فزاعة الأمن القومي
في محيط إقليمي قدّر الله عز وجل أن يكون مسرحا لكل المتناقضات والعجائب والمكائد الدائرة على تقاسيمه وأراضيه ــ في منطقة الشرق الأوسط ـــ ، وحيث عالم اللا معقول ، أصبحت المفاهيم والمصطلحات الثابتة والمتعارف عليها في العلوم السياسية والإستراتيجة ، ألعوبة تلعب به الأنظمة والسلطات بحثا عن مليء عقول فارغة لشعوب تم تجهيلها وسلب إرادتها لعقود ، وتحشيدا لاكتساب شرعية مفتقدة ، أو تطويلا في أمد أنظمة شائخة على وشك الانهيار .
ومن أبرز المصطلحات التي يتم العبث بها ، وتوظيفها حسب الأهواء ، واستخدامها كفزّاعة لخلق تابوهات مقدسة لا يجرؤ أحد أن يقترب منها أو التفكير في انتقادها ؛ مصطلح " الأمن القومي " الذي أصبح مثل مسمار حجا الذي يحمل عليه كل الاجراءات الاستثنائية ، والقوانين القمعية ، وتبرير الاعتداء على أبسط حقوق الإنسان ، وانتهاك كل الحريات العامة والخاصة ، إلى آخر لائحة ممنوعات الأنظمة الشمولية الاستبدادية التي تعلق كل طغيانها وفسادها واستبدادها على شماعة جحا أو الأمن القومي . حتى رأينا طفلا يقبض عليه يتهمة حيازة مسطرة تحمل شارة رابعة بدعوى أنه ينتهك الأمن القومي ، وفتيات صغارا يحكم عليهن بإحدى عشرة سنة بدعوى الحفاظ على الأمن القومي . حتى أصبح هذا المصطلح الإستراتيجي بالغ الأهمية مبتذلا للغاية ، لا يعرف معناه الحقيقي معظم ساسة المنطقة وقادتها .
مصطلح الأمن القومي يعتبر من المصطلحات الحديثة في العلوم السياسية ، حيث لم يصبح مصطلحا مؤسسيا إلا في عام 1974 وهو تاريخ إنشاء مجلس الأمن القومي الأمريكي ، ومن يومها شاع استخدام هذا المصطلح في الحياة السياسية . ومفهوم الأمن القومي من المفاهيم الشاملة المتسعة التي تندرج تحتها العديد من التعريفات بسبب اتساع دوائر التهديدات الداخلية والإقليمية والدولية ، بحيث لم يعد الأمن القومي مقصورا على التعريفات العسكرية وحدها ، بل تشعب لتسع نطاقاته كل ما يخدم أمن الوطن والمواطن ورفاهيته واستقراره .
الأصل في قضية الأمن القومي تهيئة الظروف المناسبة والمناخ المناسب للانطلاق بالإستراتيجية المخططة للتنمية الشاملة، بهدف تأمين الدولة من الداخل والخارج، بما يدفع التهديدات باختلاف أبعادها، بالقدر الذي يكفل لشعبها حياة مستقرة توفر له أقصى طاقة للنهوض والتقدم . وبالتالي فشمولية الأمن تعني أن له أبعادًا متعددة منها :
البُعْد السياسي ويتمثل في الحفاظ على الكيان السياسي للدولة .
والبُعْد الاقتصادي الذي يرمي إلى توفير المناخ المناسب للوفاء باحتياجات الشعب وتوفير سبل التقدم والرفاهية له.
والبُعد الاجتماعي الذي يرمي إلى توفير الأمن للمواطنين بالقدر الذي يزيد من تنمية الشعور بالانتماء والولاء.
والبُعْد الأيديولوجي الذي يؤمِّن الفكر والمعتقدات ويحافظ على العادات والتقاليد والقيم.
والبعد الإنساني والذي يؤمَّن مقومات عيش الإنسان من مسكن ومأكل وتأمين حرمات وأعراض وغير ذلك من الحاجات الإنسانية الأساسية .
وعلى هذا فإن أساس الأمن القومي لأي دولة يقوم تحقيق الإجماع القومي أو السلام المجتمعي ، وهذا لا يتأتى إلا بالاعتماد على فكرة الدمج والاحتواء ، وليس الاستبعاد والاقصاء .
فأهم ركائز الأمن القومي تحقيق السلام المجتمعي ، حتى يشعر المواطنون جميعا أنهم شركاء في هذا الوطن ، يتقاسمون خيراته ، وينالون تقديرهم واحترامهم ومكانتهم في هذا الوطن ، ويجدون فيه الملاذ الآمن ، والمسكن الدافيء ، يشعرون فيه باحترام معتقداتهم وأفكارهم وما يؤمنون به ، كما يشعرون بالأمن على ممتلكاتهم وحرماتهم .
ومن هنا يتضح لنا حجم العدوان السافر على مفهوم الأمن القومي في محيطنا الإقليمي عامة ، وفي مصر بعد 3 يوليو خاصة . فأجواء الاستقطاب السياسي قد انتقلت عدواها للنسيج المجتمعي ، محدثة تمزق اجتماعي غير مسبوق في تاريخ مصر ، وبصورة ليس لها نظير في العالم الحديث سوى في البلاد ذات الاثنية العرقية أو الطائفية .
فالعبث بمصطلح الأمن القومي ، واتكاءا على شماعته التي لا يدري أحد من الساسة الموجودين حاليا مدى خطورة الموقف ، قد دفع البلاد دفعا نحو الهاوية .
فأكبر خطر يتهدد أي دولة هو حدوث الفتن الداخلية بين مكونات الشعب ، والتي عادة ما تنتهى إلى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر ، تخرج بالوطن أرضا وشعبا وحضارة واقتصادا من ذمة التاريخ ، فتصبح الدولة دويلات ، والوطن مقاطعات وهكذا .
سلطة الانقلاب في مصر اليوم تستخدم كل أدواتها من أجل تكريس هذا المفهوم البغيض ؛ مفهوم التقسيم الاجتماعي والنفسي والمعنوي ، مفهوم الشعبين .
فهي تحارب بكل ما أوتيت من قوة معارضي الانقلاب الذي هم فقط أنصار التيار الإسلامي ، مستخدمة كل موارد الدولة وأجهزتها الرسمية وغير الرسمية في سحق المعارضة الإسلامية ، ولو على حساب الأمن القومي .
فالإعلام يشيطن ، والداخلية تقمع ، والقضاء يقصي ، والجيش يحاصر ، والنخب تسفه الدين وأهله ، والشارع يستهجن ويلمز ويسخر ، حتى صارت البلاد أشبه بلوحة من الفن السريالي للفنان الإسباني الشهير سلفادور دالي ، من كثرة ما فيه من تناقضات ، وصلت لذروتها يوم 6 أكتوبر الماضي عندما كانت سلطة الانقلاب تحتفل بذكري الانتصار ، في الوقت الذي كان ذراعها الأمني يقتل خمسين مصريا ، ويجرح المئات ، لا لشيء إلا لأنهم يعارضون الانقلاب ، ثم يتكرر المشهد بصورة أشد بشاعة في الذكرى الثالثة لثورة 25 يناير ، أهازيج وأغاني ورقص في ميدان التحرير المؤمن برا وجوا من قوات الجيش ، في الوقت الذي سقط فيه العشرات من القتلى والمئات من الجرحى ، والمئات من المعتقلين ، على بعد عدة كيلو مترات من ميدان التحرير .
هذا الشقاق الاجتماعي هو أكبر وأخطر تحدى للأمن القومي المصري ، فإذا تمزقت قواعد الوطن الثابتة ، فكيف سيجيب الوطن على تساؤلات النهوض وتحقيق الرفاهية للمصريين ؟ وكيف سيؤمن الوطن حدوده المشغولة بأعدى أعداء الأمة ـ الصهاينة ـ ؟
وكيف سينهض من كبوته الاقتصادية ، ويتجاوز ملفاته الثقيلة ، وأزماته المزمنة ؟
وكيف سيواجه الوطن أزمة المياه وسد النهضة ؟
بل كيف سيواجه ويتجاوز المشاكل والأزمات الدولية التي نشأت من توصيف كثير من دول العالم لما حدث في مصر يوم 3 يوليو بأنه انقلاب عسكري ؟
صراحة لا أحد من قادة الانقلاب يستطيع أن يجيب على هذه التساؤلات ، لأنهم بمنتهى البساطة مشغولين بالحفاظ على الأمن القومي من أخطار الأطفال الارهابيين حملة المساطر ، والركض وراء المتظاهرين السلميين من بنات وبنين في عمر الزهور ، و قصف الأقلام الشريفة الذين يرفضون السكوت على الظلم والفساد ، و تشويه حركة حماس العدو الأوحد للصهاينة ، والتضييق على سكان غزة لتركيعهم لصالح الصهاينة وزمرة عباس .
كل ذلك هو الذي يشغل بال صانعي القرار اليوم ، فلا عجب إذا لو استيقظنا يوما فلم نجد وطنا نعيش فيه بعد أن ضاعت كل ملامحه على يد هؤلاء !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق