شهداء خلف القضبان
فهمي هويدي
لست صاحب العنوان أعلاه، الذي استوقفني حين كنت أتابع الرسائل القصيرة المبثوثة عبر موقع تويتر.
وفهمت أنه عنوان لشريط وثائقي أعدته المبادرة المصرية لحقوق الإنسان، وفاجأني مضمونه، لأنني وجدته يسلط الضوء على صفحة مسكوت عليها من أحداث ثورة 25 يناير 2011. ذلك أنه وثق بالصوت والصورة ما جرى داخل السجون المصرية أثناء الثورة.
وأهمية الشريط تكمن في أنه ذهب إلى أبعد من النقطة التي أثارت اللغط طوال الأشهر الماضية وركزت على من فتح السجون، وهو السؤال الذي نسجت من حوله قصص عدة خضعت كلها للتوظيف السياسي الذي شهدنا أحد فصوله هذه الأيام فيما سمي بقضية الهروب من سجن وادي النطرون.
أما الشريط فإن محتواه رسم المشهد من داخل السجون وليس من خارجها.
ولا أعرف ما إذا كان بثه هذه الأيام له علاقة بنظر قضية سجن وادي النطرون أم لا، إلا أنني أزعم أن ضمه إلى وثائق القضية المنظورة قد يغير من مسارها، إن لم يقلبها رأسا على عقب.
الشريط تضمن صورا لبعض مظاهر الفوضى التي شهدتها السجون.
والأهم من ذلك أنه سجل شهادات لبعض النزلاء الذين عايشوا الأحداث وتحدثوا عما رأوه بأعينهم، وشهادات أخرى لنماذج من أهالي النزلاء الذين تحدثوا عن عذاباتهم وهم يحاولون تتبع التحقيقات التي يفترض أن تكون النيابة قد أجرتها بخصوص ما جرى. وأغلب تلك الشهادات كانت قد وردت في حلقة تلفزيونية جرى بثها في 24 أغسطس عام 2011، ضمن برنامج الأستاذ يسري فودة «آخر كلام».
الرسالة المعلنة التي يبعث بها الشريط الوثائقي تقول بصريح العبارة إن الفوضى التي حدثت في بعض السجون كانت متعمدة ومرتبة من قبل قيادات في وزارة الداخلية ذاتها، وأن فتح السجون وإخراج من فيها قصد به إشاعة الفوضى في البلد لإفشال الثورة، لأن ذلك كان متواكبا مع موقعة الجمل التي استهدفت الانقضاض على الثوار الذين احتشدوا في ميدان التحرير لصرفهم منه.
ولأجل إخراج نزلاء السجون فإن الأيدي المدبرة لجأت إلى تجويعهم وقطع المياه والتيار الكهربائي عنهم، كما لجأت إلى استثارتهم بإطلاق الرصاص عليهم، الأمر الذي أدى إلى قتل مائة شخص منهم (وصفوا بأنهم شهداء خلف القضبان).
بل إن الإصرار على إخراج المسجونين وصل إلى حد إطلاق الرصاص على من اعترض على الخطة من الضباط أنفسهم.
وهو ما حدث مع اللواء محمد البطران مدير مباحث السجون الذي قتل في سجن القطا يوم 29 يناير، بعدما كان قد أعلن لمن حوله أن العادلي (وزير الداخلية) قرر أن يحرق البلد.
أما الرسالة المضمرة التي يوجهها الشريط فخلاصتها أن هناك جريمة وقعت داخل السجون مسكوتا عليها (قضية قتل اللواء البطران تم حفظها)، لسبب جوهري هو أن فتح الملف في ظل وجود الشهود الأحياء من النزلاء وذوي الضحايا من شأنه أن يسلط الضوء على محاولات المؤسسة الأمنية التابعة للنظام السابق إفشال الثورة وقمع الثوار.
وهي المؤسسة التي لم تفقد سلطانها، بل استعادت القوة التي كانت عليها.
ذلك أنه من المتعذر من الناحية العملية اتهام العناصر الخارجية بالمسؤولية عما جرى من أحداث في داخل السجون، لأن وقائعها كلها حدثت في مقار مغلقة، ليس فيها سوى المسجونين وحراسهم من الضباط والجنود.
ولأن الأمر كذلك كان لابد أن يسدل الستار على الوقائع والتفاصيل، وأن يوجه كل الاهتمام إلى ما حدث خارجها، الأمر الذي يسهل توجيه الاتهام إلى العناصر الخارجية، بما يؤدي إلى غسل أيدي قيادات الشرطة من مسؤولية ما جرى، وهو ما حدث بالضبط.
ما يثير الانتباه أن الصورة التي رسمها ووثقها الشريط تتطابق مع ما توصلت إليه لجنة تقصي الحقائق التي ترأسها المستشار الدكتور عادل قورة الرئيس الأسبق لمحكمة النقض، والتي كلفت بتحري ما جرى في أحداث الثورة (الفترة من 25 يناير إلى 11 فبراير).
وقد أشرت إلى خلاصة ذلك التقرير في مقال الثلاثاء 28/1، ونقلت عن اللجنة قولها إن هناك تصورين يفسران ما جرى من انفلات أمني، أحدهما أنه كان متعمدا من جانب قيادات الداخلية، أو أنه كان نتيجة لاعتداءات من الخارج استهدفت السجون.
وقد أوردت اللجنة دلائل تشير إلى ترجيح الاحتمال الأول، وهو ما أثبته موثقا شريط المبادرة المصرية لحقوق الإنسان.
كثيرة هي القرائن الدالة على تلاعب المؤسسة الأمنية في أحداث الثورة، وإعادة صياغتها لتضرب عصفورين بحجر واحد، فمن ناحية تخلي مسؤوليتها وتغسل أيديها مما جرى، ومن ناحية أخرى فإنها تمكن السلطة من تصفية حساباتها السياسية مع العناصر غير المرضي عنها أو المناوئة لها. ولكي يُبرأ الأولون فإن اتهام الأخيرين يوفر الغطاء ويحقق المراد.
لقد قتلوا الضحايا مرتين، مرة برصاص الأجهزة الأمنية الذي أنهى حياتهم، ومرة ثانية بتقارير الأجهزة ذاتها التي حجبت إنصافهم. وللأسف فإن ذلك يسري على كل الشهداء الذين سقطوا أثناء الثورة وبعدها، الذين أسقطوا من الذاكرة ولم يحاسب أحد على قتلهم. مع ذلك فقد علمتنا خبرة التاريخ أن الذين صاغوه لستر عوراتهم وخدمة مصالحهم، فضحهم التاريخ بعد ذلك ولم يرحمهم.
ذلك في حساب الدنيا، أما مصائرهم في الآخرة فعلمها عند صاحب الأمر الذي يسمع ويرى.
لست صاحب العنوان أعلاه، الذي استوقفني حين كنت أتابع الرسائل القصيرة المبثوثة عبر موقع تويتر.
وفهمت أنه عنوان لشريط وثائقي أعدته المبادرة المصرية لحقوق الإنسان، وفاجأني مضمونه، لأنني وجدته يسلط الضوء على صفحة مسكوت عليها من أحداث ثورة 25 يناير 2011. ذلك أنه وثق بالصوت والصورة ما جرى داخل السجون المصرية أثناء الثورة.
وأهمية الشريط تكمن في أنه ذهب إلى أبعد من النقطة التي أثارت اللغط طوال الأشهر الماضية وركزت على من فتح السجون، وهو السؤال الذي نسجت من حوله قصص عدة خضعت كلها للتوظيف السياسي الذي شهدنا أحد فصوله هذه الأيام فيما سمي بقضية الهروب من سجن وادي النطرون.
أما الشريط فإن محتواه رسم المشهد من داخل السجون وليس من خارجها.
ولا أعرف ما إذا كان بثه هذه الأيام له علاقة بنظر قضية سجن وادي النطرون أم لا، إلا أنني أزعم أن ضمه إلى وثائق القضية المنظورة قد يغير من مسارها، إن لم يقلبها رأسا على عقب.
الشريط تضمن صورا لبعض مظاهر الفوضى التي شهدتها السجون.
والأهم من ذلك أنه سجل شهادات لبعض النزلاء الذين عايشوا الأحداث وتحدثوا عما رأوه بأعينهم، وشهادات أخرى لنماذج من أهالي النزلاء الذين تحدثوا عن عذاباتهم وهم يحاولون تتبع التحقيقات التي يفترض أن تكون النيابة قد أجرتها بخصوص ما جرى. وأغلب تلك الشهادات كانت قد وردت في حلقة تلفزيونية جرى بثها في 24 أغسطس عام 2011، ضمن برنامج الأستاذ يسري فودة «آخر كلام».
الرسالة المعلنة التي يبعث بها الشريط الوثائقي تقول بصريح العبارة إن الفوضى التي حدثت في بعض السجون كانت متعمدة ومرتبة من قبل قيادات في وزارة الداخلية ذاتها، وأن فتح السجون وإخراج من فيها قصد به إشاعة الفوضى في البلد لإفشال الثورة، لأن ذلك كان متواكبا مع موقعة الجمل التي استهدفت الانقضاض على الثوار الذين احتشدوا في ميدان التحرير لصرفهم منه.
ولأجل إخراج نزلاء السجون فإن الأيدي المدبرة لجأت إلى تجويعهم وقطع المياه والتيار الكهربائي عنهم، كما لجأت إلى استثارتهم بإطلاق الرصاص عليهم، الأمر الذي أدى إلى قتل مائة شخص منهم (وصفوا بأنهم شهداء خلف القضبان).
بل إن الإصرار على إخراج المسجونين وصل إلى حد إطلاق الرصاص على من اعترض على الخطة من الضباط أنفسهم.
وهو ما حدث مع اللواء محمد البطران مدير مباحث السجون الذي قتل في سجن القطا يوم 29 يناير، بعدما كان قد أعلن لمن حوله أن العادلي (وزير الداخلية) قرر أن يحرق البلد.
أما الرسالة المضمرة التي يوجهها الشريط فخلاصتها أن هناك جريمة وقعت داخل السجون مسكوتا عليها (قضية قتل اللواء البطران تم حفظها)، لسبب جوهري هو أن فتح الملف في ظل وجود الشهود الأحياء من النزلاء وذوي الضحايا من شأنه أن يسلط الضوء على محاولات المؤسسة الأمنية التابعة للنظام السابق إفشال الثورة وقمع الثوار.
وهي المؤسسة التي لم تفقد سلطانها، بل استعادت القوة التي كانت عليها.
ذلك أنه من المتعذر من الناحية العملية اتهام العناصر الخارجية بالمسؤولية عما جرى من أحداث في داخل السجون، لأن وقائعها كلها حدثت في مقار مغلقة، ليس فيها سوى المسجونين وحراسهم من الضباط والجنود.
ولأن الأمر كذلك كان لابد أن يسدل الستار على الوقائع والتفاصيل، وأن يوجه كل الاهتمام إلى ما حدث خارجها، الأمر الذي يسهل توجيه الاتهام إلى العناصر الخارجية، بما يؤدي إلى غسل أيدي قيادات الشرطة من مسؤولية ما جرى، وهو ما حدث بالضبط.
ما يثير الانتباه أن الصورة التي رسمها ووثقها الشريط تتطابق مع ما توصلت إليه لجنة تقصي الحقائق التي ترأسها المستشار الدكتور عادل قورة الرئيس الأسبق لمحكمة النقض، والتي كلفت بتحري ما جرى في أحداث الثورة (الفترة من 25 يناير إلى 11 فبراير).
وقد أشرت إلى خلاصة ذلك التقرير في مقال الثلاثاء 28/1، ونقلت عن اللجنة قولها إن هناك تصورين يفسران ما جرى من انفلات أمني، أحدهما أنه كان متعمدا من جانب قيادات الداخلية، أو أنه كان نتيجة لاعتداءات من الخارج استهدفت السجون.
وقد أوردت اللجنة دلائل تشير إلى ترجيح الاحتمال الأول، وهو ما أثبته موثقا شريط المبادرة المصرية لحقوق الإنسان.
كثيرة هي القرائن الدالة على تلاعب المؤسسة الأمنية في أحداث الثورة، وإعادة صياغتها لتضرب عصفورين بحجر واحد، فمن ناحية تخلي مسؤوليتها وتغسل أيديها مما جرى، ومن ناحية أخرى فإنها تمكن السلطة من تصفية حساباتها السياسية مع العناصر غير المرضي عنها أو المناوئة لها. ولكي يُبرأ الأولون فإن اتهام الأخيرين يوفر الغطاء ويحقق المراد.
لقد قتلوا الضحايا مرتين، مرة برصاص الأجهزة الأمنية الذي أنهى حياتهم، ومرة ثانية بتقارير الأجهزة ذاتها التي حجبت إنصافهم. وللأسف فإن ذلك يسري على كل الشهداء الذين سقطوا أثناء الثورة وبعدها، الذين أسقطوا من الذاكرة ولم يحاسب أحد على قتلهم. مع ذلك فقد علمتنا خبرة التاريخ أن الذين صاغوه لستر عوراتهم وخدمة مصالحهم، فضحهم التاريخ بعد ذلك ولم يرحمهم.
ذلك في حساب الدنيا، أما مصائرهم في الآخرة فعلمها عند صاحب الأمر الذي يسمع ويرى.
شاهد شريط
شهداء خلف القضبان
شهداء خلف القضبان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق