أبراج الاستبداد فوق الرمال
تضم دولة الإمارات العربية المتحدة عشرات آلاف الوافدين من أجل العمل، وتزداد أعدادهم استنادا إلى الطفرة العقارية والاقتصادية، كما يقصدها ملايين السياح سنويا.
في هذا البلد الذي يبدو أشبه بورشة عمل كبيرة تضم مختلف الجنسيات، رفع ولي العهد محمد بن زايد "لا تقل لي ما مذهبك قل لي ما عملك".
وربما يخال للمرء للوهلة الأولى أنه يعيش في بلد قابل للتعايش أصلا أو الشعور بالاستقرار والأمان، لكن تحت سطح مدن الأبراج التي تعانق السماء، سياسة أمنية استبدادية، إذ ظلت الإمارات طيلة الفترة الماضية -وفق تقارير حقوقية محلية وأجنبية- من أكثر دول العالم تقييدا لوسائل الإعلام، وانتهاكا لحريات وحقوق الإنسان، فيما تزخر سجونها بأعداد كبيرة من الناشطين الإماراتيين، وحتى الوافدين الذين يواجهون خطر الإبعاد إلى بلدانهم ومصادرة مدخراتهم، بعد إخضاعهم لتعذيب ممنهج.
لا تراعي سياسة الإمارات التي ترسمها العاصمة أبو ظبي في الأساس مع استقلال نسبي لإمارة دبي، أي حقوق داخل بلد يتقاسم السلطة فيه حكام سبعة في شكل هش.
يتمتع شيوخ هذه الإمارات في سلطة مطلقة، ويمكن ببساطة أن تجد نفسك مغيبا خلف السجون، بسبب نزاع مالي، أو أن تتسبب ثروات بعض التجار الضخمة بغضب واستياء المسؤولين هناك، لينتهي بهم الحال داخل زنازين انفرادية.
وكان عشرات التجار والموظفين العموميين دفعوا خلال السنوات ال5 الماضية ضريبة السياسة الاقتصادية التي انتهجها محمد بن راشد، وأوقعت إمارة دبي على سبيل المثال في ديون تجاوزت 80 مليار دولار، حيث اتهم هؤلاء بالفساد والسرقة، وأجبروا على دفع الأموال المهدرة لخزينة الإمارة، كما أطيح بآخرين وشوهت سمعتهم.
وكانت أبو ظبي واجهت بعد وفاة حاكم الإمارات السابق زايد بن سلطان آل نهيان تعقيدات كثيرة على صعيد الحكم، فالحاكم الحالي الشيخ خليفة لا يملك أي نفوذ على مؤسسة الجيش ولا حتى على الملف السياسي، وهو يقضي جل وقته متنقلا بين أوزباكستان والمغرب ويعاني أوضاعا صحية صعبة.
ويعتبر شقيقه محمد بن زايد الحاكم الفعلي للبلاد، ويعرف عنه الاستبداد والتبعية الشديدة للولايات المتحدة.
ويبرز هنا أيضا اسم منصور بن زايد، وهو مسؤول ملف الاتصال الخارجي، ويعرف عنه دفع أموال طائلة من أجل تحسين صورة البلاد، عبر وسائل إعلام عربية وأجنبية.
لم يتوقع هؤلاء يوما أن تطالهم شظايا التغيير التي اجتاحت الدول العربية، فقد فوجؤوا في آذار (مارس) 2011 بعريضة وقعتها 133 شخصية إماراتية، تطالب حاكم البلاد للمرة الأولى بانتخاب كامل أعضاء المجلس الوطني عبر الاقتراع المباشر، وإجراء تعديلات جذرية على الدستور.
وأعقب هذه العريضة النادرة عريضة أخرى وقعها قرابة 300 مواطن في نيسان (إبريل) من نفس العام. ولم تمضي أيام حتى شرعت أجهزة الأمن باتخاذ إجراءات قمعية بحق الموقعين، وفرض رقابتها على وسائل الاتصال، خصوصا الاجتماعية.
وفي شباط (فبراير) 2012 فجرت وزارة الداخلية قضية ما يعرف بالخلية الإخوانية السرية، واتهمت 93 شخصا قالت إنهم ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين بالعمل على زعزعة الأمن والاستقرار، والتحضير لانقلاب على الحكم.
وكان من بين الموقوفين 78 إماراتيا واحد منهم سحبت منه الجنسية و11 مصريا و5 لم تحدد جنسياتهم، إضافة إلى 13 امرأة.
وصدر بحق هؤلاء أحكاما بالحبس تراوحت بين 3 إلى 15 سنة.
وتسببت هذه القضية بأزمة كبيرة بين حكومة الإمارات وجماعة الإخوان في مصر، لكنها أحدثت أيضا تغيرا كبيرا على نهج السياسة الخارجية للبلاد، ودعم حملات مناوئة لثورات الربيع العربي، التي استفادت منها قوى الإسلام السياسي.
وقاد هذه الحملات وزير الخارجية عبد الله بن زايد، الذي منحت وزارته الإقامة لشخصيات يعرف عنها العداء الشديد للثورة المصرية، أهمها الفريق أحمد شفيق، أحد أبرز القريبين من الرئيس المخلوع حسني مبارك.
واعتبرت مؤسسات حقوقية أن الأحكام الصادرة بحق الناشطين، هدفها تخويف الآخرين الذين يدعمون مطالب الإصلاح، وأشارت إلى أنها تمثل انتهاكا لكل المواثيق الدولية والقوانين المحلية لدى الإمارات.
واستخدمت هذه البلاد أموال طائلة من أجل تهدئة الشارع، وتجنب الاحتجاجات عند بدء موجة الربيع العربي، إلا أنها استخدمت العنف المفرط، وتشددت بخصوص الحركات والناشطين الذين أصروا على الإصلاح والمطالبة بالديمقراطية ولم تغرهم الأموال.
والحال ذاته بالنسبة لدول خليجية أخرى استخدمت "البترودولار" من أجل إغراء الناشطين السياسيين وتهدئة الشارع ومحاصرة الاحتجاجات، إلا أن الذين أصروا على المطالبة بالتغيير كان مصيرهم السجن.
ومثلت المحاكمات التي شهدتها الإمارات خلال الأشهر الماضية تحولا كبيرا، حيث بدا أن الحكومة تسعى إلى سحق وقمع المطالبين بالتغيير، سواء من الإسلاميين أو غيرهم، بعد أن تميزت سياساتها سابقا بالتسامح وهامش أعلى من الحرية مقارنة مع حكومات الدول الخليجية الأخرى.
واللافت أن الولايات المتحدة التي تعتبر الإمارات واحدة من أهم حلفائها في المنطقة، ومصدرا مهما للنفط، ظلت صامتة إزاء مطالب الإصلاح التي تشهدها البلاد.
ولا زالت الإمارات التي تمثل أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة في المنطقة تحظر الأحزاب السياسية، إضافة إلى أن أكثر من نصف المواطنين فيها محرومين من حق التصويت في أي انتخابات، فضلا عن أن نصف أعضاء البرلمان (المجلس الوطني) يتم تعيينهم من قبل رئيس الدولة بدل انتخابهم.
وتصنف الإمارات أيضا على أنها من أهم الدول الداعمة لسياسات واشنطن فيما يعرف بالحرب على الإرهاب، وقد بادرت قبل سنوات إلى إنشاء أول مطار عسكري يتبع القوات الجوية الأميركية (جنوب دبي) كما جعلت من ميناء "جبل علي" محطة كبيرة لجهاز المخابرات الأميركية "سي. أي. إيه".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق