الاثنين، 14 سبتمبر 2015

عفوا " بوتين " فليست سوريا كأوكرانيا أو أفغانستان ؟

عفوا " بوتين "


 فليست سوريا كأوكرانيا أو أفغانستان ؟



شريف عبد العزيز
ثمة جينات سياسية وذهنية وعسكرية تحكم كل الطغاة ، وبغض النظر عن تقدم أو تخلف بلد هذا الطاغية ، أو موقعه الجغرافي والحضاري ، جينات تكاد متطابقة بين معظم حكام العالم الثالث الذين وصلوا لسدة الحكم بالقهر والطغيان والعبث بإرادة الشعوب المقهورة ، واللعب على أوتار القومية والوطنية والأمجاد الغابرة والأماني الكاذبة .
هذه الجينات تفسر لنا كثيرا من التشابه الواقع في ردود الأفعال تجاه الأحداث السياسية الكبرى في منطقتنا العربية والمنكوبة بثلة من هذه العينة من الطغاة والمنتزين على مقدرات السلطة فيها.
الرئيس الروسي ذو الخلفية العسكرية " بوتين " شخصية تتسم بالعناد السياسي ، ويحمل جينات سياسية وعسكرية شبيهة بحكام العالم الثالث وخصوصا منطقتنا العربية ، ولعل هذا ما جعله كارها لثورات الربيع العربي بكاملها ، في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن ، وله مواقف شديدة السلبية منها ، حتى أنه ندم علنا على موافقته على قرار مجلس الأمن بفرض حظر جوي في ليبيا مما مكن الثوار من حسم المواجهة مع عصابات القذافي وأبنائه، وهو اليوم يكفر عن زلاته السياسية بموقف متصلب ومتطرف للغاية من الثورة السورية ، موقف وصل إلى أعلى تجلياته في تدخله العسكري المباشر في سوريا بصورة أعادت المنطقة العربية والإسلامية لأجواء الثمانينيات عندما تدخل الروس عسكريا في أفغانستان والتداعيات الضخمة التي تلت هذا التدخل الكبير.
فمنذ اندلاع الثورة السورية في العام 2011، وروسيا تقف بجانب نظام الأسد قلبًا وقالبًا عبر الدعم المالي الاقتصادي والدعم السياسي في منع القوى الكبرى من التدخل لإسقاط الأسد أسوة بما حدث مع الرئيس الليبي المقتول معمر القذافي في السابق.
وفي سبيل ذلك أبرمت روسيا مع النظام السوري العديد من صفقات التسليح هي صاحبة الفضل الأول حتى الآن في صمود النظام أمام كتائب المعارضة المسلحة، إذ تعد روسيا أهم مصدر تسليح لنظام الأسد، حيث تبلغ حجم عقود التسليح الموقعة بين الطرفين ما يقرب من 4 مليارات دولار، فضلًا عن امتلاك الجانب الروسي لقاعدة عسكرية في مدينة طرطوس السورية.
كما أطلقت روسيا يد حليفتها إيران لدعم نظام الأسد بشتى الطرق الممكنة، عن طريق توفير المشتقات البترولية وتوفير تسليح إيراني محلي، إذ يبلغ إجمالى الدعم الإيراني إلى الأسد مبالغ تترواح بين 15 و20 مليار دولار سنويًا، فضلًا عن إمداد النظام السوري بمقاتلين شيعة من كافة أنحاء العالم، ناهيك عن التدخل المباشر للحرس الثوري الإيراني بجانب قوات الأسد في المعارك الميدانية حتى انضم لها مؤخرًا حزب الله اللبناني بوازع إيراني تحت المظلة الروسية نفسها لدعم النظام الأسدي.
ولم ينفي قدري جميل نائب رئيس الوزراء السوري المكلف بالشؤون الاقتصادية في تصريح لصحيفة الفايننشل تايمز البريطانية أن الحلفاء الثلاثة لنظام الأسد يدعمونه ماليًا بما مقداره 500 مليون دولار شهريًا من المعاملات المالية تشمل صادرات النفط وخطوط تأمين مفتوحة.
كما تتدخل روسيا منذ فترة طويلة بشكل غير خفي في مسألة الدعم الفني لجيش الأسد النظامي، عن طريق إرسال مستشارين عسكريين ومدربين وعاملين في الخدمات اللوجيستية والكوادر الفنية وأعضاء في قسم الحماية الجوية وطيارين روس لتدريب القواعد الجوية الروسية .
 فروسيا إذا لم تهجر أبدا بشار الأسد، بل واصلت حتى في أحلك أيامه توريد السلاح والمساعدات المالية السخية له، ولكن مثل هذا التدخل المباشر وإرسال المقاتلين والطيارين الروس هو بلا أي شك، حتى بالنسبة لها، تصعيد مثير بل ومفاجئ.
فمنذ أسبوعين شهدت أروقة موسكو نشاطا دبلوماسيا مفاجئا ومريبا في نفس الوقت ، ففي وقت واحد اجتمع ثلاثة مسئولين كبار في موسكو مع الرئيس الروسي بوتين، وكان موضوع النقاش الرئيسي في حوار بوتين مع الثلاثة واحد ؛ كيفية إنقاذ بشار؟
المهم أن بوتين وبعد اجتماعات مكثفة أطلق أكبر جسر جوي عسكري روسي منذ احتلال الحرب الروسية على جورجيا سنة 2008 ، وكان التحرك من الكثافة والسرعة لدرجة لفتت عواصم غربية كبرى بما فيها واشنطن التي اكتفت ببيان هزيل أبدت فيه قلقها من التحرك الروسي والانغماس في الصراع السوري وأن ذلك يمكن أن يعقد الأمور أكثر ويوسع دائرة الدم والنار ، أيضا نشرت صحف غربية ووكالات أنباء تقارير عن هذا التدخل الروسي المكثف والمفاجئ ، وهو ما لم ينفه بوتين ولا وزير خارجيته لافروف ، وأكدوا أنهم يرسلون الدعم "الإنساني" لسورية ، وأن هناك تعاقدات مع الجيش السوري من خمس سنوات وموسكو تلتزم بها ، ثم لوحوا إلى أنهم قد يضطروا إلى التدخل أكثر في سوريا إذا اقتضت الحاجة ، وهو تمهيد صريح للإعلان عن العمليات العسكرية.
فلماذا هذا التطور الكبير في الموقف الروسي إزاء الأزمة السورية ؟
روسيا تتدخل عسكريا بصورة مباشرة في سوريا لأسباب كثيرة أبرزها:
ـــ القناعة الروسية بأن سوريا الموحدة تحت حكم بشار قد انتهت،وأن التفتت هو المصير المحتوم لسوريا حال استمرار بشار ، فأفق التسوية السياسية التي تتفق عليها الدول المعنية بالصراع السوري ، في المنطقة والعالم أصبح مسدودا ، ولا يلوح في الأفق تقارب في وجهات النظر وإنما انقسام حاد يرى الجميع أنه قد لا يحسم إلا بالسلاح ، ومن ثم كان لابد على روسيا التحرك لحماية وتدعيم دويلة الساحل الطائفية العلوية التي قرر مصممو خرائط سوريا الجديدة منحها لبشار وطائفته في المرحلة القادمة ، ويحاول تكرار بوتين تجربته الناجحة في أوكرانيا بالتركيز على تدخل القوات الروسية في مناطق الأقليات لتشكيل ما يشبه "تقسيم" أمر واقع ، وهو ما فعله في شرق أوكرانيا ، والمعلومات الواردة من سوريا تفيد بتركيز القوات الروسية على تأسيس قواعد ومطارات جديدة في اللاذقية وطرطوس ، وهي مناطق التمركز للأقلية العلوية التي يمثلها بشار الأسد ، والتي تردد أنها خياره الأخير إذا خسر دمشق ، وفيها توجد القاعدة الروسية البحرية الوحيدة في البحر المتوسط.
ـــ دخول الجيش الروسي في سوريا بهذه الكثافة يحمل إشارة واضحة إلى انهيار قوات بشار وصعوبة صمودها أمام ضربات الثوار بتشكيلاتهم المتنوعة ، كما أن التدخل الروسي يعني أن تدخل القوات الإيرانية وقوات حزب الله الشيعي لم تنجح في تعديل الموازين أو إنقاذ بشار ، بما استدعى دخول ثاني أكبر جيش في العالم لدعم بشار ضد ثورة شعبه.
ــ تغيير موقع روسيا في المشهد الإقليمي والدولي من مربع الداعم إلى مربع الفاعل .فروسيا لا تريد أن تقتصر وسائل تفاوضها حول سوريا على دورها في مجلس الأمن الدولي، وعلى تسليحها للجيش السوري، ونفوذ خبرائها ومستشاريها ورجال استخباراتها فحسب، بل تريد أن تكون موجودة على الطاولة بصفتها طرفاً عسكرياً فاعلاً على الأرض وليس بصفتها دولة عظمى حامية للنظام ،وهي بذلك تدشن مرحلة جديدة في النظام الدولي تملأ بها الفراغ الذي تعمد الأمريكان تركه في المنطقة ، في ظل إصرار أوباما في استمرار إستراتيجية القيادة من الخلف التي أطلقها منذ بداية ولايته الرئاسية الثانية.
ـــ الحفاظ على قاعدة طرطوس البحرية ، فروسيا تمتلك أكبر قاعدة عسكرية خارج أراضيها في ميناء طرطوس السوري، وهي القاعدة الروسية الوحيدة الضخمة في البحر المتوسط، التي تعتبر منفذ للروس إلى المحيط الأطلسي والبحر الأحمر والمحيط الهادي، هذه القاعدة العسكرية الروسية التي تقع غربي سوريا تشهد منذ فترة تعزيزات عسكرية كبيرة لا سيما مع اندلاع الثورة السورية ودخولها في طور العسكرة، ومؤخرًا تحدثت تقارير عن تزويد الروس لقاعدتهم في طرطوس بمنظومة صواريخ من أحدث المنظومات في المنطقة.
وقد سلطت برقية نشرها موقع "ويكيليكس" الضوء على هذه القاعدة العسكرية الروسية، البرقية السرية صادرة عن رئاسة الاستخبارات العامة السعودية عام 2012، تتحدث عن القاعدة الروسية في طرطوس التي شهدت تعزيزات مستمرة تزامنًا مع احتدام الأحداث في سوريا، وبحسب البرقية فإنها تُشير إلى أن هذه القاعدة تتمتع بالحماية العالية، بسبب امتلاكها سلاح إشارة خاص بها متطور فضلًا عن المزيد من الأسلحة الدفاعية الأخرى، كما تلفت البرقية إلى أن قاعدة طرطوس أصبحت من أهم القواعد الروسية خارج روسيا، بل وصفت البرقية القاعدة بأنها تضاهي القواعد في الداخل الروسي.
وانطلاقًا من هذه المصالح الجيو سياسية بالنسبة لروسيا، فأحد أسباب هذا التدخل بلا شك هي نظرة موسكو إلى ميناء طرطوس باعتباره بوابتها البحرية إلى المنطقة، وليس لديها أي استعداد للاستغناء بسهولة عن هذه البوابة الاستراتيجية، كما أعلنت ذلك بشكل مستمر، ولا يزال ولايزال ميناء طرطوس حتى اليوم المستقبل الأول للأسلحة الروسية المصدرة إلى النظام السوري، كما نجح النظام السوري بمساعدة الروس في ربط الميناء بشبكة متطورة من البنى التحتية مع المدن السورية الاخرى.
من جهة ثانية ذكرت صحيفة "نيزافيسيمايا" الروسية بتاريخ 18 يونيو 2012 في تقرير بعنوان "الجيش الروسي سيحمي القاعدة البحرية في الشرق الأوسط": إن القيادة الروسية ارتكبت الكثير من الأخطاء في السابق عندما تركت القاعدة البحرية في فيتنام للأمريكيين، فهو إحساس روسي بتصحيح أخطاء الماضي في الخارج .
ـــ مواجهة التنظيمات الإسلامية المجاهدة ، فروسيا تحمل إرثا تاريخيا ضخما متخما بالمواقف السلبية تجاه الإسلام السنّي عموما ، والجهادي خصوصا ، يمتد لقرون منذ أيام المواجهات التاريخية بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية . وحديثا فإن ما ذاقه الروس على يد المجاهدين الأفغان في الثمانينيات يكفي وحده لإبقاء جذوة الرغبة في الانتقام متقدة عند قادة الكرملين.
أما بالنسبة للأزمة الروسية فثمة مشكلة إستراتيجية كبيرة ستسببها الثورة السورية لروسيا ، إذ أن غالبية الأجانب الملتحقين بالتنظيمات الجهادية في سوريا جاءوا من الأقاليم الروسية ، فالقوة الضاربة لتنظيم داعش المرعب ممثل في الكتيبة الشيشانية بقيادة صلاح الدين الشيشاني، وروسيا تتخوف من عودة هؤلاء المجاهدين إلى روسيا بعد سقوط الأسد ، في ظل تقارير استخباراتية تؤكد على نية الكثيرين منهم الجهاد في سوريا بنية التدرب على ما سيفعلونه في روسيا بعد عودتهم ، وروسيا تشاهد إنهيار الجيش السوري الموالي لبشار رغم المساعدات العسكرية أمام التنظيمات الجهادية بجزع شديد، كما تشاهد فشل المساعدات الإيرانية الضخمة في وقف المد الجهادي هناك بنفس العين ، لذلك لم يكن مستغربا اجتماع بوتين مع كبير المرتزقة الإيرانيين " قاسم سليماني " منذ شهر وذلك قبل إطلاق حملة التدخل العسكري المباشر ، فقد أطلع منه على فشل الإيرانيين في منع إنهيار الأسد.
وفي ضوء فشل التحالف برئاسة الولايات المتحدة في وقف داعش، يسعى الروس إلى طرح بديلهم، وما امتنعت الولايات المتحدة عن عمله فإنهم مستعدون بل وجاهزون لعمله، إرسال جنودهم وطياريهم إلى أرض سوريا.
 لعل السكوت الأمريكي على التدخل الروسي يكون بهذا السبب ، فالروس قد يخوضون حربا بالوكالة عن الأمريكان غير المستعدين لمواجهة التنظيمات الجهادية على الأرض.
يبدو أن الروس لم يتعلموا أبدا من دروس الماضي ، فبشار ليس برباك كرميل ولا نجيب الله ، وليست التنظيمات الجهادية في سوريا اليوم مثل الجهاد الأفغاني الذي كان في طور التشكل ويفتقر إلى العدة والعتاد ، فما سيواجهه الروس في سوريا شعب بأكمله شديد التذمر من طاغية سفاح قتل وشرد الملايين من أبناء شعبه ، والمنطقة من أدناها إلى أقصاها في حالة استنفار وصراع غير مسبوق ، ودخول الروس عسكريا في سوريا سيعطي زخما وقوة كبيرة لموجات التطوع للجهاد ضد الروس ، وسوف يتدفق على الأراضي السورية والعراقية مئات الآلاف من المقاتلين للجهاد وصد العدوان الروسي ، وهناك دول إقليمية معارضة للتدخل الروسي لا تحتاج إلا لتسهيل المرور وغض النظر عن مرور السلاح ، وسيكون من الصعب على بوتين ، كما كان صعبا على السوفييت ، الانسحاب بشكل مهين مهما كانت الخسائر ، وبالتالي يزداد الانغماس أكثر في الوحل السوري ، حيث تتحول الورطة إلى رمال متحركة تبتلع كل يحاول الدخول فيها.وليس للروس وقائدهم المتهور بوتين منجى مما تورطوا فيه سوى أن يقتصر دورهم العسكري على حماية قاعدة طرطوس وتأمين دويلة الأسد على الساحل ، غير ذلك فسيكون أسوأ كوابيس الروس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق