الثلاثاء، 23 سبتمبر 2014

سياسة محكوم عليها بالفشل


سياسة محكوم عليها بالفشل 

 ديفيد هيرست

تناول رئيس المخابرات البريطانية MI6، السير جون ساورز، الغداء مؤخراً مع الفاينانشال تايمز، في جو فريد من نوعه حيث أن ما يلتهم ليس أقل أهمية مما يقال. وبينما ذهب ساورز يلتهم في طبقه سمكة الأسبور (شديدة بياض اللون لذيذة المذاق) كشف عن شيء لم ينتبه له محرر الفاينانشال تايمز الذي كان منهمكاً في تناول سمكة أبو سيف في طبقه هو.

لقد قارن ساورز بين الربيع العربي والثورة الإيرانية حيث قال إن التغيير الثوري كان عصياً على الترويض وسيؤول في العادة إلى ما هو أسوأ بالنسبة للمصالح والقيم الغربية، وأضاف:
"رأينا ذلك في طهران في عام 1979، ثم رأيناه في مصر خلال السنوات الأخيرة".

وكان رئيس ساورز السابق في العمل طوني بلير، قد استخدم لغة مشابهة قبيل إسقاط حسني مبارك الذي وصفه بأنه "قوة خير". ورغم أن بلير لم يساوره شك في التغيير كان قادماً لا محالة، إلا أنه مضى يقول: "الناس بحاجة إلى نظام حكم مختلف، وسوف يحصلون عليه".
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما الذي سينجم عن ذلك. أعتقد، وبشكل خاص، أن التحدي الأهم بالنسبة لنا هو كيف نساعد في الدخول في عملية التغيير وكيف نساعد على حسن إدارتها بشكل يضمن لنا أن ما ينجم عنها سيكون حكومة منفتحة الذهن، ونزيهة وديمقراطية".

كلا الرجلين، ساورز وبلير، يعتبران أن مهمتهما هي "ترويض" التغيير في الشرق الأوسط. ولكن على النقيض من بلير، يتمتع ساورز بخبرة جيدة في شؤون العالم العربي. لقد كان سفيراً سابقاً في القاهرة، ويعرف جيداً الفرق بين الآية الله والرئيس المنتخب، وبين الثيوقراطية والإسلام السياسي.

كما يعلم أن جهاز الـ MI6 منح لتوه شهادة خلو من الأمراض للإخوان المسلمين، وذلك أن المراجعة التي كلفت بها الحكومة السير جون جينكينز برأت جماعة الإخوان من أي ارتباط بأعمال الإرهاب في مصر. لا شك بأن هذا الاستنتاج عقد الأمور بالنسبة لدافيد كاميرون الذي يتعرض لضغوط من السعوديين والإماراتيين ليحظر الإخوان في بريطانيا، وخاصة بعد أن خضع القطريون ولو جزئياً لضغوط مشابهة.

بكل المعايير، لا تخضع أي من الصراعات في الشرق الأوسط لإدارة جيدة، فقد فشلت حتى الآن ثلاث دول هي العراق وسوريا وليبيا، وكان فشل اثنتين منها ناجماً عن التدخل الغربي. 
وهناك دول أخرى مثل اليمن في حالة ترنح. لقد نجحت الدولة الإسلامية في اقتطاع مساحات واسعة من الأراضي السورية والعراقية، ولن يسهل إخراجها من تلك الأراضي بواسطة القصف الجوي الأمريكي أو الفرنسي.

ولو أن في تاريخ قتال القاعدة أي عبرة، لكان ينبغي إدراك أن هذه الرايات السوداء متحركة، وبإمكانها أن تنتقل إلى بلدان أخرى.

ولم تعد مهمة تشكيل التحالفات بالبساطة التي كانت عليها. بل يبدو أن حلفاء الغرب في المنطقة باتوا مشكلة أكبر بكثير من تلك الناجمة عن أعدائهم. فالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر والأردن لا تخفي ازدراءها لأوباما لأنه سمح بإسقاط مبارك ولأنه لم يقصف سوريا عندما استخدمت الأسلحة الكيماوية. 
بعد أن كانت تجلس في المقعد الخلفي أثناء قصف الناتو لليبيا ها هي الولايات المتحدة تجبر على الجلوس في مقعد القيادة من جديد. إلا أن المسافرين معها مازالوا متشككين في قدرة أمريكا على الوفاء بمتطلبات هذه المهمة. ونتيجة لذلك يغلب أن يلجئوا إلى عمليات يقومون بها بأنفسهم وبشكل منفرد، وستظل أمريكا، مزودهم الرئيس بالسلاح وقطع الغيار، تنفض يديها.

في نفس الأسبوع الذي أبدى فيه السعوديون والإماراتيون تردداً تجاه الضربة العسكرية ضد مقاتلي الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، حاولت دولة الإمارات العربية المتحدة ومصر خلق ظروف تساعد على تدخل عسكري غربي ثان في ليبيا. وبدا للحظة وكأنهم وجدوا حليفاً لهم في فرنسا.

وما كان من وزير الدفاع الفرنسي جان - إيف لو دريان إلا أن نعت ليبيا بأنها مجمع إرهابي على عتبة باب أوروبا، قائلاً: "بات الجنوب (في ليبيا) نقطة تجمع للمجموعات الإرهابية حيث يأتون للتزود، بما في ذلك التزود بالسلاح، ولإعادة تنظيم أنفسهم. أما في الشمال، فإن الخطر يحيق بالمراكز السياسية والاقتصادية في البلاد والتي توشك أن تقع تحت سيطرة الجهاديين".

أما الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي فقد أشار إلى ليبيا بشكل واضح حينما تحدث مع جون كيري. وكما نقل عنه متحدث باسمه فقد أكد السيسي "إن أي تحالف دولي ضد الإرهاب ينبغي أن يكون حلفاً شاملاً ولا يقتصر على مواجهة منظمة بعينها أو يقضي على نقطة إرهابية ساخنة واحدة بعينها بل ينبغي أن يتوسع ليشمل جميع النقاط الإرهابية الساخنة في الشرق الأوسط وفي أفريقيا”.

ولكن كل ذلك وصل إلى لا شيء، على الأقل حتى الساعة، حينما أوضح جيران ليبيا في مؤتمر عقد في إسبانيا بأنهم لن يسكتوا على قيام قوات مصرية وطائرات فرنسية بقصف بنغازي. 
لقد وضعت الجزائر قدمها على الأرض، ولكن من غير المحتمل أن يتلاشى التهديد المصري بالتدخل وخاصة إذا ما ظل الجنرال خليفة حفتر نشطاً على رأس عمله.
في الأسبوع الماضي وقع هجوم ثالث من قبل طائرات مجهولة الهوية على مواقع مليشيات فجر ليبيا، ولعله يكون صادراً عن نفس الطواقم التي شنت الهجومين الأولين، والتي نسبت في حينه إلى طيارات إماراتية تستخدم قواعد جوية مصرية.

لا شك أن وضع مليشيات فجر ليبيا، والتي تتشكل من كتائب مصراتة وتشكيلة من المليشيات الإسلامية، في سلة واحدة مع ميليشيات الدولة الإسلامية تكتيك متعمد، فالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يسعى للحصول على شرعية دولية من خلال لعب ورقة الرجل القوي الذي يحارب الإسلاموية بكافة أشكالها.

على ساورز أن يسأل نفسه:
ماذا لو نجح السيسي؟ ماذا لو سحق الإسلام السياسي وأصبح لا قيمة له؟ وماذا لو استسلمت جماعة الإخوان المسلمين وتم إخماد صوت ملايين المصريين والليبيين والتونسيين في سلسلة من الانقلابات الخشنة أو الناعمة؟ هل سيكون بإمكان أي جهاز أمن أوروبي إدارة العواقب والتحكم في النتائج؟
إن التحالف العسكري ضد الدولة الإسلامية لا يبشر بخير، ويدرك جهاز المخابرات البريطانية MI6 أن مسلحي الدولة الإسلامية أكثر تعقيداً في تركيبتهم وأكثر تحفزاً وحماسة مما يتصور كثير من الناس.
لقد نعتهم دافيد كاميرون بالوحوش ولكنهم ليسوا على الدرجة من الغرابة التي سعى رئيس الوزراء إلى تصويرهم بها.
بعض منتسبيهم مألوفون جداً - إنهم من السنة الذين كانوا عناصر في القوات المسلحة وجهاز المخابرات العراقية وبعضهم من البعثيين السابقين.
جميعهم مدربون، ولهم تجارب وخبرات في ميادين القتال، وتمكنوا من الحصول على أسلحة متطورة.

القلة من هؤلاء يتبنون الأيديولوجية الجهادية، ولكنهم جميعاً لهم عدو مشترك - إنها المليشيات الشيعية المدعومة من إيران والجيش العراقي ذو الصبغة الطائفية. لا يقبل هؤلاء المقاتلون السنة إطلاقاً بالفكرة القائلة إن التدخل الأمريكي الأخير هو تدخل جديد، فبالنسبة لهم لم تتوقف الحرب بتاتاً. لقد توقف القتال فقط في الأذهان الأمريكية والبريطانية حينما غادرت قواتهم. ولعل بارك أوباما نفسه، الذي ميز سياسته الخارجية بأنها تقوم على إنهاء الحروب التي اندلعت في عهد بوش، سيجبر على الاعتراف بأنه الآن إنما ينخرط في استئناف نفس تلك الحروب.


وينتاب القلق الشديد أجهزة الاستخبارات والأمن البريطانية والفرنسية والأمريكية تجاه احتمال أن يعود مواطنو بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية إلى بلدانهم على متن طائرات قادمة من تركيا وقد أصبحوا مقاتلين جهاديين على درجة عالية من المراس. إلا أن البلدان التي ينتابها فزع شديد من انتشار عدوى الجهاديين عبر الحدود هي الأنظمة العربية الاستبدادية حيث الحقوق الديمقراطية الأساسية لا تتجاوز كونها أحلاماً بعيدة المنال وحيث تحتكر الثروة من قبل القلة القليلة من المتنفذين. تنحدر النسبة الأكبر من الجهاديين من المملكة العربية السعودية ومن المناطق الريفية في تونس حيث فشلت الثورة في إنجاز المكاسب الاقتصادية الأساسية.

إلى أي حد سيصل مستوى التهديد الأمني المتربص بأوروبا لو أن خمسة ملايين شاب مصري انضموا إلى صفوف الجهاديين كملاذ وحيد للتخلص من الدكتاتورية العسكرية؟ مثل هذا السؤال لم يعد مجرد تنظير، فلقد تأسس حتى الآن عدد من المجموعات الجهادية في سيناء حيث أصبحت أقدامهم راسخة، وباتت التفجيرات التي تستهدف رجال الشرطة في صعيد مصر حدثاً شائعاً. لقد قتل شرطيان الأحد أمام مبنى وزارة الخارجية.
لربما مازال ثمة ثمن باهظ لابد من تكبده مقابل مساندة الدكتاتوريين الذين يحرسون المصالح الغربية على حساب جميع القيم والذين يدمرون الوسيلة الناجعة الوحيدة لمواجهة الجهاديين المتطرفين.


( المصدر)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق