداث جسام، وكيف انقلب طغمة من جيشها على أهل الإسلام، فسألت جدي: هل تذكر شيئاً من تلك الأيام؟
حدّث سهم بن كنانة، قال:
خلوت ذات ليلة بجدي، فتمتمت فرِحاً: ما أعظم جدي، وكنت وقتها أكتب ما شهدته مصر في عامَي 1434 و1435 للهجرة من أحداث جسام، وكيف انقلب طغمة من جيشها على أهل الإسلام، فسألت جدي: هل تذكر شيئاً من تلك الأيام؟
فتنهد تنهد الحيران، كأنما تذكر نكسة حزيران، وقال: كيف أروي القصة، وفي العين قذى وفي الحلق غصة؟
قلت: هات، لا حرمك الله من شوق البنات، فتبسم جدي بابتهاج، كسجين بُشِّر بإفراج، وتمتم: تأبى إلا أن تثير الحنين فيّا، وتعيدني إلى الصبا مليّا، وقد بلغتُ من الكبَر عتيا، لكن ما شهدته المحروسة كان من العبِر، والآيات الكُبَر، وسأرويها لك بتبسيط، يفهمه الذكي والعبيط.
كان في مصر نسر مهيب، ذو شأن عجيب، يسلب العقولَ حسنُه، ويأسر القلوب لونُه، وقد بسطت له الطيورُ يديها، وتوّجته ملكاً عليها، وكان فاتن الريش، لكنه لا يتيه ولا يطيش، ويطير من مرسى مطروح إلى العريش، محلقاً في الآفاق بحرية، لا خائفاً عدواً ولا هائباً منية، وتعودت الطيورُ أن تحبَّه، لأنه لم يكن يخشى إلا ربَّه، ولم يكن أحد يتوقع منه انقلابا، أو يتوجس منه إرهابا، فقد كان باذلاً للمعروف، ناصراً للملهوف، قائماً بالحق، ناطقاً بالصدق، غير أنه غفل عن مكائد الحاشية، ولم يشعر بتربص الزبانية، وربما طعنك خسةً ابنُ زانية، ووُلد من رحم العدل شر طاغية.
قلت: من مأمنه يُؤتى الحذِر، فمن كان ذلك القذر؟
ابتسم جدي وقال: غول حزين، يشبه التنّين، كان منكفئاً في العرين، تحسبه الرعية من أهل الدين، فأغدق عليه النسر من اليقطين، وقلده أعلى النياشين، ظناً منه أنه القوي الأمين، وما علم أن قلبه مليء بالحنين، إذ لم يلبث عاماً حتى انقض على ولي نعمته، فزجّه في السجن مع أهله وعشيرته، واتهمهم بالخيانة، وتضييع الأمانة، فيا لله، كيف تصنع البطانة!
قال سهم بن كنانة: وسرّح جدي طرفه في الأفق، غير أن الحياة أصبحت في عيني كالنفق، فسألته: وهل استقر الأمر للتنّين، فقد حدثنا التاريخ أن عزم المحروسة لا يلين؟
كان في مصر نسر مهيب، ذو شأن عجيب، يسلب العقولَ حسنُه، ويأسر القلوب لونُه، وقد بسطت له الطيورُ يديها، وتوّجته ملكاً عليها، وكان فاتن الريش، لكنه لا يتيه ولا يطيش، ويطير من مرسى مطروح إلى العريش، محلقاً في الآفاق بحرية، لا خائفاً عدواً ولا هائباً منية، وتعودت الطيورُ أن تحبَّه، لأنه لم يكن يخشى إلا ربَّه، ولم يكن أحد يتوقع منه انقلابا، أو يتوجس منه إرهابا، فقد كان باذلاً للمعروف، ناصراً للملهوف، قائماً بالحق، ناطقاً بالصدق، غير أنه غفل عن مكائد الحاشية، ولم يشعر بتربص الزبانية، وربما طعنك خسةً ابنُ زانية، ووُلد من رحم العدل شر طاغية.
قلت: من مأمنه يُؤتى الحذِر، فمن كان ذلك القذر؟
ابتسم جدي وقال: غول حزين، يشبه التنّين، كان منكفئاً في العرين، تحسبه الرعية من أهل الدين، فأغدق عليه النسر من اليقطين، وقلده أعلى النياشين، ظناً منه أنه القوي الأمين، وما علم أن قلبه مليء بالحنين، إذ لم يلبث عاماً حتى انقض على ولي نعمته، فزجّه في السجن مع أهله وعشيرته، واتهمهم بالخيانة، وتضييع الأمانة، فيا لله، كيف تصنع البطانة!
قال سهم بن كنانة: وسرّح جدي طرفه في الأفق، غير أن الحياة أصبحت في عيني كالنفق، فسألته: وهل استقر الأمر للتنّين، فقد حدثنا التاريخ أن عزم المحروسة لا يلين؟
قال: صدقت، فالمحروسة تكره الخبَثْ، كما يكره الصائم الرفَثْ، وهي ربما تهدأ لتستجنَّ الحِمم، ثم تنفجر إذا عركها الألم، فسبحان من يذكي الهمم، ويحيي الرمم، ويكتب بالثورات تاريخ الأمم، لقد انتفضت مصر عن بكرة أبيها، في وجه جلاديها وغاصبيها، ولم يتم الأمر للتنّين، رغم ما له من ناصرين، أمدُّوه بأموال وبنين، حتى ظن أن كيده متين، فأخذته العزة بالإثم، وقال: إنما أوتيته على علم، وصاح بمن حوله: ذروني أقتل النسر ومن معه، أو أزج بهم في المعمعة، فإنهم ذوو لؤم وضعة، ونوايا مروّعة، والدليل أصابعهم الأربعة، وطفق يسوس الدهماء، كما تُساس الإماء، وبدّل الأسماء، وأراق الدماء، حتى ضجت الأرض والسماء، بل هتك أعراض الحرائر، كما يفعل كل مستبدٍّ جائر، ونسي أن على الباغي تدور الدوائر، ولم يقض نهمته، إذ راحت أبواقه تشتم النسر، وهو يرزح تحت وطأة الأسر، فلم ير الخلق مثل هذا الغدر، ولم يعهدوا مكراً كهذا المكر.
قال سهم بن كنانة: قلت لجدي: لا ريب أن قوماً تبعوه، كما فعل فرعون أبوه، الذي استخف قومه فأطاعوه
قال سهم بن كنانة: قلت لجدي: لا ريب أن قوماً تبعوه، كما فعل فرعون أبوه، الذي استخف قومه فأطاعوه
فقال: سار خلف الغول، خليط من سِفْلةٍ وفلول، يفعلون ما يفعل ويقولون ما يقول، يمشون خلفه زرافات ووحدانا، ولا يسألونه عما يدعي برهانا، حتى قال شاعر في ذلك الزمان:
وساعد التنين أن الضعاف توسمّوا فيه القوة، ورأوا فيه مثال الفتوّة، فأرغى وأزبد، وأبرق وأرعد، وزادهم رهقا، حتى لم يدع فيهم رمقا، وخيّل إليه أن الإناث يعشقن رجولته، ويشتهين فحولته، فناداهن بأرق الكلام، واستمالهن بالمنى والأحلام، وطلب منهن النزول إلى الشوارع، ومناداته بالقوي والبارع،
إلى الله ذي الرحمةِ المشتكى
إليه وقد خاب من أشركا
يعربدُ في مصرَ كذابُها
ويغدو بحبل الخنا ممسكا
ويسخرُ من جهله السامعون
إذا في منابرهم قد حكى
ولكنَّ منْ قومِه سالكين
وراء دعاياتِه مسلكا
يتيهون من سكرةٍ في الدجى
وكان الدجى موحشاً مُهلِكا
«وكم ذا بمصرَ من المضحكاتِ
ولكنه ضَحِكٌ كالبكا»!
وساعد التنين أن الضعاف توسمّوا فيه القوة، ورأوا فيه مثال الفتوّة، فأرغى وأزبد، وأبرق وأرعد، وزادهم رهقا، حتى لم يدع فيهم رمقا، وخيّل إليه أن الإناث يعشقن رجولته، ويشتهين فحولته، فناداهن بأرق الكلام، واستمالهن بالمنى والأحلام، وطلب منهن النزول إلى الشوارع، ومناداته بالقوي والبارع،
وقال قائل المصفقين عنه: «مستبد ولكن محبوب، قاتل ولكن كالعسل على القلوب»،
وقالت مصفقة: «نحنقوم لا يصلحنا إلا الذبح، فعسى الحبيب أن يأتي بالفتح، فإن معه الدواء لكل جرح»،
وقال آخر: «ما كان التنين ليظلمنا لولا النسر، فهو الذي مهّد لكل هذا العسر»،
وأنكر بعضهم جرائم التنين، وقالوا: هو بريء من دم المصريين، وإنما قتل أنصار النسر أنفسهم لينالوا من سمعته، وليتسلقوا سلّم الحكم على جثته، وانتشرت بين الجواري صور التنين، حتى ظهرت على القمصان والفساتين، واتخذ قوم من حذائه عمامة، فرضوا أن يكونوا بمنزلة القمامة، وهتفت باسمه النوادي، وغنت الفلول: «تسلم الأيادي».
ورد شعراء ذلك الزمان بأغنيات وقصائد تهجو الغول وطغمته، منها قول أحدهم بمناسبة مرور مئة يوم على الانقلاب:
قال سهم بن كنانة: وشدتني قصة المحروسة، وجرائم الغول المنحوسة، وعجبت كيف التف قوم حوله، رغم أنه هدم البناء وأجهض الدولة، إلا أن جدي أدهشني أكثر عندما قال: عندما ازداد تغول التنين، وقتل البنات والبنين، وهو يصفهم في أبواقه بالملاعين، تماهى أتباع الانقلاب مع الغول، فأصبحوا مزيجاً من صرب ومغول، ولاحظ أنصار النسر عليهم تحولات غريبة، إذ أطلت من خلف سراويلهم ذيول، وصار بعضهم كالبقر الذَّلول، وظهر لبعضهم أشفار، وبعضهم صار ينفث من فيه النار، ومنهم من صار كالزواحف، ما بين أفاعٍ وسلاحف، والأمر وإن كان مؤسفاً، إلا أنه قوّى النسر وأنصاره، وعرّى الغول وأخطاره، وقد أنشد أحد الشعراء المؤيدين للحق يومذاك:
قال سهم بن كنانة: وكان جدي على موعد مع زوجته الرابعة، التي أنجبت له صبية سمّاها «رابعة»، تيمناً بما حدث في مصر، وما أكرمها الله به من نصر، فاستأذنني للذهاب جدي، وبقيت مع كتب التاريخ وحدي.
مئة تمرُّ.. وحقدهم مرُّ
والناعقون لبغيهم كُثْرُ
سيرون كيف تهُبُّ قاهرةٌ
لا يستتبُّ بأرضِها قهرُ
سيرون أهراماتِها لهباً
والنيلُ في أحضانِها جمرُ
محروسةٌ بالله عزتُها
وبهيةٌ يرنو لها البدرُ
يا طغمة الأوباشِ إن لنا
يوماً يتيه بحسنِه الدهرُ
نقتصُّ للإسلام من ملأٍ
بُهْتٍ.. وكل فعالِهم شرُّ
قد أخضعوا للكفرِ دولتَهم
فليخسؤوا.. وليخسأِ الكفرُ
يا مصرُ يا حبيبةَ القلوبِ
يا بهجةَ السناءِ في الدروبِ
والله ذي الجلالِ لن تخيبي
لن تُهزمي من خائنٍ كذوبِ
من بائعِ البلادِ في مزادٍ
مستهترٍ بشعبِه لعوبِ
جبينُك الوضّاءُ في علانا
تفوحُ منه نسمةُ الطيوبِ
فرابطي يا مصرُ أنتِ حصنٌ
لمشرقٍ يموجُ بالخطوبِ
وقاومي يا زهرة البرايا
من يزدرون ثورةَ الشعوبِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق