د. سلمان بن فهد العودة
نحن الآن في نهاية سنة (١٤٣٥ من الهجرة)، وهذ المقال كُتب في الأسبوع الأخير من شهر ذي القعدة، ونُشر في مطلع ذي الحجة.
سقطت صنعاء بيد "الحوثيين" سقوطاً درامياً مثيراً، وتمت العملية بانسيابية غريبة؛ توحي بتواطؤ إقليمي ودولي، ولم يُسمع صوت احتجاج أو تنديد، ولا أُغلقت سفارة، ولا وُزِّعت ألقاب التطرف والعنف، والإخلال بالأمن، والعدوان على سلطة النظام!
إنه لغز محيِّر، ودائماً نلجأ للقول المأثور (فتنة تدع الحليم حيراناً).
وقبلها عاشت بغداد ودمشق أوضاعاً مأساوية غير مسبوقة، والعالم الذي كان يتفرَّج على مجازر الأنظمة ويقوم بإحصاء الضحايا -وهم بمئات الآلاف- دون أن يُفكِّر في منع الطيران على الأقل.. بدأ يتدخَّل تحت ذريعة محاربة الارهاب!
لن يتدخَّل العالم إلا بتنسيق مع النظام وإلا لصارت طائراته هدفاً، فطائرات النظام التي تقصف المدنيين هي في نفس المجال الجوي!
والناس ضد الإرهاب ولكنها تسأل كم قتل الإرهاب المستهدف؛ الذي تحالف العالم لمحاربته، وكم قتل الإرهاب الحكومي المدجج بالطيران، والبراميل المتفجِّرة، والأسلحة الكيماوية؟
هل الأهمية فقط للأسلوب الذي يتم به القتل بحيث إذا استخدم سلاحاً كيماوياً يتهيأ العالم لضربه، وإذا قتل بطريقة أخرى يكتفى بالإدانة؟
أم القصة تتعلق بإنسانية المقتول؛ فإن كان عربياً أو مسلماً فالخَطب يسير، أما إن كان من جنسية غربية أو إسرائيلية فهو خط أحمر؟
ليبيا تعيش أوضاعاً غير مستقرة، وتتصارع فيها القوى سياسياً وعسكرياً، مما يمهِّد للتدخل الإقليمي والدولي..
بروز القوى المحليَّة؛ التي كانت تعيش في الهوامش والأطراف، وقفزت إلى صدارة المشهد.. هل هو مؤشر لمخطط تقسيم جديد للمنطقة العربية؟ بمعنى أنه تغيُّر في الاستراتيجية الدولية المهيمنة، أم أن ما يحدث هو بسبب تراجع الدور الأمريكي وضعفه مما ولَّد فراغاً تم ملؤه ببعض القوى الجاهزة الحقيقية أو المتسلِّقة والانتهازية؛ التي تظهر سريعاً وتتراجع سريعاً، وتكون متحالفة مع غيرها من قوى الثورة المضادة أو الدوائر الإقليمية؛ التي تحركت مطامعها الاقتصادية والسياسية بعد تراجع أحداث الربيع العربي؟
على أيِّ الاحتمالين فالمحصِّلة أن الأوضاع غير مستقرة لا في صنعاء ولا في غيرها، ولن يستتب الأمر للحوثيين كمستفردين بالسلطة ولا لغيرهم، والأوضاع السياسية تحتاج لفترة كافية حتى تتضح معالمها، وهي أشبه باللوحة الفنية التي تتشكَّل شيئاً فشيئاً، والمتعجِّل قد يرى بداياتها فيظنها شيئاً وعند النهاية يكتشف أنها شيء آخر مختلف.
والمجتمعات العربية تفتقد المشروع النهضوي الذي تلتف حوله، فهي في أمر مريج، وتدافع وتنازع، والناس يصرخون ثم ينتقلون للحديث عن مأساة أخرى دون تأثير يُذكر؛ لأنه لا يوجد وعاء جامع يستوعب جهود الأفراد والمجموعات، فهي عملية حرائق تشب هنا وهناك، وإطفاؤها يتم وفق نظام الفزعات!
والأكثرون منهمكون بالتحليل -ولو كان سطحياً أو مبنياً على معلومات ناقصة أو مضللة- ثم بالتبشير بما سيحدث من وراء ذلك، وهم مأخوذون بالخوف على أنفسهم أو على مبادئهم التي يؤمنون بها أو القلق من تنامي قوى إقليمية كإيران.
ردة الفعل المباشرة هي غريزة فطرية، ولكن حين يسكت عن موسى الغضب يأتي دور المدارسة والتفكير، والانتقال من الاستجابة للغريزة إلى التعقُّل والتروِّي وتقليب وجوه الرأي.
نظرياً علينا ألا نتعجَّل في المواعدات الظنية بأنه سيحدث كيت وكيت، فالغيب لا يعلمه إلا الله، ونحن لسنا خبراء في السياسة، ولا ضليعين في رسم أبعادها واحتمالاتها، والتدبير هو بيد الله، وما القوى العالمية والمحليَّة إلا أدوات بشرية عادية قد تريد شيئاً وتخطط له ويريد الله غيره، {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
علينا أن ندرك أن عشر سنوات على الأقل لابد منها حتى تتجلى الرؤية، ونستطيع قراءة اللوحة الفنية بقدر من الوضوح، أما الآن فهي الصورة المرتبكة المضطربة؛ هي خطوط هنا وخطوط هناك، وألوان متداخلة تجعل الناظر في حيرة من أمره.
عقد من الزمن منذ بداية أحداث الثورات العربية وما تلاها ربما يحدد القوى التي نجحت في المحافظة على نفسها واستثمار الفرص بطريقة صحيحة، والقوى التي كانت ظواهر وقتيَّة تمَّ النفخ فيها أو توظيفها، ومع الزمن تعود إلى حجمها الطبيعي.
وفي عنوان المقال أضفت سنةً ليصبح الرقم (١٤٤١)؛ اقتباساً من رؤيا يوسف -عليه السلام- حين قال: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}، مع أنه ليس في رؤيا الملك إلا سبع سنوات، ولكن التحديد بسبع يدل على أن ما بعدها مغاير لها، ولأن الأوضاع التي تتشكَّل تحتاج إلى فترة ليراها الناس بوضوح ويتحدثون عنها.
إضافة خمس سنوات إلى تفكيرنا الحالي القلق يمنحنا فسحةً وهدوءاً نفسياً وفكرياً؛ فلا نقع تحت طائلة الإحباط اللحظي واليأس القاتل أو الإحساس بأن الأحداث تتحرك دوماً ضدنا، ولا نتحول إلى كائنات مكتئبة متذمرة.. فهذا لن يكون خيراً لنا، ولن يسمح لنا بالفعل والمشاركة في التغيير، وثمَّ في ضمير الغيب ألوان من التغيير الإيجابي؛ الذي لم نكن نختاره، ولا نفكر فيه، ولا نحسن الوصول إليه بل قد نكون ضده، ولكن الله يعلم أنه الأفضل، {وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
وعمليَّاً فالفترة الحالية مهمة؛ لأنها فترة فرز وتكوين جديد، وكما يقال (السابق لابق)، وإذا كانت بعض شعوب المنطقة متفرِّجة تكتفي بالحديث، فثمَّ شعوب أخرى بيدها الكثير من القوة والتأثير، وعليها أن تستحضر قول ربها: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}، فحين يكون المقصد البحث عما ينفع الناس سيكتب للجهد الخلود والتأثير بمقتضى السنة الإلهية؛ التي نطقت بها آية الرعد، وحين يكون القصد العلو في الأرض والفساد فهو مثل الزبد؛ الذي يطفو فوق السيل، ويراه الناس وكأنه هو الأقوى والأغلب والمسيطر.. بينما هو هواء ذاهب لا حقيقة له ولا خير فيه، وكم من قوى سادت قليلاً ثم بادت كأن لم تكن، والشيوعية أظهر مثال، والنهاية مؤكدة، مؤكدة تماماً دون شك عند من يعقلون عن الله، {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ}.
المهم ألا نكون نحن ظالمين، فسنن الله لا تحابي أحداً كائناً من كان!
إذاً دعونا نُرحِّل تحليلاتنا لأحداث الساعة؛ لنتساءل: ماذا سيكون عليه الحال في ذلك العام؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق