هل ستتورط مصر في مستنقع غزة ؟
في الوقت التي كانت الجموع الغفيرة من المصريين مرابطة في الميادين ، بين مؤيد ومعارض للرئيس المصري محمد مرسي ، والجميع قد حبس أنفاسه في انتظار ما سيفسر عنه بيان الانقلاب العسكري ، وفي 2 يوليو تحديدا حطت طائرة عسكرية إماراتية حاملة على متنها مستشار الأمن القومي الإماراتي " هزاع بن زايد " في زيارة لم يعلن عنها مسبقا ، لم تستغرق سوى سويعات قليلة ، للتباحث في كيفية إدارة المشهد السياسي في مصر بعد التخلص من الرئيس مرسي وجماعة الإخوان المسلمين ، العجيب أن هزاعا لم يأت بمفرده بصحبته واحد من أعتى شياطين المنطقة ، وأكبر عميل إسرائيلي في العصر الحديث ، والعدو الأول للشعب الفلسطيني ؛ محمد دحلان ، الذي اتضح أنه يعمل مستشارا أمنيا ومخابراتيا لمحمد بن زايد حاكم أبي ظبي ، وكان دحلان قد لجأ إلى الإمارات بعد فراره من فلسطين بعد هزيمته في غزة سنة 2007 ، ثم طرده من منظمة فتح سنة 2009 إثر خلافاته مع محمود عباس ، وسعيه للإطاحة به .
ثم توالت الزيارات السرية والعلنية لهذا العميل الصهيوني إلى مصر ، وكثرت اجتماعاته الأمنية مع المسئولين المصريين ، ولكن آخر زياراته يوم الخميس 16 يناير هي التي كانت تبعث على الريبة والشك ، ذلك لأنه قد اجتمع مع الفريق السيسي ، ثم اجتمع بعدها مع البابا تواضروس رأس الكنيسة الأرثوذكسية ، وأحد أهم وشركاء المشهد الانقلابي في 3 يوليو الماضي .
مما حدا بالمراقبين للتساؤل عن أبعاد الدور الذي يلعبه هذا الشيطان المريد في مرحلة ما بعد الانقلاب العسكري ؟
لم يعد الأمر خافيا على أحد أن حركة حماس الحاكمة لقطاع غزة منذ 2007 ، كانت أكبر المتضررين من سقوط الرئيس المصري ، وسيطرة العسكر على مقاليد الأمور ، فحماس قد استفادت كثيرا وعلى كل الأصعدة من وصول الإخوان إلى الحكم في مصر ، لذلك كان عليها أن تكون على رأس قائمة كشف حساب الانقلاب ، للروابط الأيديولوجية والسياسية بين حماس والإخوان .ويبدو أن الأمر يخطط له منذ فترة ، فقد سبقت مرحلة الانقلاب العسكري تمهيدا إعلاميا بالغ الضراوة ضد غزة وحماس ، وشيطنتها بصورة مروعة لم تفعلها وسائل إعلام الكيان الصهيوني ، عبر وسائل الإعلام الخاصة والمملوك معظمها لرجال أعمال نظام مبارك ، ومن ورائهم مستثمرين إماراتيين ، وتم خلالها تحميل الحركة كل أزمات ومشاكل الداخل المصري من انقطاع كهرباء ،ونقص وقود ، وارتفاع أسعار ، وانتشار سلاح ومخدرات ، وظهور جماعات مسلحة ، وتهريب سلع وبضائع .
حتى أصبحت حماس في حس الجمهور المصري أو على الأقل الكاره منهم لجماعة الإخوان ، هي مصدر كل شرور ، والعدو الأول للشعب المصري . وقد تمت هذه الشيطنة بصورة تدريجية منهجية ، حتى أصبحت أصابع الاتهام توجه أوتوماتيكيا إلى حماس عند حدوث أي أزمة مصرية ، حتى وصل الأمر لإحالة أعمال الثورة المصرية المجيدة في 25 يناير كلها على المخططات الحمساوية والإخوانية في مصر .
كل هذا الحرث والتمهيد كان مقدمة لما هو أخطر وأبعد من التلكؤ لإخوان مصر ، أو تشويه صورتهم ، واتخاذ ذلك ذريعة للانقلاب على الرئيس المنتخب . فمنذ وقوع الانقلاب والجيش المصري يقوم بحملة ضارية تستهدف قطع شرايين الحياة عن غزة من أجل دفع سكان القطاع للثورة على حركة حماس على غرار ما حدث مع المصريين في مشهد 30 يونيه ، فقد قام الجيش المصري بهدم أكثر من 80% من الأنفاق البالغ عددها 1200 نفق بين القطاع ومصر ، وعليها تقوم مصادر الحياة في القطاع في ظل الحصار الإسرائيلي الخانق ، ثم قام الجيش بغلق معبر رفح ، وهو المعبر الوحيد الذي يربط القطاع بالعالم الخارجي ، مما أدى لتعطيل معظم النشاط الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي في القطاع ، كما قامت سلطة الانقلاب بتجميد العلاقات مع حماس ، ومنع قادة حماس من دخول مصر أو مغادرتها لمن كان فيها ، كما قامت بسلسلة من إجراءات التضييق الإداري على الوافدين والمقيمين الفلسطينيين ، والتلويح بسحب الجنسية المصرية التي منحت لأي فلسطيني بعد ثورة 25 يناير .
ولكن على ما يبدو أن هذه الإجراءات والخطوات التصعيدية لم تكن كافية لنيل الرضا الأمريكي الكامل ، لذلك قرر الإنقلابيون المضي قدما إلى آخر النفق المظلم ، فقد توترات التهديدات الأمنية المصرية باجتياح قطاع غزة ، والإطاحة بحركة حماس في الأيام الماضية بصورة استرعت انتباه الجميع ، فقد كشف مسئولون أمنيون كبار في مصر لوكالة " رويترز " أنه بعد سحق جماعة الإخوان المسلمين في الداخل، فإن السلطة الحاكمة في مصر التي يدعمها الجيش تخطط لإضعاف حركة المقاومة الإسلامية حماس التي تدير قطاع غزة.
كما نقل عنهم تقرير "رويترز"، إن رجال مخابرات يخططون بمساعدة ناشطين وخصوم سياسيين لحماس لإضعاف مصداقية الحركة ، ويقصدون بذلك حركة " تمرد " الفلسطينية التي أسسها رجال " دحلان " في القطاع .
وقال مسئول أمني كبير، وفقا لرويترز، طلب عدم نشر اسمه بسبب حساسية الموضوع: "غزة هي التالية." وأضاف: "لا يمكننا أن نتحرر من إرهاب الإخوان في مصر دون وضع نهاية له في غزة الواقعة على حدودنا ، نعرف أن حماس هي إخوان، وأن أعضاء الإخوان إرهابيون، ولا يمكن لأي بلد أن يتطور مع وجود إرهابيين فيه".
وعندما سئل: لماذا لا تلاحق المخابرات المصرية حماس الآن؟ قال مسئول أمني ثان: "سوف يأتي يومهم".
وبالتزامن مع هذا التصعيد المصري ضد القطاع والحركة ، أخذ الجانب الإسرائيلي يمضي قدما في استعداداته العسكرية التي بدأها بتغيير سياساته الأمنية على حدود القطاع ، فقد كشف إسرائيل عن اعتماد إستراتيجية جديدة لحماية آلياتها وجنودها بالقرب من حدود غزّة، فهي أخلت المواقع من الجنود إلى حدّ كبير واستبدلتهم بأجهزة إلكترونيّة متطوّرة، وأقامت تلالاً من الرمال ومناطق ألغام أرضيّة بالقرب من المواقع العسكريّة، معتبرين ذلك مقدّمة لتحضير الميدان العسكري على الحدود مع غزّة لمواجهة قادمة، بالتزامن مع التطوّرات المصريّة.كما أعلنت مؤخراً عن تطوير معدّات المراقبة المستخدمة لرصد قطاع غزّة، تشمل رادارات وأسلحة يتمّ التحكّم بها عن بعد بالإضافة إلى مناطيد تحلّق على ارتفاع يصل إلى 300 متر، لمساندة قوات المشاة في رصد كل شبر على الحدود مع غزّة وجمع معلومات استخباراتية ميدانيّة مطلوبة على مساحات واسعة. وكلها معلومات تهيئ بها إسرائيل الأجواء محليا وإقليميا لعمل حربي ضد القطاع ، على الرغم من انتفاء مبرراته . مما حدا بالمسئولين في حركة حماس لإطلاق تهديدات حقيقية بقصف تل أبيب نفسها حال قيام أي جانب سواء المصري أو الإسرائيلي بالهجوم عليها .
فهل يفهم من كل هذه التحركات والتصريحات أن الجيش المصري سيقدم على التورط في مستنقع غزة التي هي واحدة من أكبر مقابر الطغاة في التاريخ ، وعلى أبوابها تحطم الكبرياء الصهيوني عدة مرات ، آخرها في نوفمبر 2012 ؟
بالطبع كل الاحتمالات واردة في منطقة تمور بمخاض نظام عالمي جديد ، وتتصارع على سيادتها والهيمنة على مقدراتها كل القوى العالمية ، ولم تعد للسيادة الوطنية معنى معتبر عند اتخاذ القرارات المصيرية ، ولكن قراءة المشهد المصري وتحركات سلطة الانقلاب خلال الشهور الماضية تجعل من مسألة الهجوم على غزة ولو في الوقت القريب بعيدة نسبيا .
فالداخل المصري منهك بأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية شديدة الخطورة ، وتقييم الحالة يقود حتما لاستبعاد فرضية الإقدام على عمل كبير وجزافي مثل الهجوم على غزة .
فالجيش ما زال متورطا لأذنيه في سيناء ، ورغم مرور عدة شهور على الحملة الأمنية العنيفة على سيناء إلا إن المردود الفعلي من هذه الحملة ما زال ضعيفا ، والخسائر كبيرة على الرغم من تكتم الإدارة المصرية عن الأرقام الحقيقية لها .
أيضا الحراك الثوري الرافض للانقلاب يتصاعد بقوة ، وتتمدد قاعدته الشعبية يوما بعد يوم ، رغم الجهود الضخمة التي تبذلها سلطة الانقلاب في تقليصه وقمعه .والأزمات الاقتصادية الطاحنة تمنع أي إدارة من الإقدام على عمل حربي من هذا العيار ، حتى ولو كان على بقعة صغيرة بحجم قطاع غزة ، ناهيك عن أن الجهوزية القتالية للجيش المصري الذي لم يخض حروبا مفتوحة من عشرات السنين ، ليست على المستوى اللازم لشن حرب على حركة قتالية عالية الكفاءة حسنة التجهيز مثل حماس ، على صلابة مقاتليها انكسرت الغطرسة الصهيونية عدة مرات .
وعلى هذا نستطيع أن نفهم ونقيم التصريحات العدائية الأخيرة للأمنيين المصريين ، وتهديداتهم بالهجوم على غزة ، والإطاحة بحركة حماس ، أنها نتاج عاملين رئيسيين : أولهما توجيه رسائل غزل وتودد للجانب الأمريكي ، فسلطة الانقلاب ما زالت تعاني من قطيعة دولية ، وغياب الشرعية ، بسبب توصيفها كسلطة غير منتخبة ، لذلك فهي تحاول من خلال هذه التهديدات لفت نظر الأمريكان إلى أنه يجدر بهم الاستثمار في دعم حكمه بسبب دورها في مكافحة الإرهاب .
أما ثانيهما : الضغط السعودي الإماراتي وكلاهما أكبر ممول للانقلاب ، للتصعيد ضد الحركة . ولعل ظهور شخصية " دحلان " في المشهد المصري عدة مرات من آثار هذا الضغط ، فدحلان يحظى بمظلة إماراتية سعودية قوية ، وعلاقاته مع المسئولين الكبار فيهما مهدت له السبيل للتقارب مع قادة الانقلاب ، والتنسيق الكبير بينهما في الجهود الرامية للإطاحة بحركة حماس .
ونظرا لأن القرار المصري لم يعد قرارا سياديا ، وشأنا داخليا منذ انقلاب 3 يوليو فكان من الطبيعي أن تستجيب سلطة الانقلاب لمثل هذه الضغوط الخليجية .
ومهما يكن من جدية هذه التهديدات أو عبثيتها ، ومهما يكن من دوافع للإقدام عليها ، فإن خطوة من عينة الهجوم المصري على غزة كفيلة بتفجير المنطقة من أقصاها لأدناها ، لأنه سيكون إيذانا باندلاع حرب إقليمية ، يمتد لهيبها ليحرق أطرافا كثيرة ، ولن يقو أي طرف وأولهم الإنقلابيون أنفسهم ، وممن يقف خلفهم ، على تحمل فاتورة حرب تشن بالوكالة لصالح أطراف خارجية ، وتنفيذا لإملاءات خارجية ، واسترضاء ومغازلة لأطراف خارجية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق