أيّام مع أستاذنا الأحمري
د. الأحمري
بقلم: رياض المسيـبلي
كاتب يمني مقيم في الولايات المتحدة
لا تكفي كتابات أي شخص لإعطاء الصورة الكافية عنه ومن ثمّ لفهم أفكاره؛ لذا كان لمذكراته أو ما كتب عنه دور كبير في إعطاء المزيد مما اختفى خلف الحروف التي طالما كان وراءها (الكاتب) وليس الإنسان.
لم أدر أنّ سؤالاً عن الرافعي سيغيّر من مجرى حياتي، ولم يكن سؤالي كالمتنبي إذ سأل عن نجد وهو أدرى، ولكنّني أعلم أنّ الطريق قد طال وسوف يطول. ولا أستطيع تحميل مسافة الطريق ومتاعبه على أستاذي، ولكنّه أراني سبيل العقل فاخترت الجنون، ومن يريك شيئاً فقد أراك ضده.
في إحدى الليالي من سنة 1998 دخلت مكتبة مسجد آن آربر لأسأل المسؤول عنها إن كان لديهم كتب للرافعي العظيم، وهناك رأيت أستاذنا لأوّل مرة: غادر الشعر مقدمة رأسه، وأحاطت بوجهه لحية كثة، يلبس البنطال ويدخل قميصه فيه وكان يسأل هو عن كتب عن الجزائر؛ فحسبت حينها أنّه من الجزائر!!
أجابني مسؤول المكتبة بالنفي لكنه استدرك قائلاً بأنّني قد أجد الكتب في مكتبة جامعة متشجن الشهيرة بالمدينة ذاتها، ثم سمعت الأستاذ يقول: كأنّني رأيتها هناك (وقصة احتواء جامعة أمريكية لكتب عربية كانت أكثر من صدمة).
وبعد اكتشافي لكنز مكتبة الجامعة كنت أتردد عليها وأرى الشيخ يدور بين الرفوف هناك. وأصبحت مكتبة المسجد ومكتبة الجامعة دفتي كتاب أعيش فيه بينهما؛ الأولى للاستعارة والثانية تحتضن قراءتي.
وفي ليلة مضيئة كنت أريد إرجاع (رسالة المسترشدين) للمحاسبي بتحقيق العلامة أبو غدة (ليس من الأسماء الخمسة لذلك فهو [مرفوع] دوماً)، فوجدت المكتبة مقفلة وكان الأستاذ أمامي ساعتها، وما إن رأى عنوان الكتاب حتى بدأ يمتدحه ويمتدح الشيخ عبدالفتاح بأنه رجل هادئ القلم لا يسيء إلى أحد، وأشار إلي بأن نجلس في زاوية في المسجد ولا أدري كم مكثنا من الوقت ولكنني خرجت بعقل غير الذي دخلت به (أليس ذلك دور المساجد؟).
وكان هذا اللقاء الساحر بداية علاقة طالب يفرض نفسه على أستاذه وأستاذ ينكر أن له تلاميذ إلى يومنا هذا. ما أذهلني ليلتها أنّ الأستاذ لم يكن قارئاً عادياً؛ بل كان قارئاً متعدد الأبعاد يرى في الأشياء غير ظاهرها ويربط بين جوانب متعددة لتفسير الفكرة لطالما غابت عن الكثير.
ربما الشيء الوحيد الذي أزعجني ليلتها مدحه لكتابات الدكتور سفر الحوالي -شفاه الله- وأنا الأشعري الذي لم ينس كتاب الحوالي المعروف.
علاقة أستاذنا بالكتب أول شيء يلمسه من يقرأ له أو من يقابله، ولقد عجبت بعد معرفتي به كيف يجد الوقت للقراءة وهو رجل مزحوم بشتى الأعمال. وصراحته الحادة تميز بها بشكل (صريح)، وقد قال مرة لشيخ أراد الرد على من أجاز شراء البيوت بالربا في الغرب: المشكلة أنّك قد توافقهم في المستقبل وتجيزها!!
وإذا اتصل به متصل فلا يخف من أنه قد يزعج أبا عمرو أو يشغله -على الطريقة اليعربية- لأن الأستاذ سيخبره إن هو فعل ذلك. ولكن صراحته لا تجرح أو تسيء إلى أحد كما قرأنا عن بعض قصص محمود شاكر، ولأبي عمرو حدة ولكنها حدة لا تعتدي على أي إنسان بل يقول ما يؤمن به ويترك كل بنيات الطريق جانبا ويمضي.
ومجالسه من أجمل وأروع ما شهدت؛ إذ تشهد فيها بشاشته واستماعه لمن يتحدث وتعليقه الهادئ (والذي قد يكون قنبلة في الآن ذاته) وعدم اعتداده برأيه بل قد ينهي النقاش بالقول المشهور: نتفق على ألّا نتفق.
وقد يذهب فيأتي بما يدعم قوله؛ فمرة عارضته بحضور الأستاذ عبدالله النعيمة حول كلمة (عزب) تقال للذكر والأنثى، فما كان منه إلا أن أتى بالقاموس المحيط لينهي صفاقتي!
وأروع قصص الحدة هذه هي عندما يلتقي بمن لديه هذه الصفة؛ مثل أخينا الرائع خالد حسن. فمن كان في مجلس جمع الاثنين وصار نقاش بينهما حول موضوع ملتهب، فليضحك بداخله وليظهر الجد حتى لا يلتذع بسوطيهما.
والأستاذ ممّن يحفظ الشعر ويطرب له ويردده، وخالد لا يكاد يحفظ أبياتاً على عدد الأصابع. ولطالما ردد خالد إذا اجتمع أبو عمرو ومتذوق الشعر أستاذنا أبو المهند سامي الحصين وبدأت الأبيات تسافر بينهما وخالد يكاد ينفجر حتى إذا لقيني صرخ: أنتم يا أهل الجزيرة إذا أراد أحد صرفكم عن موضوع فما عليه إلا ببيت شعر يرميه بينكم!!
ولقد لقيني الأستاذ في بداية تعرفي به في مكتبه يوماً مردداً أبيات شاعرنا البردوني (والتي يحفظها أكثر العرب لأنها شتيمة):
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي مليحة عاشقاها السل والجرب
فقلت له إنّ التدين لم يترك لي مساحة للشعر ولا لغيره، وكنت حينها في قمة التشدد غارقاً في كتب الخلاف الديني والردود ومهتماً بشيء من كتب الحديث، وكان أستاذنا بعد أن عرف اهتمامي بالحديث يقول تشجيعاً: إن ذاكرتك ذاكرة أهل الحديث.
* آراء متفرقة:
من أوّل الصدمات التي صعقت بها رأيه في الإمام الغزالي إذ كان شديداً، والإمام عندي من أركان الأشعرية ومن أعمدة الحضارة الإسلامية، فكان يحتد النقاش بيننا حول ذلك -على فكرة نسيت أن أخبركم أنّ حدتي وصراحتي لم تترك لي قريبا ولا صديقا- وأذكر مرة أنّ وفداً من منظمة (كير) زار مكتبه وكنت موجوداً ومجموعة أخرى من الشباب، وبدأ الأستاذ الكلام حتى جاء إلى الغزالي فالتفت إلي وقال عادي قل ما تريد لأنني أرى التهابك من الآن.
وكان يقول لقد كان الغزالي مريضاً بمرض نفسي، وكانت هذه الكلمة تقع علي بأثقل ما يكون الكلام. وكذلك يردد ما هو منتشر عند الكثير من خصوم الغزالي؛ كعدم ذكره للجهاد في الإحياء وعدم ذكره للغزو الصليبي (وهذا كلام ليس فيه سوى البهرجة، ولو حاكمنا العلماء هكذا لسقط الكثير منهم)، ولكننّي قرأت لأستاذنا كلاماً في الأشهر الأخيرة رأيت فيه إنصافه وعدله مع الغزالي (وإن لم يصل إلى ما أريده ولكن ذلك فضل ونعمة).
وللأستاذ آراء نابعة من قراءته الواسعة ومشواره الطويل بين الكتب؛ فقد كان معجباً بالعقاد وبعقله غير أنّه أشار إلى أنّ كتبه لا تعتبر مراجع بحث لأنّ الرجل لا يذكر مصادره.
ومن الأستاذ سمعت لأول مرة عن علي الوردي وقرأت بعدها كتبه كلها عدا كتابه المتعدد الأجزاء (لمحات اجتماعية ...). وكان يشيد بالوردي بأنّه مفكر مستقل غير أنّه كان يكره فيه تحامله على الدين وكان ينبه إلى أنّ الوردي كثيراً ما ناقض نفسه في كتبه.
وفتح الأستاذ أمامي الطريق إلى فكر وكتب محمود شاكر رحمه الله، وكان أبو عمرو معجباً ببيانه وشجاعته وسعة علمه واطّلاعه. وعندما سألته مرّة عن الرافعي قال إنّه يغرق في صياغة تراكيب الجملة حتى تضيع الصورة أحياناً كثيرة (وهذا إلى جانب رأيه في الغزالي كان يكفي للفرقة).
وكان معجباً ببيان الأستاذ محمد أحمد الراشد وجمال لغته وتعبيراته الرائعة الأخّاذة (موازين المزني وشوافع الشافعي).
قرأت مذكرات عبدالرحمن بدوي سنة خروجها وفرحت حينها بما وجدت من كلام عن أحمد أمين وطه حسين وناقشت الأستاذ بشأنه فقال: أما أحمد أمين فعليك أن تتذكر أنّ الإيمان كان عنده مسألة محسومة ولم يذكر عنه التهاون في ذلك، وبدوي كان الإلحاد عنده وعند غيره من جيله موضة غرق فيها الكثير لذلك ينبغي الحذر هنا فيما يقوله بدوي عن أحمد أمين.
ومما علق بذهني من ملاحظات أستاذنا تفسيره لموقف علمائنا الأوائل بشأن الخروج عن الحكام؛ إذ طالما نبّه إلى أنّ هذا الموقف ينبغي أن يفهم في سياقه الصحيح؛ فلقد كانت تعصف بالعالم الإسلامي فرق وتيارات شتى، منها ما كان متطرّفاً تجاه من لا ينتمي إليه، ولذلك فإنّ التهاون في هذا الباب إنما يودي بالعالم الإسلامي إلى التهلكة؛ فكان موقف علمائنا صمّام أمان حافظ على الكيان المسلم طوال هذه القرون أمام لفيف عنيف من الباطنية والخوارج وغيرهم.
وكان يحذر من وصم الأوائل بالعمالة للسلطة وغير ذلك بناء على هذا الموقف؛ إذ أنّه يشير إلى أنّ غالبهم طالما نصح بالبعد عن الحكام.
وكانت لديه ملاحظات على بعض الكتاب لا أجدني معه فيها إلى اليوم (والنعم بهذا التلميذ). فمثلاً كان يقول إنّ عبدالرحمن بدوي لم يقدم أي مشروع فلسفي، والسيوطي كان مجرّد جمّاعة لا غير.
ولكنّني أرى أنّ الكاتب يجب أن يقيّم بما استطاع فعله ولا ينبغي لنا نقده بما لا يدّعيه. والسؤال هنا: هل نجح السيوطي في تجميعه؟ وهل أتقن بدوي تحقيقاته وترجماته المتعدّدة أم لا؟
وكان يعتقد أنّ الفكر الإسلامي المعاصر خسر الكثير بإهماله لكتابات الأستاذ مالك بن نبي وأفكاره العميقة (كان يردّد أستاذنا أنّ كل سطر لمالك يحمل فكرة)، وأنّ الذي أثّر وهيمن على فكرنا المعاصر هو سيّد قطب رحمه الله، وكان مع إعجابه بكتابات قطب إذ كان يقول عنه أنّه يكتب بروحه، ولكنّه كان لا يشجّع الكثير من طرحه (في كتاب الأستاذ عن الديموقراطية شيء من نقده لسيّد).
* الفكر والعمل:
لطالما ربط أبو عمرو نشوء الأفكار أو انهيارها بجوانب أخرى منها اللغة؛ إذ كان يقول لو أنّ أميركا اختارت اللغة الألمانية بدلاً من الانجليزية لتعذر وقوفها ضد هتلر. وقد كتب مرة عن أثر الجغرافيا على الفكر ولا أدري إن كان نشره (ولا غريب هنا إلا الشيطان، فلا أستغرب إن كان لا يزال مطويّاً).
وكان يشيد بربط ماكس فيبر للرأسمالية والبروتستانتية في دراسته الشهيرة، ومن قرأ لأبي عمرو يرى ربطه الأفكار بكل جوانب الحياة تأثّراً وتأثيراً، ولعل كتابه الأخير عن الديمقراطية قراءة مختلفة لمفهوم تغرّب وحسب مفخرة غربية صرفة.
ولم يحظ مفكر مسلم باهتمام وإعجاب أستاذنا كما حدث مع الراحل العظيم علي عزت بيجوفيتش وكتابه عنه كان ثمرة صحبة طويلة لنصوص هذا الفيلسوف العظيم. وأبو عمرو يؤمن أنّ الحريّة مبدأ لا يمكن التفريط به لرقي أي مجتمع؛ ولكنّها الحرية المسؤولة وليست تلك التي حُصر مفهومها في كل رديء. ولذلك مشى أبو عمرو على مبدأ لم يحد عنه؛ أن يعلن الإنسان ما يعتقده دون ذل أو خضوع لأحد أو جهة مما شكل ويشكل عقبة في طريق (المثقف).
يرى أستاذنا أن المثقف يجب أن يكون فوق التأطير أو التحجيم، وأن مبادئه لا تخضع للعرض والطلب أو المكافأة والعقاب؛ فمتى ما أدركت النخبة ذلك كانت صمّاماً حقيقياً لسلامة مجتمعاتها. غير أنّ مما أنتقده على أستاذنا في بعض ما يكتبه مؤخّراً هو إهماله للإشارة إلى أنّ الكثير ممّا نعانيه اليوم هو جرّاء خلل ذاتي في أنفسنا.
نعم، الاستعمار والغرب وغير ذلك سيستغلون ما يفيد مصالحهم وبلدانهم وليذهب البقية إلى الجحيم، ولكن المبالغة في تحميل قصورنا على الغير ونسيان النزيف الداخلي الذي نعانيه هو خلل بحد ذاته. التطرّف، الإرهاب، التيارات التكفيرية، سطحية الطرح الديني واللا ديني وغير ذلك من الأمراض التي تفتك بفكرنا وبنا إن لم نعالجها نحن ونقوم بمواجهتها بكل شجاعة وصراحة، فلا نغضب إن جاء مجرم من إحدى حواري نيويورك أو باريس ليستخدم هذا الوضع الرديء ويصوّر نفسه بأنّه (رسول الرحمة والحرية)!!
لا ريب أنّ الجانب العملي في شخصية أستاذنا أفاد في عمق طرحه و(عمليته). لقد مكث أبو عمرو السنين الطوال ناشطاً في الكثير من المؤسسات الإسلامية، ملتصقاً بهموم الجاليات المسلمة في الغرب، ومتابعاً ممتازاً للجانب العملي والمؤسساتي في التاريخ الغربي.
كل ذلك أبعد فكر أبي عمرو عن ترف القول، أو المثالية الخادعة، بل حمل أبو عمرو مبادئه ولكن من دون تجريدية أو هلامية، ولم يرض أن يكون فكره (براجماتية) تنتصر للواقع على حساب المبادئ، بل أدرك أنّ الخير لا يرمى هكذا فتقبله الناس لمجرد كونه خيراً؛ بل لا بد من تهيئة الناس له وإدراك ثقافة هذا المجتمع وذاك بكل جوانبها المتعدّدة لفهم طرق الخطاب والإصلاح.
* القراءة مرّة أخرى:
أستاذنا إذا مدح كتاباً يبرع في ذلك حتى لربما وجدت نفسك تبحث عنه في نومك، ولقد وهبه الله ذاكرة عجيبة لطالما شكا منها تواضعاً، وإلا فهو يذكر تفاصيل بعض الكتب بشكل عجيب (كم تمنيت تسجيل كلامه عن كتاب الطريق إلى الإسلام لأسد). ودليل على ذاكرته هو معرفته بأنساب قبائل المملكة وحفظه لمناطقها.
والأستاذ يحب الطرفة ويضحك لها وليس أثقل عليه من ثقلاء الدم باردي العقول (لطالما ضحك عندما كنت أخبره عن بعض سخريات مارون عبود ومنها كلامه عن نازك وعمر أبو ريشة).
وليس هناك أجمل من أن يجتمع الأستاذ مع مرحي النفوس أمثال أخينا أبي المهند. وأبو المهند طرافته ذكية بشكل مذهل، فلقد كنا نعد لإحدى المؤتمرات وكان الأستاذ يكتب على حاسوبه فانتبه إلى أنّ البطارية على وشك الانتهاء فسأل أبا المهند أن يرمي له بسلك حاسوبه فقال أبو المهند: لا ؛ تختلط الأنساب يا شيخ.
ومرة لم أستطع حضور أحد المؤتمرات لأن زوجتي كانت حاملة بالتوأم، وما إن علم أبو المهند حتى قال: والله يا رياض مش عارفين نحن الذين وقّتنا خطأ أم أنت الذي فعلت ذلك!!
وفي سنة 1999 شاعت في أمريكا حمى سنة ألفين، وأنّ الحياة ستصاب بالشلل فما كان منّي (بفضل حث أم العيال) إلا أن ذهبت واشتريت ما استطعت من الطعام المعلّب والماء وغيره، والغريبة أنني وجدت نفسي ليلة السنة الجديدة مع أستاذنا نتذاكر أخبار الكتب ونسيت المسكينة الخائفة وعدّة الحدث المتراكمة في الشقة، وما إن علم بما استعددت به حتى انطلق يسخر من اللي خلفوا اللي جابوني!!
ومن استعار من الأستاذ كتاباً فسيقرأه ومعه تعليقاته التي يبثها هنا وهناك، ولن يبرأ القارئ من أثر تعليقات الأستاذ على فهمه للكتاب. ومن تعليقات أستاذنا ترى أنه يتحد بالكتاب عند قراءته له؛ فلا غرابة أن تجده يخاطب الكاتب في التعليق وكأنه أمامه سواء كان معجباً أم رافضاً، وكم من المرات التي أعدت قراءة تعليقاته أكثر من النص نفسه !!
وليس أمتع من المشي مع أستاذنا، سوى أنّ عليك الإعداد لذلك، وقد كنت أمشي معه في آن آربر وأستفيد من معرفته، وما إن أرجع إلى شقتي حتى أخرج الآيس كريم وأعوّض ما خسرت من سعرات حرارية!!
أما في قطر، فسامح الله من صمّم الكورنيش. فذات مساء أخذني حديثه وتشجيعه حتى اكتشفت أنّنا مشينا عشر كيلومترات، ولم يستطع أحدنا الخروج من فراشه في اليوم التالي ولقد دعوت الله أن يكون درساً له، ولكن يبدو أنني لم أكن مظلوماً فلم يستجب الله لي.
وهناك سعدت بصحبته بعد انقطاع عنه لست سنوات عجاف. كان المشي معه سفراً بين الكتب والأفكار، وقد لمست أنّ بعض أفكاره قد تغيّرت، فحينها كانت حمى مقاله التحليل العقدي ومن ثم مقالته عن الانتخابات الأمريكية قد رمته في نيران من الردود التي كان غالبها بضاعة المغفور له (حنين)؛ فلا فائدة فيها سوى لمن اعتبر السباب علماً.
ومن أفكاره التي رددها أنّنا بحاجة إلى شيء من مسح الطاولة، وقد قالها أمام شباب زاروه من الشرقية ورأى كيف كان يحترق الكرسي تحتي. ومسح الطاولة هذه التي يشير إليها أستاذنا يقصد بها أنّ هناك الكثير من التراكمات التي حالت بين الناس وبين الشريعة، غير أنّ الاستشكال الذي عندي هو كيف يستطيع أي إنسان القفز على حاجز اللغة؟
لقد لاحظت أنّ الأستاذ بعد عودته إلى الشرق قد صار أكثر رحابة وانفتاحاً على جميع التوجهات (مع أنّ المفترض هو العكس تماماً)، فقد صار يمدح بعض روايات محفوظ (وهذا بالنسبة لي نصر عظيم)، ولو أنّه عاد وصرعني بشتمه لرواية (المتشائل) لإميل حبيبي (يعني لازم يخرّبها) وخرج من هيمنة السلفية المعاصرة على أفكاره والذي كان عقله أكبر منها بكثير.
ولكنه ويا للأسف لم يغيّر موقفه من الكثير من الفنون وخاصة الغناء؛ فقد أراد تجاوز تشدد العلماء في تحريمه ليجعل من حرمته قضية ترتبط بالرجولة (استشهد بكلام للينين)، وهنا عرفت أنّ المشايخ أرحم، وحمدت الله أن عافاهم من عقليته!!
وكانت الجلسة معه في قطر تجديداً للعقل والروح معاً. كنا نذهب إلى المكتبات كل عدة أيام، ونتبادل الاتهام بأنّ أحدنا هو من يخسّر الآخر بشراء كل هذه الكتب، وذهبنا إلى معرض الدوحة للكتاب وكان يغالطني فيقول لو تشتري هذا الكتاب وأنا أسمع وأردد آمين! (ولو رأيتم كيف جرّد كل منّا نصيبه من الكتب وتأكد ألا ينسى كتاباً مع الآخر لرثيتم لنا من أعماق كتبكم).
ولا أنسى له أنّه اشترى آخر نسخة لكتاب عن دولة كندة من أحدهم، ولما سألته كيف ذلك وقد سألت الشخص نفسه عنها فقال نسخة العرض ولا نستطيع بيعها، فأجاب أبو عمرو: قلت له أنت جيت تبيع وللا تعرض!! (ناشرون ما يجون الا بالعين الحمراء).
وثبـّط من شرائي لكتاب لفتجنشتين وما زلت نادماً على عدم شرائه إلى اليوم. ووجدته في قسم المنظمة العربية للترجمة متأبّطاً لكتاب (خمسون مفكراً ...) وقد خسر في ذاك الركن ما الله به عليم.
وبالرغم من سعة اطّلاعه الغريب وسحر قلمه وعمق تحليلاته، إلا أنّ حرصه ومبالغته في مراجعة ما يكتب سيحرم الناس من فكر متألّق. فقد اكتشف مرّة أنّ أحدهم جمع بعض مقالاته المنشورة في (البيان) في كتيب صغير ونشرها دون إذنه، وقد أخبرته أنّ الرجل كان محترماً حين نشرها باسم الأستاذ ودعوت الله أن يكثّر من أمثاله؛ فلو اعتمد الناس على الأستاذ ما خرج شيء من حروفه !
وقد كان يردد -بين الإعجاب والاستغراب-ما أخبره أحد أصدقائه الكتّاب أنّ كل ما يكتبه ينشره؛ ولعل استغرابه ناشئ من أنّ الأستاذ كان يسير على (كل ما أكتبه يبقى عندي). ولذلك لمّا علمت بطبع باكورة كتبه فرحت فرحي بقدوم أحد أطفالي (يا أخي يخرب بيت القراءة).
والأستاذ متى ما كتب شيئاً فسيرسله إلى الكثير ممّن يثق فيهم للمراجعة، ويراجع ما كتب أكثر من مرة ولا يصم أذنه عن أية ملاحظة أتته، وهذا شيء رائع حقاً فكثير من كتّابنا يستحقر العلم والقارئ وكأنّه لا يعلم أنّه (يعرض عقله على الناس).
وأنا أراجع له ما قد يسبق به القلم أثناء طباعة المقال ولكني أسير على منهج : انشر وبس، ولطالما سخرت من مبالغته تلك. فلقد تذكرت الأستاذ عندما قرأت كتاب فرانسيس وين عن (رأس المال) وكيف كانت مبالغة ماركس في مراجعته لما يكتب ودعوت الله أن يفرّج عن ماركسنا كذلك.
وجانب الإعداد الممتاز شيء تكبره في أبي عمرو؛ فقد أخبرني أنّه قرأ كتاب شاكر مصطفى (دولة بني العباس) في أيّام حتى يتهيّأ لأحد الامتحانات في الجامعة.
وفي قطر رأيته وقد قرأ عدة كتب عن الرواية ونقدها لأنّه ينوي كتابة بعض المقالات عن روايات حينها منها رواية خالد الحسيني الشهيرة.
وعلى ذكر الروايات، فقد دخلت مكتبه في آن آربر ذات يوم وبادرني بسؤاله المعتاد: ماذا تقرأ؟ ولما أجبته أنّني أقرأ موسم الهجرة للطيب العظيم انزعج وقال: خليك فيما أنت فيه.
وقد أجبته بأنّ بداية علاقتي بالكتاب كان من باب الرواية (أصررت على أبي وأنا صغير أن يجلب لي كتباً في النحو لأنني أريد أن أكون مثل محفوظ الذي فاز سنتها بنوبل !!) وإنّما أقرأ بعض الروايات اليوم لاستعادة بعض الذكرى، فقال لي كلمة لمست أثرها بعد سنين؛ إذ أشار إلى أنّه يخاف أن أبتعد عن عالمي (وهذا ما حدث بعد مغادرته أمريكا ويلعن أم الإرهاب)، وأنّني سأجد الكتب الدينية ثقيلة عليّ بعدها، وقد عاندته كعادتي معه في أشياء كثيرة ولكنّني تذكرت ما قاله عندما أعدت قراءة بعض كتب الدين فوجدتني غريباً كالمرحوم أبي الطيب، ولكن لا أدري أكنت أنا غريب الوجه أم كانت الكتبُ! (ومن قرأ موسم الهجرة فليقرأ (المترجمة) للرائعة ليلى أبوالعلا)
وكان ينصح الكثير من الشباب الكتّاب بأن يبدأوا مقالاتهم بشيء يشد القارئ؛ كقصة فيها دلالة على الموضوع، أو أبيات شعر أو نص نثري يتعلق بموضوع المقال. وهو يحث دوماً على قراءة كتب الأدب فبها تصقل اللغة ويرتقي الأسلوب.
وأستاذنا إذا وجد نسخة متكرّرة عنده أهداها غيره بدون تردد (اللهم كرر النسخ عنده) فقد اتصل بي يوماً وقال أنا في مكتبة بوردرز ومعي كتاب (الموافقات) لك فعجّل وإلا سيذهب، فما كان منّي إلا أن أخذت الطريق السريع من شقتي ولم يدر إلا وأنا عنده، واستغرب للسرعة فقلت المسألة فيها كتاب.
وأتذكر أنّني كنت حينها أقرأ كتاباً لأبي عبدالرحمن الظاهري لعله (العقل اللغوي)، وما إن جلست نقلت بحماسة نقد الظاهري لزكي نجيب محمود حول اللغة ونشأتها وما كان من الأستاذ إلا أن وقف ضد رأي الظاهري ولم استوعب الأمر حينها فنشأتنا الدينية الغريبة جعلتنا نقحم الدين في كل شيء، ولم يكن لدي من عدة أمام الأستاذ سوى أنّ هذا خلاف الدين والظاهري أقرب إلى التراث من محمود وهكذا خرابيط (كم أرثي لشباب الإسلاميين كلما تذكرت مثل هذا الجنون).
وبعد سنوات أجدني مع الأستاذ بل ربما تجاوزت ما قاله بفراسخ (حلوة فراسخ هذه)!! وما إن أرى كتاب الموافقات في مكتبتي حتى أتذكر تلك المناقشة التي كان شاهداً عليها وأبتسم (لكي أرى أثر الكولجيت).
الحديث عن أبي عمرو لا ينتهي لأنّه شذي شذى الحروف وحياتها بيننا، وهذه السطور ليست سوى تجديد الذكريات في زمن تفلّتت منه ساعات الماضي لتغدو في متاحف العقل الذي صار هو تحفة كذلك. ويكفي أنّ من يصحب أبا عمرو يفوز بصلة أبدية مع القراءة؛ فتمتلئ حياته بالكتب وتجدب جيوبه من النقود وذكرها...فمرحى لهذه الحياة. تحية لرائع أبها.....تحية لعقلك وقلبك وقلمك يا سيّدي.
نشر بتاريخ 2013-6-27
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق