أيها المنصّرون :
ما الذى ستقولونه للمسلمين ؟!
الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
إن النهم الذى لا يكل ولا يهدأ لعملية تنصير العالم بحاجة إلى وقفة لنفهم أبعادها بوضوح.
فلقد قرر مجمع الفاتيكان الثانى (1965) تنصير العالم، وأعلنها بداية على إستحياء، ثم أعلنها يوحنا بولس الثانى صراحة من مدينة شانت يقب سنة 1982 موضحا رغبة الكنيسة فى تنصير العالم وفقا لكاثوليكية روما، أى إقتلاع كافة الديانات الأخرى.
وفى نفس الوقت أعلن المجمع عن إنشاء لجنتين لتنفيذ هذا القرار : واحدة لتنصير الشعوب، والأخرى للحوار بين الأديان. وهذا الحوار يعنى من جهة كافة الفرق المسيحية المنشقة، ومن ناحية أخرى كل الديانات غير المسيحية وأولها الإسلام. لذلك من الضرورى أن نرى فى عجالة مسيرة الكنيسة الأم فيما يتعلق بهذا التنصير.
إن الخلط المحبط الذى يطالعنا من تاريخ المجامع منذ بدايتها، يكشف كيف كانت الخلافات تدب بين بطرس وبولس ويعقوب شقيق يسوع، وكيف تم إستبعاد برنابا، الذى إختاره الروح القدس للتبشير معهم، وكيف أن هذه الإجتماعات كانت تنعقد لحل الخلافات والصراعات التى تعترى الحواريين أو الأتباع، بسبب أغراض شخصية أو أزمات محلية أو صراعات كهنوتية.
مجالات مغلقة تتصارع فيها بعنف رحى العقائد المتناقضة لكنها تكشف فى نفس الوقت كيف كانت العقيدة تتحدد وتصاغ عبر المجامع وسط العديد من التنازلات والمتناقضات أو الإستبعاد تماما.
وإن كانت الكنيسة تقول أن التنصير بدأ مع بولس الرسول، فإن حقبته الكاسحة تعود إلى مجمع ترانت (1545ـ1563). ويكشف التاريخ عن مقتل أكثر من مائة مليون شخصا لمجرد أنهم يعتنقون ديانة مخالفة لديانة كنيسة روما.
وفى هذه الأثناء، من ذلك المجمع المنعقد فى القرن السادس عشر حتى مجمع الفاتيكان الثانى فى القرن العشرين، عاشت الكنيسة طيلة الوقت فى حالة الدفاع عن النفس، لأن كل ما قامت به من تزييف وتلاعب بالنصوص وتحريف كان قد تكشف بوضوح بل كان ينتقده بعض رجال الكنيسة الأمناء.
وكانت الإعتراضات تنصب بداية على البنيات الهيكلية والدينية، ثم راحت تفضح زيف التنزيل باسم العقل والمنطق. أى أنه تم تفنيد العقيدة بموجب العقل والمنطق وبموجب التقدم العلمى.
وكرد فعل للدفاع عن الذات والتبرير أعلنت الكنيسة : أنهم ينكرون حتى وجود الله باسم المادية ، ووضعت الخطأ ببساطة على حساب الإلحاد فى القرن التاسع عشرة والعشرين، بسبب فرويد وماركس أو نيتشة، دون أن تتناول أبداً السبب الحقيقى لهذا الشرخ الفاصل الذى أبعد الأتباع عن الكنيسة، وهو : أن كل الإكتشافات والأدلة العلمية الدامغة والإعتراضات التى قام بها عصر التنوير وتواصلت حتى عصرنا هذا قد تم التعتيم عليها وكتمانها ببدعة التنصير التى إبتدعها مجمع الفاتيكان الثانى، على أنها الحل الوحيد لعدم إنهيار المؤسسة الكنسية تماما !
أى بقول آخر : إن مجمع الفاتيكان الثانى كان أداة الطمس الماحية التى فرضتها الكنيسة على كل عمليات النقد والكشف الموثق لتحريفها الذى قام به عصر التنوير..
وبخلاف الوثائق التسعة التى أصدرها مجمع الفاتيكان الثانى، فإنه قد فرض ما أطلقوا عليه "التحديث" الذى يؤكد وحدة "الصليب" و"البعث" الذى لم يره أحد "لأن النسوة خفن ولم يقلن شيئا" عن القبر الخالى (مرقس 16 : 8) ؛ وفرَضَ عملية تنصير العالم كواجب إجبارى على كل مسيحيى العالم، جاعلا بذلك من الأقليات المسيحية أناس يتعاملون بوجهين وفى وضع العملاء بالنسبة للبلدان التى يعيشون فيها ؛ وأقر بأن السيدة مريم هى "أم الله" و"أم المسيح الفادى" ، مناقضا بذلك نصوص الأناجيل بل ومنطق العقل الإنسانى ؛ ووضع الكنيسة بكلها فى مهمة التنصير رغم تناقض ذلك مع المؤسسات التنصيرية القائمة أو المنصرون المندسون وسط الشعوب ؛ وأدخل لعبة "الحوار" مع عملية التنصير.
وهو ما قام بخلق مشكلة جديدة للكنيسة : القيام بالحوار بدلا من إثبات أخطاء الديانات الأخرى كما يزعمون، والإحترام بدلا من النقد ، وهو ما يتضمن أيضا أن الديانات الأخرى بها عناصر تؤدى الى الخلاص من المفهوم الكنسى .. فما معنى إقتلاعها ؟!
وبدأت عملية غسيل العقول بسلسلة متواصلة من الإحتفالات والخطب الرسولية نذكر منها على سبيل المثال: العام المقدس للفداء سنة 1983، والعام المريمى 1987ـ1988، وإحتفالات الأيام العالمية للشباب ..
ومجموعة من النصوص منها : "إعلان وبشارة" 1991، والخطاب الرسولى للبابا بولس السادس "التبشير بالإنجيل" 1975 ، ويوحنا بولس الثانى "المسيح فادى البشر" 1987 وعنوانه الفرعى : "الصلاحية الدائمة لرسالة الكنيسة التنصيرية" ويليه إشارة إلى إنخفاض حماس عملية التنصير وتناقصها ، دون ذكر الأسباب الحقيقية لذلك.
كما حاول بنديكت 16 أن يعطى نفحة جديدة للتنصير بعمل "سينودس للتبشير الجديد وتوصيل الإيمان المسيحىى (7ـ28 اكتوبر 2012) ، ثم "عام الإيمان" (11 اكتوبر 2012ـ24 نوفمبر 2013) بمناسبة مرور خمسين عاما على مجمع الفاتيكان الثانى ، وقام بتأسيس "المجلس البابوى لتفعيل التنصير الجديد".
أما فرانسيس ، البابا الحالى، فإن التنصير هو الموضوع الأساس لبابويته، أيا كانت التصرفات البهلوانية التى يقوم بها أو الإبهار الذى يضفيه على المسرح الذى يعتليه.
وإذا رجعنا إلى الوراء فى نظرة تحليلية سنجد أن مسيرة التنصير قد ارتبطت بلا انفصام بالسياسة بفضل الإستعمار : فلقد زودت الإمبراطورية الإستعمارية الحماية اللازمة والسند المالى للمنصّرين.
لذلك كانت أزمة أعوام 1960 و1970 المصحوبة بالتحرر من الإستعمار قد سمحت للمنصّرين بالإنتشار فى العديد من البلدان خاصة فى إفريقيا وآسيا، بما أن التنصير والمنصّرون يمثلون الوجه الآخر للإستعمار.
ونظام العولمة أو النظام العالمى الجديد الذى يرسّخ قواعد إستتبابه حاليا يغبن حق قطاع كبير من سكان العالم، خاصة الفقراء، ويستبعد كتلا بشرية بأسرها من الخروج من أزمات الفقر الذى تعانيه ، لكن قادة الكنيسة يتقبلونه ويتعاونون بترحاب.
فسواء أكان بولس السادس أو يوحنا بولس الثانى او بنديكت السادس عشر أو حتى فرنسيس الحالى فقد تغنوا جميعهم بالنظام العالمى الجديد ، المستفيد الوحيد من تنصير العالم.
وخطوة أخرى إلى الوراء توضح لنا كيف كانت المجامع الكنسية، المحلية او العالمية، تقوم بصياغة وتشكيل العقائد ، ونذكر منها على سبيل المثال : استقرت عبادة القديسين والملائكة حوالى سنة 375 ؛ وإقامة القداس باللاتينية سنة 394 ؛ وتطورت عبادة مريم حوالى 430 ، وفكرة أنها "أم الله" حوالى 481، واستتبت عقيدة الحمل العذرى سنة 1854.
واكتشفوا المطهر سنة 593 لكنه لم يتحول إلى عقيدة إلا سنة 1439 ؛ وتم فرض عبادة الصور سنة 788 ؛ والمياة المباركة سنة 850؛ وفرض العذوبية الإجبارية على القساوسة سنة 1074 ؛ ومعصومية الكنيسة من الخطأ سنة 1076 ومعصومية البابا من الخطأ سنة 1870 ؛ واستخدام المسبحة نقلا عن المسلمين سنة 1100 وأعاد فرضها البابا الحالى هذا العام ؛ وبيع صكوك الغفران سنة 1190 ولا تزال مستمرة ؛ وعقيدة تحول الخبز والنبيذ إلى لحم ودم المسيح حقيقة فى الإفخارستيا سنة 1215.
كما تم فرض الإعتراف إجباريا للقس لمزيد من مراقبة الأتباع سنة 1215 ؛ وسنة 1546 تمت مساواة التراث الذى كتبه البشر بالنصوص الإنجيلية التى كانت تفرض على أنها منزّلة إلى أن أكد مجمع الفاتيكان الثانى على أنها من صنع البشر بإيحاء من الروح القدس! وهو ما يعنى أنه لا يوجد أى نص منزّل حقا وإن كل تلك النصوص والعقائد تمت صياغتها وفقا للظروف السياسية والإجتماعية.
كما نطالع أيضا أنه فى القرن الثالث عشر منع البابا إينوسنت الثالث قراءة الكتاب المقدس بلغة الشعب وأقام محاكم التفتيش والبوليس الدينى ليقوم بتطبيق الإلتزام بقرارات البابا.
وقام بولس السادس بمنع إمتلاك ترجمات إنجيلية دون تصريح من محكمة التفتيش.
وفى مجمع تولوز سنة 1229 حرّم جريجوار التاسع على المسيحيين إمتلاك اى نسخة من الكتاب المقدس وألغى كافة الترجمات : وأصبح منع قراءة الكتاب المقدس واقع فعلى. وفى القرن السادس عشر أضاف مجمع ترانت 11 إصحاحا مستبعدا إلى قائمة إصحاحات العهد القديم ولم تكن واردة فى الإصحاحات التى يقولون عنها "ملهمة". وتمت هذه الإضافة فى تناقض واضح مع القائمة التى كان اليهود قد وضعوها وكانوا أول المعنيين بالعهد القديم. ولا تزال هذه الإصحاحات موجودة فى طبعات الكاثوليك.
وفيما يتعلق بالكتاب المقدس، فبخلاف بضعة آلاف من المتناقضات وعدم التوافق أو عمليات التحريف الوارد ذكرها فى الموسوعات وغيرها، فلا يوجد أى نص أصلى من هذا الكتاب المقدس وكافة النسخ الموجودة منه تختلف عن بعضها بعضا.
وكوثائق قديمة لم يعد يوجد سوى ما تريد الكنيسة أن يتم الإطلاع عليه.
فإنجيل يوحنا مثلا يتضمن جملا تمت كتابتها فى النصف الأول من القرن الثانى، أى بعد قرن من صلب المسيح كما يقولون. ولقد أثبت معهد ويستار سنة 2013 أن كل نصوص "أعمال الرسل" تمت كتابتها فى القرن الثانى كإثبات لصحة ما تم من تعديل فى النصوص الأولى. والنسخة الكاملة المخطوطة القديمة المعروفة باسم "السيناوية"، من القرن الرابع، تتضمن أسفارا كالراعى هيرماس ورسالة برنابا وغيرها قد تم حذفها فيما بعد.
ويؤكد الأستاذ بارت إهرمان قائلا : "إن الكتاب المقدس لا يحتوى فحسب على عدم دقة أو أخطاء عرضية، وإنما يتضمن أيضا ما يطلق عليه الجميع اليوم كلمة أكاذيب"(محرّف، صفحة 5).
وأن كل أسفار العهد الجديد عبارة عن تزوير.
وبعد أن أثبت حقائق لا يمكن تفنيدها يؤكد قائلا : "من القرن الأول حتى القرن العشرين [عند صدور كتابه هذا]، قد رأى بعض من يطلقون على أنفسهم أنهم مسيحيون، أن يفبركوا ويزوروا ويحرفوا الوثائق ، فى معظم الأوقات لتأكيد السلطة التى كانوا يريدون فرضها على الآخرين" وهذا الخلط والتخبط فى سياق المسيحية لم يعد مقبولا اليوم.
وفى رسالته المعنونة : "فرحة الإنجيل" وضع البابا فرنسيس نفسه فى دائرة تنصيرية محيطها 360ْ !
فلقد أعاد صياغة المقترحات التى طرحها الأباء فى سينودس التنصير وأقام برنامجا شاملا متعلق بعملية التنصير.
وإن كانت كلمة فرحة قد وردت 27 مرة فى هذا النص، فذلك لم يمنع من رؤية كلمات من قبيل الخجل والخوف أو النفور تتناثر تحذيرا على استحياء ! "يجب الإعلان عن الإنجيل للجميع، بلا أى استثناء ؛ فكل الذين تم تعميدهم مسئولون مباشرة عن ذلك".
ومع هذا التحديد الواضح طلب من الأتباع أن يكونوا دوما "فى حالة تنصير دائمة".
واستشهد كدليل تبريرى بأن التنصير يخضع لأمر مباشر من يسوع : "فإذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والإبن والروح القدس" (متى 28 : 19)، وقد نسى أو تناسى أن بدعة الثالوث لم تكن موجودة أيام يسوع وأنه قد تم تأليفها وفرضها فى مجمع القسطنطينية سنة 381 !
وإن كان قد كرر أكثر من مرة فكرة ضرورة التنصير، فقد أكد بوضوح : "لنضع أنفسنا فى جميع بقاع الأرض فى حالة تنصير دائمة".
ونخرج من ذلك بأن عملية تنصير العالم هى قرار حاسم لا رجعة فيه ولا نقاش. ومع ذلك ، إن التبشير المفروض على هؤلاء البؤساء أن يقوموا به مبنى على فكرة "النبأ السار" أى قدوم "ملكوت الله" الذى لم يكف يسوع عن الإعلان عنه أو الذى يمثل فى واقع الأمر كل رسالته وفقا للأناجيل.
وهنا يقول يسوع بوضوح : "الحق أقول لكم إن من القيام ههنا قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوة" (مرقس 9 : 1). ويؤكد بولس على ذلك بقوله : "... إننا نحن الأحياء الباقين إلى مجئ الرب (...) ثم نحن الأحياء الباقين ..." (1تسالونيكى 4 : 15ـ17).
ورغمها، ورغم تأكيدات يسوع وتأكيدات بولس ، فبعد مرور حوالى الفى عام من التاريخ المحرّف فإن "ملكوت الله" لا يزال لم يأت، وأن معاصروا بولس قد ماتوا وشبعوا موتا !
وحينما نرى كل ما تمت كتابته كنقد واتهامات أو كشف للتحايل طوال هذه القرون، منذ أولى التعديلات والتحريفات التى تمت فى رسالة التوحيد، ندرك تماما معنى كلمات من قبيل الخجل ، والخوف ، والخشية أو النفور من التبشير التى ترد فى كثير من النصوص البابوية المتعلقة بتنصير العالم أو بالتبشير الجديد.
لذلك أسأل بوضوح تام : أيها المنصّرون ، ما الذى ستقولونه للمسلمين ؟ !
25 يناير 2014
Missionnaires, Qu’allez-vous dire aux Musulmans ?
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق