الحراك ضد مرسي.. الدوافع والأسباب
حسن الرشيدي
«محمد مرسي هو في الحجز اليوم، إلا أن الجريمة الوحيدة التي
ارتكبها أنه تم انتخابه رئيساً لبلاده».
هذا تعليق صحيفة تليجراف البريطانية على انقلاب الجيش على رئيسه في الثالث من يوليو الماضي بعد سنة من انتخابه كأول رئيس مصري في تاريخها يجيء عن طريق انتخابات شهد العالم بنزاهتها.
أكثر الأسئلة إلحاحاً الآن تدور حول: هل كان تولي مرسي الحكم في مصر مخططاً مدبراً من الجيش والمخابرات فضلاً عن القوى الخارجية؛ لتصفية الثورة بتمكين الإخوان المفخخ بالأزمات، ومن ثم الإجهاز عليه في مشهد ختامي؟
أم أن حركة الجيش جاءت لإنقاذ البلد من حكم الإخوان الذين تسبّبوا في تدهور اقتصادي وخدماتي وانهيار أمني وانزلاق لحرب أهلية؟
ولمحاولة الإجابة عن الأسئلة السابقة لا بد من نظرة سريعة للخصائص التي تحكم تركيبة الجيش المصري الذي يعدُّ القوة الأولى في مصر، واقتصرنا على التاريخ الحديث منذ إنشائه في عهد محمد علي حتى يومنا هذا:
ففي عام 1820 استقدم محمد علي ضباطاً فرنسيين ليدرّبوا ضباط المماليك على النظام والأساليب الأوروبية العسكرية، ثم تولى هؤلاء الضباط تدريب الجنود المصريين، وبالتدريج تم إحلال الضباط المصريين مكان المماليك، وكانت هناك مشكلتان في البداية:
الأولى: تتمثل في عدم الانضباط.
والثانية: اختلاف ديانة المدربين عن هؤلاء الضباط.
وسرعان ما تغلب محمد علي على هاتين الصعوبتين بمزيج من الدهاء والبطش، فنتج عنهما أن الجيش المصري منذ هذا التاريخ أصبح منضبطاً شديد الصرامة في مسائل الانضباط وطاعة الأوامر لدرجة إذلال الجنود، حتى بات هذا التجنيد كابوساً للأسر المصرية عندما يلتحق أحد أبنائها بالجيش مجنداً، وفي الوقت نفسه هذه الصرامة والانضباط تجعل الجيش يستعصي على التمرد والخروج عن الأوامر.
والأمر الآخر الناتج عن تذمر الرعيل الأول من ضباط الجيش من رؤسائهم الفرنسيين، فقد حسمه محمد علي بأن أصبحت العلمانية السمة الغالبة لتوجهات الجيش المصري، بل الدولة المصرية كلها.
ورغم تأثر كثير من ضباط الجيش عبر تاريخه بالصحوة الإسلامية، خاصة في ذروة وقوة الصحوة في الأربعينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لكن يبقى اعتناق بعض الضباط فكر الصحوة يشوبه في كثير من الأحيان ضعف الالتزام لهؤلاء الضباط بسبب طبيعة ظروفهم العسكرية بعيداً عن الحضانات التربوية الإسلامية التي تصقل النفس وتجعلها مرتبطة بأجواء العبودية والطاعة.
وفي بداية إنشاء جماعة الإخوان حرصت على اختراق الجيش وتمكّنت من جذب مجموعة من الضباط إلى صفوفها، لكن كما أسلفنا لم تسعفها حضاناتها التربوية في صقل التزامهم، وعند أول محنة للجماعة ترك أكثر هؤلاء الضباط الجماعة وتفرغوا لطموحاتهم الشخصية، بل كانوا أكثر شراسة في اضطهادها عندما أخذوا السلطة في عام 52، ومارسوا القمع ضدها كما لم يمارسه الآخرون، وانخرط هؤلاء الضباط في السياسة ومؤسسات المجتمع المصري بشدة، وتزامن هذا مع رفعهم لواء العلمانية في محاولة لقسر المجتمع المصري عليها بعد قمع الحركات الإسلامية وفي طليعتها «الإخوان المسلمين».
وعقب هزيمة النظام العسكري في 67 سعت قيادات الجيش إلى السماح بوجود علماء أزهريين لرفع الروح المعنوية للجنود تمهيداً لمعركة استرداد الأرض، وتأثر كثير من الضباط بالأجواء الإسلامية التي شاعت في مصر في أعقاب الهزيمة، وانضم بعضهم إلى الجماعات الجهادية، واشتركوا في اغتيال السادات، لكن تأثر الضباط المصريين بالدعوة الإسلامية ظل في غالبه الأعم مقتصراً على التدين الشخصي الذي يُسمح به في الجيش المصري محافظاً على سمته العلماني في توجهاته.
وتولت المخابرات العسكرية غربلة الحياة الشخصية للضباط المصريين؛ فمن وجدته متأثراً بدعوات إصلاحية أو تغييرية، تتم إحالته للتقاعد، كذلك حافظ الجيش على نواديه فمنع دخول الملتحين والمنتقبات.
ولذلك كان معروفاً عن المشير طنطاوي مثلاً أنه كان محافظاً على الصلوات في المساجد، وبخاصة صلاة الفجر، بينما ينقل عنه قوله إنه "إذا فكر أحد من الإسلاميين في السلطة ستقطع رقبته"[1]. وتنقل صحيفة الشروق عن قائد عسكري كبير منذ أكثر من عام قبل تولي مرسي الرئاسة قوله: الانقلاب عمل انتحاري، لكننا مستعدون لهذا العمل الانتحاري لمنع إقامة دولة دينية في مصر[2].
السمة الثالثة للجيش المصري بعد الانضباط والطابع العلماني.. الاشتغال بالتجارة:
فمنذ ما يقرب من عام ونصف أصدرت وكالة رويترز تقريراً عن ثروة قيادات الجيش، وتنقل الوكالة عن أكثر من عشرة ضباط في الخدمة أو تقاعدوا حديثاً من أصحاب الرتب المنخفضة والمتوسطة، أنهم وزملاء لهم ضاقوا ذرعاً لازدياد ثراء عدد قليل من كبار الضباط، بينما تكافح الأغلبية العظمى من الضباط والجنود.
وقال رائد في الجيش للوكالة: الضباط في الجيش يعانون مثل باقي المصريين، خصوصاً في جزئية رفع مستوى المعيشة.. وتتركز ثروة الجيش في يد أقلية.. «الضابط لازم يوصل لرتبة معينة حتى يبقى له نصيب في الثروة».
لكن من أين أتى هذا الثراء بينما الدولة المصرية نفسها محدودة الموارد؟
في مؤتمر صحفي غير مسبوق عقده اللواء محمود نصر، مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية، في 27 مارس 2012، تحدث اللواء عن النشاط الاقتصادي للجيش الذي يجعله مكتفياً ذاتياً ومعيشياً عن الدولة، والفائض يبيعه للمدنيين، وهذا الفائض هو الذي يخضع فقط لمراقبة الدولة وتدفع عنه الضرائب. واعترف بأن بعض القرارات طوال المرحلة الانتقالية لم تكن سليمة، حيث إنها اتخذت في الوقت غير المناسب.. لكن أخطر ما قاله هو تأكيده أن «أموال الجيش ليست من أموال الدولة ولن نسمح للدولة بالتدخل فيها؛ لأنها ستخربها وسنقاتل دفاعاً عن مشروعاتنا، وهذه معركة لن نتركها، والعرق الذي ظللنا ٣٠ سنة لن نتركه لأحد آخر يدمره، ولن نسمح لغيرنا أياً كان بالاقتراب من مشروعات القوات المسلحة».
هذا التصريح ينم عن بعض ما يصبو إليه المجلس العسكري، وهو: أن ميزانية الجيش ومشروعاته مستقلة ولا يسمح بتدخل أي نظام سياسي في هذه الميزانية.
ويبرر المجلس ذلك بعدم الثقة بقدرات المدنيين على إدارة هذه الميزانية.
وفي تقرير نشرته صحيفة لوس أنجلوس تايمز الأمريكية قبل تصريحات اللواء نصر بيومين، ذكر أن الاستثمارات التي يقوم بها الجيش تبلغ من 10% إلى 40% تقريباً من الاقتصاد المصري.
بينما يفصّل تقرير غربي آخر حجم الاقتصاد الذي يشرف عليه الجيش فيقول: إنه وبموجب معاهدة كامب ديفيد كان على الجيش أن يقلص قواته، وبدلاً من تسريح مئات الآلاف من الرجال أقام الجيش مصانع لتوظيفهم، وتنتج هذه المصانع الآن كل شيء بدءاً من الذخيرة وانتهاء بقدور الطهي وطفايات الحريق وأدوات المائدة. ويدير الجيش أيضاً مصارف وعمليات سياحية ومزارع ومحطات لمعالجة المياه وسلسلة من محطات البنزين وشركات مقاولات وشركات استيراد. والشركات التي يملكها الجيش منفرداً معفاة من الضرائب، ويعمل فيها المجندون الذين يتقاضى الواحد منهم ما بين 17 و28 دولاراً في الشهر، غير أن الجيش يتولى إطعامهم ويقدم لهم الرعاية الطبية[3].
السمة الرابعة للجيش المصري:
من أهم أهداف اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 وضع الجيش المصري تحت المراقبة الأمريكية لضمان ابتعاده عن أي تفكير في خوض حرب ضد «إسرائيل» أو عرقلة المصالح الأمريكية، وذلك بربط تسليحه بمعونة أمريكية تقدر سنوياً بـ 1.3 مليار دولار، وتشمل أيضاً برامج تدريبية للضباط المصريين للتعرف على أفكارهم وتوجهاتهم، مع إمكانية تعديلها وتغيير اتجاهاتها عن طريق هذه الدورات بربطهم بالحياة الأمريكية وقيمها.
وخلال ثلث قرن تمكَّنت الولايات المتحدة من احتواء الجيش المصري عن طريق تلك المعونة التي يستطيع الجيش المصري بها تحديث معداته وتدريب قواته بالشكل الذي يضمن التفوق الإسرائيلي ويحافظ على المصالح الأمريكية.
هذه السمات الأربع للمؤسسة العسكرية: الانضباط والعلمانية والتجارية والتبعية؛ أثرت في طبائع الضباط المصريين، فأصبحوا مزيجاً من الطاعة المطلقة وفق التسلسل القيادي العسكري، إضافة إلى التديّن الكاره للإسلاميين وفكرة الحركة بالإسلام، والاهتمام بالمصالح المادية والثراء، لكن الأمر لا يخلو من وجود وطنيين يهتمون بمسائل الأمن القومي المصري مع تمتعهم بالصفات السابقة.
فقد كشفت وثائق ويكيليكس عن أنه جاء في برقية دبلوماسية لوزارة الخارجية الأمريكية تعود إلى عام 2008، أن المشير طنطاوي، وزير الدفاع المصري السابق، ملتزم بمنع الزج بمصر في أي حروب جديدة، كما أنه أبدى مراراً عدم الارتياح لتركيز الولايات المتحدة على مكافحة الإرهاب.
وعلى العموم يدرك العسكريون المصريون خطوطهم الحمراء جيداً فلا يخرجون عنها بأي حال.
تسييس الجيش المصري:
كان للجيش المصري طوال تاريخه دوره المشهود في السياسة المصرية، وإن اختلفت وتيرة هذا الدور عبر عقود طويلة.
وتشهد ثورة عرابي على هذا الدور عندما قام الضابط أحمد عرابي بقيادة تحرك للجيش وسرعان ما تحول إلى ثورة على الخديوي توفيق احتجاجاً على التدخل الأوروبي في شؤون البلاد، وسرعان ما هزمت جيوش الإنجليز جيش عرابي وأعقبها احتلالٌ لمصر دام سبعين عاماً، وتم حل الجيش المصري وإعادة تكوينه بضباط إنجليز، وتدريجياً عاد الضباط المصريون مرة أخرى، وفي الثلاثينيات من القرن العشرين تم إدخال الطبقة الوسطى من المجتمع المصري إلى سلك الضباط، وهؤلاء تأثروا بالتيارات الفكرية التي كان يموج بها المجتمع المصري حينئذ؛ لذلك التحق كثير من الضباط بالأحزاب والجمعيات السرية في ذلك الوقت، ما نتج عنه نشأة تنظيم الضباط الأحرار الذي كان يضم بين جنباته كثيراً من الضباط الإخوان، وقام هذا التنظيم بانقلابه المشهور في 52، وتم استبعاد الإخوان، وحدثت المواجهة الكبرى بين الإخوان والتنظيم الذي نكَّل بالجماعة، وبعد أن استتبَّ الأمر للضباط انخرط هؤلاء في مؤسسات الدولة وشهدت البلاد عسكرة للمناصب والوظائف العليا في أمر غير مسبوق، ما جرَّ البلاد إلى هزيمة ماحقة في 67، وكان الدرس الأكبر الذي أخذته قيادات الجيش من هذه الحرب عدم التدخل في السياسة، وهذا ما أثبتته التطورات اللاحقة في أزمتي اضطرابات عام 77 وتمرد الأمن المركزي عام 86، حيث نزل الجيش لفض هذه الاضطرابات ثم عاد لثكناته من دون أن يأخذ نصيباً في السلطة، وساعده على ذلك أمران:
انشغال الجيش واستفراده بأوضاعه الداخلية دون تدخل النظام السياسي.
وجود ضابط على رأس السلطة السياسية.
لكن في أواخر عهد مبارك ومع اتساع نطاق الفساد في الدولة وورود أنباء عن احتمالات التوريث لابن مبارك؛ بدأت قيادات الجيش التفكير جيداً في التدخل لمنع التوريث، وساعدها على ذلك قيام ثورة 25 يناير، فعمد الجيش إلى التدخل الخفي عن طريق مخابراته العسكرية، وكان يهدف إلى إسقاط الداخلية، الذراع الباطشة لحسني مبارك، وذراعه السياسية المتمثلة في الحزب الوطني.. وعن طريق إحراق مقار كل من الداخلية والحزب قطعت الأذرع الأمنية والسياسية لنظام مبارك، وبموقف الجيش والمخابرات العامة بزعامة سليمان المحايد الظاهري، فَقَدَ مبارك كل أركان نظامه، وكان مستعداً لقبول حل يبقيه حتى نهاية مدته، ووافق الجيش على هذا الحل، لكن المتظاهرين أبوا إلا أن يرحل مبارك، فتم إجباره على التنحي، وأصبح المجلس العسكري الحاكم بأمره في مصر، وبرز دور عبد الفتاح السيسي، رئيس المخابرات العسكرية، باعتباره قد قام بالدور الأبرز في ثورة 25 يناير.
خطورة عبد الفتاح السيسي:
برز دور عبد الفتاح السيسي بعد الثورة، لكن الحقيقة أن دوره بدأ قبل ثورة 25 يناير 2011 بما يقرب من عام، فقد تم تكليفه من قبل المشير طنطاوي بإعداد خطة طوارئ للدور الذي يمكن أن يلعبه الجيش عند الانتقال المحتمل للسلطة من مبارك إلى نجله الأصغر جمال. وتوقعت خطة الطوارئ أن يبدأ سيناريو نقل السلطة في مايو (٢٠١١)، وأن تصحبه احتجاجات واسعة قد تستدعي تدخل القوات المسلحة لإجهاض هذا السيناريو. الخطة نفّذت في سياق مختلف مع اندلاع ثورة يناير.
يقول عبد الله السناوي[4]: قبل خمسة أشهر (يقصد من تاريخ تولي مرسي الرئاسة) سألت قائداً عسكرياً كبيراً: من وزير الدفاع القادم؟ أجاب بكلمات مقتضبة: إنه أمامك الآن، مشيراً إلى اللواء عبدالفتاح السيسي، مدير المخابرات الحربية، الذي كان يجلس بجواره. حججه في تزكيته أنه أصغر أعضاء المجلس العسكري سناً، وأن المؤسسة العسكرية تحتاج إلى تجديد دم شامل في قياداتها التي «شاخت» في مواقعها، وأن جيله يتعيَّن عليه الآن أن يخلي تلك المواقع لجيل جديد من القادة العسكريين يتولى إعادة الانضباط للقوات المسلحة عند عودتها لمهامها في حفظ الأمن القومي ورفع مستويات التدريب تأهباً لأي احتمالات تطرأ.
يضيف السناوي في هذا الحوار الذي لم يكن للنشر وشهد وقائعه ثلاثة من كبار الصحفيين.. قال القائد العسكري البارز: هذا ليس رأيي وحدي.. إنه تفكير المشير حسين طنطاوي نفسه.
ويؤكد الخبر الذي قاله السناوي ما نشرته صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية من تقرير يؤكد فيه أن المشير طنطاوي قدم السيسي لمستشار أوباما لشؤون الإرهاب على أنه وزير الدفاع القادم في مصر.
هذه الثقة جعلت السيسي يقود اختيارات المجلس العسكري طوال أحداث الثورة؛ فقد كان يضع ما يسمى سيناريوهات تقدير الموقف على طاولة الاجتماع، وفي معظم الأحيان ينتصر السيسي بالسيناريو الذي يراه مناسباً لحل الأزمة، وبعض هذه السيناريوهات كان يعرضها مباشرة على المشير دون بقية قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ويتخذ فيها المشير قرارات فورية دون الرجوع للمجلس[5].
اللافت للانتباه هنا أن ترقي الفريق السيسي في المناصب كان سريعاً مقارنة بآخرين، فعادة حينما يتولى ضابط منصباً يظل فيه تقريباً من عام إلى عام ونصف العام حتى ينتقل إلى منصب أعلى منه، لكن السيسي كان يبقى لستة أشهر فقط في المنصب حتى يستلم مهمة أكبر، والسر في ذلك علاقته الوطيدة بالمشير طنطاوي والجملة التي قالها طنطاوي عنه: «السيسي لا يفعل سوى ثلاثة أشياء في حياته: الصلاة وقراءة القرآن، ثم العمل، ثم ممارسة الرياضة».. هذه المقولة انتشرت كثيراً بين ضباط القوات المسلحة، ورسمت صورة ذهنية جيدة عنه، واختاره طنطاوي ليشغل أهم منصب داخل الأمانة العامة لوزارة الدفاع، وهو رئيس فرع المعلومات والأمن، وأسهم هذا في تقريب العلاقة بينهما وإضفاء هالة كبيرة على شخصية السيسي بين أجيال مختلفة من الضباط، فالتقارير التي يكتبها كفيلة بصعود أو هبوط أي قيادة عسكرية، ثم حصل في فترة وجيزة على مكافأة ثانية من المشير وهي تعيينه مديراً للمخابرات الحربية[6].
السيسي والإسلاميون:
منذ بداية الثورة تم تقسيم الملفات على أعضاء المجلس العسكري، وكلف طنطاوي الفريق السيسي بملف الإخوان المسلمين والإسلاميين، حيث تولى الاتصال بهم وعقد معهم الصفقات.
حرص السيسي طوال وجوده في المرحلة الانتقالية وفي فترة تولي مرسي، على إشعار الإسلاميين بأنه منهم، يعتنق أفكارهم ومبادئهم في الإصلاح والتغيير.
أذكر أني قابلت[7] أحد القيادات الكبرى التاريخية لإحدى الجماعات الإسلامية التي دخلت في صدام دامٍ مع نظام مبارك استغرق عدة سنوات، وسألته عن رأيه بالسيسي، فذكر لي معرفته بالسيسي منذ عام 1981، حيث كان السيسي برتبة ملازم أول، وكان هذا القيادي برتبة مقدم، ودخل القيادي الإسلامي المعتقل حينئذ في أعقاب اغتيال السادات، وبعدها بشهور قليلة فوجئ بقصاصة ورقية من السيسي مكتوب فيها: لماذا تعجّلتم؟ ويستمر القيادي في روايته ويقول: بعد أن صعد السيسي وزيرا للدفاع في أعقاب تولي مرسي مسؤولية الرئاسة، زرته - أي القيادي الإسلامي - في مقر وزارة الدفاع، وسألته: ماذا تفعلون مع مرسي؟ فأجابه السيسي: لقد ظللنا ثلاثين سنة نحمي مبارك الذي تعرفه جيداً بدوافع وطنية، وعندما يجيء من يحمل فكرنا ماذا سنفعل معه؟
وتتعدد المصادر التي تذكر مدى ارتباط السيسي بالإسلاميين وحضوره دروس الدكتور العوا.
وهكذا اطمأن الإسلاميون إلى أن السيسي معهم، بل واحد منهم!
ورغم أن السيسي بدأ منذ نوفمبر 2012 يأخذ منحى مبتعداً علنياً عن الرئاسة بشكل تدريجي، لكن ظل الإسلاميون واثقين به.
تقول[8] الدكتورة أميمة كامل، مستشارة الرئيس المصري محمد مرسي لشؤون المرأة والأسرة، وهي أحد قيادات جماعة الإخوان المسلمين في قسم المرأة؛ إن أداء السيسي اتسم بكونه أداء مخادعاً كان يتمثل في التبسط والتقرب من الناس، بينما كان شخصاً مختلفاً وهو يلقي البيان التحذيري يوم الإثنين.
ويقول مراد علي[9]، المتحدث باسم حزب الحرية والعدالة، إن الجيش قرر مسبقاً عزل مرسي، وإن السيسي لم يكن مستعداً لمناقشة التنازلات التي كان الرئيس مستعداً لتقديمها. وأضاف «كنا ساذجين.. لم نكن نتخيل أن الخيانة يمكن أن تصل إلى ذلك الحد».
وتقول «نيويورك تايمز»[10] في يوم 21 يونيو حينما أعلن السيسي صراحةً أن التوتر المجتمعي بين المؤيدين والمعارضين قد أدى إلى انشقاق المجتمع المصري، وهذا يدعو القوات المُسلحة إلى "التدخل". ولما سأل مرسي السيسي عن هذا البيان، قال السيسي إنه بيان لمجرد تهدئة بعض القادة داخل الجيش، وإنه ليس أكثر من محاولة لاحتواء غضب هؤلاء، ومن ثم لم يُبالِ مرسي بعد هذا البيان الأول بأن الانقلاب قد أصبح قريباً.
وروى المتحدث الأسبق باسم الرئاسة المصرية ياسر علي تفاصيل اللحظات التي أعقبت بيان مهلة الـ 48 للسيسي، يقول: بعدما أصدر السيسي بيان مهلة الـ 48 ساعة، ذهب إلى القصر الجمهوري، وفي حضوري وبعد أن أدوا الصلاة خلف الرئيس مرسي، سألتُ السيسي لماذا هذا البيان؟ سيظهر أننا لسنا متفقين. فأجابني السيسي بالحرف الواحد: لا تتركوا لهم فرصة ليجعلونا نختلف مع بعضنا البعض.
أي أن خداع السيسي للرئيس استمر قبل 48 ساعة من الانقلاب.
يقول الدكتور باسم عودة، وزير التموين والتجارة الخارجية[11] الذي قدم استقالته عقب الانقلاب العسكري، إنه يعرف السيسي من خلال فترة الستة أشهر التي تولى فيها وزارة التموين، واصفاً إياه بأنه رجل يخطط قبل أن يتخذ قراره، وقبل أن يخطط يفكر ويتفق وينسق، فما نراه اليوم ليس أبداً نتاج أيام، بل نتاج أسابيع وشهور من اتفاقيات واستعداد للتنفيذ.
والحقيقة أن الرئيس مرسي حتى لو عرف بالمؤامرة مبكراً فإن الخيارات أمامه كانت ستظل محدودة في ظل سيطرة السيسي على الجيش عن طريق مخابراته العسكرية وبقية أجهزة الدولة التي تناصب مرسي والإسلاميين العداء (شرطة – قضاء - إعلام - أجهزة تنفيذية).
وقد حاول مرسي في الأسابيع الأخيرة استمالة عدد من قيادات الجيش، لكن كما أسلفنا فإن الانضباط القيادي داخل الجيش على درجة عالية من الانضباط.
لكن ما هي دوافع السيسي للتحرك؟
في رواية صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية[12] لخصت السبب المباشر في التغيير وهو رفضه إملاءات أمريكية تقضي بتنازل مرسي عن الحكومة وقبوله بتعيين حكومة جديدة ومحافظين جدد ورئيس وزراء جديد يتمتع بكل الصلاحيات التشريعية.
وتستمر الصحيفة الأمريكية في رواياتها وتقول: تلقى الرئيس محمد مرسي وهو وسط حراسه أثناء الساعات الأخيرة من حكمه كأول رئيس منتخب لمصر، مكالمة من وزير خارجية عربي تضمّنت عرضاً أخيراً لإنهاء الأزمة في البلاد مع جنرالات العسكر. وأضاف المستشارون أن وزير الخارجية كان مفوضاً من واشنطن. وأضاف المساعدون أنه بعد ذلك توجه عصام الحداد، مستشار الرئيس مرسي للشؤون السياسية، إلى الغرفة المجاورة لإخبار السفيرة الأمريكية آن باترسون برفض مرسي، وحينما رجع الحداد قال إنه تكلم قبل ذلك إلى سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي، وبعد ذلك بدأ الحراك العسكري بالفعل. وقد جاء على لسان المترجم المساعد "ستخبرنا الأم بالتوقف جميعاً عن اللعب في ساعة معينة"، مشيراً بذلك إلى التعبير المصري الساخر عن الدولة الغربية الراعية لذلك، وهي (ماما أمريكا).
لكن لماذا تفعل أمريكا ذلك؟
في البداية راهنت أمريكا على مرسي بعد إرسال الإخوان رسائل تطمينات إلى الولايات المتحدة بأنه مستعد للحفاظ على مصالحها في المنطقة وضمان أمن (إسرائيل) ومكافحة الإرهاب.. فالولايات المتحدة كانت تريد نموذجاً مثل نموذج أردوغان في العلم العربي يستطيع احتواء الجماعات الجهادية في المنطقة ويقدم نموذجاً ديمقراطياً لا يصطدم بالحضارة الغربية، لكن بمرور الوقت ذهبت مراكز الدراسات والأبحاث الأمريكية إلى أن نموذج مرسي في الحكم هو نموذج إسلامي متطرف أقرب لأفكار سيد قطب، كما يقولون. وازدادت الشكوك أثناء أزمة غزة وتدخّل مرسي فيها واستطاعته الخروج بحل أظهر حماس كطرف منتصر، وفي الوقت نفسه خطا مرسي خطوات حثيثة نحو زعامة جديدة للعالم الإسلامي بعد خطابه في طهران، وبدأ الخوف يدب في الدول القريبة في المنطقة والحليفة القوية لواشنطن التي استشعرت الخطر بامتداد تأثير الثورة المصرية إلى أراضيها، وبدأت (إسرائيل) تضج بالشكوى منه؛ فكان لا بد من إنهاء حكمه كما في الخطوات التي بيّناها سابقاً.
لكن سرعان ما انقلب السحر على الساحر، فقد استوعب الإسلاميون الصدمة، وباتوا الآن الطرف المبادر لقلب المعادلات الإقليمية الدولية المحلية مرة أخرى، واستطاعوا أن يأخذوا بزمام التحركات في الشارع، وبدأت قلوب الناس الكارهة لهم نتيجة الإعلام المضلل ترنو إليهم، وبإذن الله سترتفع الراية لتبدأ بالزحف إلى كل مكان.
[1] الشروق 2/4/2012.
[2] المصدر السابق.
[3] رويترز 14/4/2013.
[4] الشروق 20/8/2012.
[5] الفجر 14/5/2013.
[6] المصدر السابق.
[7] مقابلة لكاتب المقال مع القيادي بتاريخ يناير 2013.
[8] وكالة الأناضول 10/7/2013.
[9] الجارديان 5/7/2013.
[10] Morsi Spurned Deals، Seeing Military as Tamed –newyorktimes- By DAVID D. KIRKPATRICK and MAYY EL SHEIKH- July 6، 2013.
[11] الشعب، الإثنين، 15 يوليو 2013.
[12] نيويورك تايمز - 6يوليو – مصدر سابق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق