الجماهير إذ تقوّض أسوار الدعاية
أحمد بن راشد بن سعيّد
يمثل التناول الإخباري للظاهرة الإسلامية في عدد من الوسائط الخليجية خروجاً على نسق التناول المتوازن والعادل الذي يُعد من أهم تقاليد مهنة الصحافة.
ليست المشكلة تحريم نقد الإسلاميين، كما يزعم أعداء هذه الظاهرة، بل في «التحامل»، و التشويه، و «نزع الأنسنة»، الذي يتناقض تماماً مع كل ما يعنيه النقد.
ثم إن الخبر، وهو بيت القصيد هنا، ليس مساحة لهذا «النقد» المزعوم، ويجب أن يبقى بعيداً عن التأطيرات الإيديولوجية التي تزدري عقل المتلقي، وعن الدعايات الفجة التي تحاول «حشو» رأسه بقوالب نمطية، أو «حقن» فكره بانطباعات مسبقة.
لا بأس باستعراض بعض العناوين التي تصطدم بعنف مع ما تعارف عليه دارسو الصحافة وأخلاقياتها. نشرت قناة العربية على صدر شاشتها في أواسط شهر كانون الأول (ديسمبر) 2013:
لا بأس باستعراض بعض العناوين التي تصطدم بعنف مع ما تعارف عليه دارسو الصحافة وأخلاقياتها. نشرت قناة العربية على صدر شاشتها في أواسط شهر كانون الأول (ديسمبر) 2013:
«مصر: أكثر من 400 شرطي قُتلوا منذ بدء ثورة 30 يونيو». لا تفاصيل عمّن قتلهم، وكيف قُتلوا، وأين، ولماذا، بل لا مصدر للخبر. أين «الوجه الآخر للقصة»؟ كم قتل هؤلاء العسكريون «الضحايا» من المواطنين الأبرياء؟
وثمة نقطة أخرى لا تقل أهمية «غيّبتها» القناة خلطاً للأوراق، وإمعاناً في التضليل، وهي أن هؤلاء ربما لقوا حتفهم في سيناء، لا في داخل المدن حيث يقمع الجيش والشرطة وبلطجيتهما المحتجين على الانقلاب.
إنها صحافة «مسؤولة» و «مهنية»، وعلى القارئ أن يصدق شعارها: «أن تعرف أكثر».
عناوين شتى لقناة العربية تنقلها عن مصادر فلولية في مصر، ولا تتمتع بأي احترام، مثل جريدة «الوطن» التي نقلت عنها القناة قولها (في أواسط كانون الأول/ديسمبر 2013):
«جريدة الوطن تنشر تسجيلاً لرحلة عناصر من الإخوان لغزة للتدرب على السلاح»، و «عناصر» هنا «تأطير» يُقصد به «نزع الأنسنة» عن ضحايا التحامل، وتحويلهم إلى مواد كيميائية.
بثت «العربية» أيضاً لقاء مع الممثل عبد الرحمن أبو زهرة، ونقلت عنه في عنوان على شاشتها: «الفنان عبد الرحمن أبو زهرة يقاضي طلاب الإخوان في معهد السينما لخداعه»، أسلوب دعائي رخيص يقوم على الاستشهاد بشخصيات بارزة (appeal to authority) من أجل تدعيم موقف الدعائي (19/12/203).ذ
جريدة «البيان» الإماراتية نشرت عنواناً يقول: «عواصف الفساد تضرب حكومة إردوغان» (20/12/2013).
جريدة «البيان» الإماراتية نشرت عنواناً يقول: «عواصف الفساد تضرب حكومة إردوغان» (20/12/2013).
وفي 23 من الشهر نفسه غيّرت «العواصف» إلى «زوبعة»: «زوبعة فساد حكومة إردوغان تطيح 30 ضابط شرطة».
« المبالغة» (exaggeration) من تكتيكات الدعاية، سواء كانت لتضخيم منجزات الذات، أو لتضخيم «إخفاقات» الآخر/الخصم. جريدة «الشرق الأسط» نشرت على صدر صفحتها الأولى عنواناً مشابهاً: «قصة أبناء الوزراء تهز حكومة إردوغان» (20/12/2013).
وفي اليوم نفسه، نشرت جريدة «الخليج» الإماراتية هذا العنوان: «حملة مكافحة الفساد في تركيا تزيد وضع إردوغان هشاشة»، وهو تعبير يتضمن «افتراضاً مسبقاً» (presupposition)، إذ يُراد للقارئ أن يعلم أن وضع إردوغان هش بوصف ذلك حقيقة «مُسلّمة»، وجاءت الحملة لتزيده هشاشة فقط؛ لتزيد الطين بلة.
الصحيفة نفسها نشرت في التاريخ نفسه خبراً عنوانه: «الجيش المصري يواصل تطهير سيناء، ومقتل 3 تكفيريين».
هنا تظهر ثنائية تجريدية حدية، لا يملك القارئ أمامها إلا التسليم برواية منتجها: «التطهير» (تأطير يدخل في «تلطيف القبيح» euphemism)، مقابل «التكفير» (تأطير يتفادى التفصيل والتحليل بهدف الشيطنة «demonization»).
يعني التأطير (framing)، ببساطة، أن يقوم الوسيط الإخباري برسم إطار ما لرواية ما من زاوية ما، بحيث لا يرى المتلقي ولا يشم ولا يسمع إلا ما يريده منتج الرواية.
صحيفة «الحياة» مثلاً نشرت (في 21/12/2013) صورة لنساء منتقبات في مصر وهن يرفعن لافتة تقول: «قاطع دستور الانقلاب».
أرادت الصحيفة، على الأرجح، من اختيار الصورة تشكيل تأطير مؤداه أن المتدينين وحدهم هم من يرفض دستور طغمة العسكر. أمواج الدعاية التي «تُغرق» المشهد المصري بضباب كثيف هي أكبر من أن تحصيها دراسة أكاديمية.
من أبرز التأطيرات الدعائية التي الوسائط الانقلابية أو الموالية للانقلاب عن ضخها بين الفينة والأخرى الزعم بأن الاحتجاجات السلمية للشعب المصري، أو على الأقل «أنصار الشرعية» من أبنائه هي ممارسات «عنفية» تصدر عن الإخوان وحدهم.
هذا العنوان يتكرر على نحو شبه يومي: «اشتباكات بين الأمن والإخوان تسفر عن مقتل......» املأ الفراغ. عنوان ثابت، والمتغير فيه هو عدد الشهداء من أنصار الشرعية التي تصر أقنية الانقلاب على إخفاء هويتهم، وعلى إخفاء قاتليهم، من أجل منح «صدقية» كاذبة لتأطير «اشتباكات» الذي يوحي بنشوب معركة متكافئة بين طرفين.
في 21/12/2013 نشرت «الشرق الأوسط» في صفحتها الأولى هذا العنوان المفخخ: «بعد 28 عاماً من سيطرة الإخوان: امرأة نقيبة للأطباء المصريين». العنوان يحمل إيحاءً مؤداه أن الإخوان أعداء للمرأة، وبتفصيل أوضح: «الإخوان بحكم موروثهم الإسلامي يزدرون المرأة».
في اليوم نفسه، نشرت قناة العربية على صدرها المسكون بالغباء والتطرف عنواناً يقول: «إحالة مرشد الجماعة والقرضاوي و 128 من الجماعة وحزب الله وحماس إلى الجنايات»، وهي صياغة يمكن أن نستغرق المقال كله للحديث عن خستها وحقارتها، لكن أبرز ملامحها ما يُعرف في الدعاية بـ «التحويل» (transfer)، أو «الربط» (association)، حيث أقحمت «العربية» البروفسور محمد بديع (اقتصرت القناة على ذكر منصبه في جماعة الإخوان) والعلّامة يوسف القرضاوي (تعمدت القناة نبزه بذكر اسمه مجرداً من ألقابه العلمية) وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، مع ميليشيا عصابات طائفية إرهابية مرتدة تسمي نفسها «حزب الله».
وفي عنوان آخر لقناة العربية في اليوم عينه: «إحالة يوسف القرضاوي الموجود خارج البلاد للجنايات في قضية وادي النطرون». هكذا تتناول الدعاية المتصهينة عالماً من أكبر علماء المسلمين وكأنه «مجرم حرب»، وهكذا تنفّس قناة تلفزيونية متجردة من الأخلاق عن أحقادها وعُقَدها. التناول الإخباري الملوّن والمحمّل بالمواقف الإيديولوجية هو أكبر اعتداء على حق الجمهور في المعرفة (public right to know).
لا يدخل في هذا التناول «تفخيخ» العناوين فقط، بل الكذب الصريح (outright lie)، وعملية انتقاء الأخبار نفسها (news selection) التي تخضع هي الأخرى لمعايير إيديولوجية لا صلة لها لزاماً بالقيم الإخبارية (news values).
سأقدم عنا أمثلة سريعة: «محاولات إخوانية لإشعال الجامعات المصرية مجدداً» (العربية نت، 17/12/2013)؛
«الإخوان يهددون بتعطيل عملية التصويت على الدستور» (قناة العربية.
تأطير وكالة أنباء الأناضول للخبر نفسه: «التحالف المؤيد لمرسي يعلن رسمياً مقاطعة الاستفتاء على الدستور») (22/12/2013)،
«اغتيال مرسي آخر خيارات دفن أسرار الإخوان» (جريدة «البيان»، التاريخ نفسه)؛
«مرسي مرعوب من إقدام الإخوان على اغتياله» (البيان، 30/12/2013)،
«الشارع المصري يتعجل قانون الإرهاب لمواجهة الإخوان» (البيان، 26/12/2013).
«أنصار مرسي يقذفون قنابل الغاز المدمع باتجاه قوات الأمن» («الوطن» السعودية (20/12/2013) ناسبة الخبر إلى رويترز، وقد كذبت على الوكالة، والمواطنون إنما أعادوا قنابل الغاز على الجنود الذين قذفوها)؛
«محللون: تصريحات هيغل رسالة تحريض مبطنة إلى الإخوان لمواصلة الاضطرابات» (الصحيفة نفسها والتاريخ نفسه)؛
«خبراء يعتبرون رسالة الإخوان للجيش محاولة فاشلة لشق صفوفه» (الخليج الإماراتية، 23/12/ 2013)،
«مراقبون: فضيحة الفساد أسقطت النموذج التركي» (قناة العربية، 25/12/2013) (محللو «الوطن، و «خبراء» الخليج»، و مراقبو «العربية»، كل ذلك يمثل ضرباً من الدعاية السوداء التي تنسب التلفيق إلى مصادر مجهولة)؛ «طلاب الإخوان يفشلون في تعطيل امتحانات جامعة الأزهر» (افتراض مسبق (presupposition) يوحي بأن الإخوان مارسوا التعطيل قبل الفشل، ولا دليل على ذلك) (الخليج، 23/12/2013)، «عام سقوط الإخوان في مصر» (الشرق الأوسط، 29/12/2013) (كلمة «سقوط» تأطير يهدف إلى الحط من شأن حزب كبير تعرض لـ «إسقاط» لا «سقوط»)، «تحرك لتضييق الخناق على جماعة الإخوان الإرهابية» (الوطن السعودية، 29/12/2013؛ «الإرهابية» نبز بالألقاب، واستعارة للدعاية الانقلابية)،
«حرائق الإخوان تعطل امتحانات في الأزهر» (الحياة، 29/12/2013)،
و «الإخوان يشعلون مزيداً من الحرائق في الجامعات» (الخليج، 29/12/2013)،
«58 قتيلاً وجريحاً في فاصل إرهابي للإخوان» («عكاظ»، 4/1/2014)،
«المزاج العام في مصر متوافق على ترشح السيسي» («عكاظ»، 9/1/2014)؛
«عضو سابق بالقاعدة: الشاطر خطط لإنشاء حرس ثوري بمصر» (العربية نت، 6/1/2014)؛
«الإخوان «الإرهابية» تحرق سيارة في مصر لتعطيل الاستفتاء» («الجزيرة» السعودية، 11/1/2014)؛
«تحالف منشق عن «الإرهابية» يكشف خطة الإخوان بنشر الفوضى..» («المدينة»، 12/1/2014)؛
«مراقبون دوليون: المصريون صوتوا على الدستور وسط نزاهة وحياد» («عكاظ»، 16/1/2014)؛ «أجواء مثالية في التصويت على دستور مصر» («المدينة»، 13/1/2014)؛ «الشعب المصري يبتهج بنجاح التصويت على الدستور» («الرياض، 20/1/2014)؛
«شقة فوق مطعم تركي في لندن تحتضن اجتماعات للإخوان» (العربية نت، 14/1/2014، ربط غبي بين تركيا والإخوان)؛ «مستشرق بريطاني: الإخوان أقرب إلى الخوارج» («المدينة»، 27/9/2013)؛
واختارت «الحياة» هذه الاستعارة لتلميع العهد الانقلابي: «مصر تطوي عبر الصناديق صفحة حكم الإخوان» (14/1/2014).
لا معنى هنا للحديث عن صحافة مسؤولة (responsible journalism).
بل إني أخشى خداع القارئ لو وصفت هذه الوسائط الدعائية بوسائط صحافة أو أخبار.
نحن أمام أبواق تخلى النافخون فيها عن شرف المهنة وأخلاقياتها، وانهمكوا في دعاية فجة وحقيرة متوهمين أنهم سيكسبون بها العقول والقلوب.
لكن مأزق هؤلاء أنهم أتوا في الزمن الخطأ؛ لأن الجماهير أعرضت عنهم، وأقبلت على منظومات بديلة للمعلومات، متحررة من هيمنة قوى المصالح وأصحاب النفوذ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق