الثورة المحمدية.. والثورات العربية
خلود عبدالله الخميس
ليس بسؤال افتراضي بقدر ما هو استفزازي لاستنهاض عقولنا لمواجهة عيوبنا وتقصيرنا ومراجعة فهمنا لقيم أي ثورة في الدول العربية لنقف على الأسباب المتعلقة في عناصر وعوامل أصحاب الثورة «الثوار» قبل الإتيان بشماعة معلق عليها قميص عثمان ورجم الأسباب الخارجية التي لطخته.
الثورة كجسد، تتحكم في حركته المفاصل، ويغذيه الدم، ويبقيه الأكسجين، مثلما لأعضائه مهام لكسب عوامل الحياة، لديها أيضاً العكس، طرد عوامل الحياة، الثورة ذاتها في داخلها ثورة ضدها، في عناصرها تتشكل فكرة التخلي مثلما كانت فكرة التمسك القوة، والضعف الذي ينتاب الفكرتين يعتمد على منحى بدايتها والصعود وقمتها، وثم الطريق للهبوط والسقوط، وتأثير المرجفين بالدفع لكسر أي نصر.
الثورات العربية جاءت لأسباب لا ينكر أن وجودها حقيقي ومستحق إلا جاهل أو منتفع من استمرار الوضع القائم.
ولم يتحول الغليان إلى انفجار إلا بعد أن بلغت الأنظمة مرحلة الطغيان والتطاول على الأساسيات اليومية وضرورات الحياة للإنسان، والبغي بالسجن والإعدام والنفي، بينما كانت الشعوب على صفيح ساخن إبان فترة الظلم والاضطهاد، قبل أن تثور، تنتظر الخلاص بمعجزة، في زمن رفعت فيه المعجزات، واستبدلت ببذل الأسباب والتوكل على المسبب.
الثورات العربية في القرن الحادي والعشرين لا تختلف عن أكبر ثورة في الخليقة، الثورة المحمدية على القيم الجاهلية القرشية، ثورة ألغت مفاهيم كانت راسخة لا يمكن أن تتزحزح من دون «ثورة فكرية» تسبق تلك المسلحة، ثورة حولت من يسجدون للأصنام ويذبحون لها القرابين إلى صحابة ومبشرين بالجنة.
كلنا يعرف أن المرحلة المكية كانت فترة استضعاف، وكان الصبر على أذى المشركين هو الرد المتاح والممكن في ظل عدم توازن القوى، وفي المصطلح الشرعي هو قرار يُتخذ بقياس أدنى المفسدتين وأعلى المصلحتين ممن يمتلك الفقه.
أطاع الثوار قائدهم الذي كان يرى حالهم ولا يملك إلا الدعاء والشد من عزيمتهم، ومن ينسى قوله صلى الله عليه وسلم عندما مر بآل ياسر وهم يعذَّبون «صبراً يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» وكأنني أسمع نبرة صوته المتحشرجة من الأسى على حال المسلمين، ولكنه مأمور، ولم يأته الإذن بعد من ربه لا بالمقاومة ولا بالجهاد ولا بالهجرة، حتى جاء الفرج بعد الصبر، والظفر والنصر بعد الذل والهوان، وكل شيء بتدبير الله.
في خضم مرحلة الاستضعاف لم يقعد القائد محمد صلى الله عليه وسلم ويندب حظه وأتباعه، بل عكف على تعزيز «الفكرة»: الإسلام، فقد عمل بجد واجتهاد لتثبيتها، ونسميها العقيدة، فكانت فترة ثلاثة عشر عاماً من التكريس للإيمان بعد أن ألقيت بذوره في القلوب النيِّرة المشتاقة للعدل والمساواة والعدالة الاجتماعية والرخاء والأمن والسلام والحرية المسؤولة.
فجاءت «فكرة الإسلام» بذلك كله، نشرت السلام بين قبائل متناحرة على العشب والماء القوي يبتلع الضعيف، وعتقت العبيد، وأحيت الموؤدات، وحفظت شرف وكرامة المرأة من استخدامها كأداة متعة ووعاء للذرية، فورَّثتها وجعلت لها ذمة مالية تامة، وحقوقاً تفوق الرجل في مواقع، وجعلت منه «بادي غارد» لها أو باللفظ الشرعي «مَحرَم» يرافقها أينما تشاء ليحميها وينفق عليها ويرعاها بسلامتها ومرضها، حتى رضاعتها لطفلها أقر الإسلام لها أجراً لها، مسكينات النساء في الغرب، مهدورات الحقوق، وواجباتهن لا يطِقنها، وباسم المساواة عدن لأسوأ من الجاهلية الأولى.
هذه ثورة سيد المجاهدين محمد مزدهرة منذ 1435 عاماً وتنتشر لا تتراجع، صلى الله على محمد، نشهد أنه حمل الأمانة وبلغ الرسالة وجاهد في الله حق جهاده.
أما الثورات العربية فأصيب في مفاصلها بخشونة لزمت تبديل تلك المفاصل، ولأن العملية الجراحية لتبديل الأعضاء باهظة الثمن لا تملكها الشعوب المسحوقة، فما زالت الثورات تترنح بعرجتها من جهة،ومن جهة أخرى تطفق مما تجد أمامها لتغطي سوءة تخليها عن ظهرها وانكشافه للعدو عندما نزلت من الجبل لتجمع الغنائم، نعم فجبل أحد شهد أنموذجا لعصيان أوامر القائد رغم حسن النوايا وقوة الإيمان، كان السلوك مناقضاً للنية فكانت الخسارة فادحة وموجعة.
واليوم ثوراتنا كلها رؤوس والرقبة الواحدة لا تحتمل أكثر من واحد. فلا تنجح معركة تُدار بأميرين، ولا ثورة تتحرك برأسين، صار المخلصون فيها كالقلة القابضة على الجمر بين جوقات من المنافقين أحفاد عبدالله بن أبي بن سلول، والمرتدين أتباع مسيلمة، والعلمانيين أنصار النظام العالمي الكافر، لأنه قوي على المسلم لأنه في حالة ضعف الآن، وهؤلاء نكبة الأمة منذ بدايتها.
ولكن تلك الثورات ستبقى جذوة أكيدة وإن خمدت نيرانها لن تنطفئ، لثورة كبرى آتية، هي نتاج كل الإحباط والحرب على الثورات المتفرقة، نتاج كل المؤامرات والمكائد ضدها، نتاج سرقة الفرحة من مُقَل الأطفال وبهجة النصر من زناد المجاهدين ونشوة التحرر من الظلم على أوشحة النساء.
الحكم على الثورات ليس ببداياتها، ولكن بقدرتها على الالتزام بعاملين: قيمها وأهدافها، وصدق نوايا أتباعها، الثورة ليست إلا دعوة، ولكل دعوة دعوة مضادة، ويحسم نتيجة التدافع بينهما الالتزام بكلمة السر «إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم».
• @kholoudalkhames
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق