مثلث الشر فى الانقلاب العسكرى
كتب: محمد يوسف عدس
لو ذهبت تحصى الجرائم اليومية التى ارتكبها النظام الانقلابي الحاكم لَمَا انتهيت ولأصابتك الحيرة واالدوار وربما الجنون.. ولعل هذا بعض مقاصد مهندسى الانقلاب وقادته.. فالجرائم والأحداث المروّعة تتواصل.. فى مسلسل لا تبدو له نهاية.. بدأ ببيان قائد الانقلاب فى ٣يولية ٢٠١٣ ثم تصاعدت نبرته بعد التفويض الهزليّ بالحرب على [الإرهاب المحتمل].. ثم تفجّرت حدّته بشكل جنوني فى المجازر الوحشية لفض المظاهرات.. الرافضة للانقلاب..
مثال واحد على اللامعقولية فى مسلسل الجرائم الانقلابية:
عملية إبادة جماعية لواحد وأربعين متظاهرًا أختُطِفوا.. ثم شُحنوا فى سيارة ترحيل المعتقلين متَّجهة إلى سجن "أبو زعبل".. وكانت النتيجة؛ قتل ٣٧ منهم.. واختفاء الأربعة الباقين.. فى ظروف غامضة؛ التقارير الأمنية مضطربة غير مقنعة وغير منطقية و لا تفسر شيئا.. وإنما تزيد الأمر غموضًا.. فقد قيل: أنهم ماتوا جميعًا مختنقين بالغاز المسيل للدموع.. وقيل أنهم حاولوا الهرب.. بمساعدة أناس آخرين .. وقيل أنهم احتجزوا ضابطا وحاولت الشرطة تخليصه من قبضتهم..
تتغير الروايات الرسمية لأسباب الوفاة الجماعية المفاجئة.. ومن ثم لا يمكن تصديق شيء منها.. وفى آخر الأخبار: نقلا عن الصحفى المسيحي رامى جان: أن المعتقلين لم يهربوا وأنه قد تمت تصفيتهم بأوامر عسكرية..
على أي حال .. مانريد أن نؤكِّده هو:
أن هذه الواقعة ليست إلا نموذجًا ومشهدًا واحدا من مشاهد هذا الانقلاب العسكري الارهابي؛ الذى يتخذ من التصفيات الجسدية بالقتل الحرق .. وعمليات القمع المفرط وإثارة الذعر والرعب الجنوني بين الناس.. وإذلال كرامتهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية- يتخذ من هذا كله تكتيكا منهجيًّا لإعادة تشكيل العقلية المصرية وتدجينها، وكسر إرادتها.. وقهرها على الاستسلام والسلبية التى اعتادت عليهاعقودا من الزمن.. حتى جاءت ثورة يناير ٢٠١١ لتكسر حاجز الخوف المروِّع الذى قيد حرية الشعب وقهره وجعله أسيرًا مسلوب الإرادة والكرامة لأكثر من نصف قرن من الزمن..
أحب أن أؤكِّد أيضا أن هذا ليس هو الإبداع الشيطاني الوحيد لعبقرية الانقلاب العسكري الذى تم تصميمه بخبرة أمريكية صهيونية لا تخفى على مراقب يحشد فى ذاكرته تفاصيل التجربة الأمريكية فى أفغانستان والعراق وجوانتنامو وفى فلسطين المحتلة.. وهذا موضوع يحتاج وحده إلى كتاب كامل.. ولكن ألفت النظر هنا فقط إلى أن إبادة المعتقلين فى سيارة ترحيلات الداخلية.. ومقتلة المحاصرين فى المساجد منقولة بحذافيرها من وقائع مماثلة سابقة فى أفغانستان.. وكذلك عمليات الإذلال الجماعي منقولة طبق الأصل من التكتيك الإسرائيلي فى حصار غزة.. وفى جميع العمليات العسكرية التى شنتها إسرائيل على المدنيين العزل: من تدمير للمستشفيات والمدارس والمساجد وقطع التيار الكهربائي عنها ومنع وصول الإسعاف إلى المصابين..
ولكن يتفرد الانقلاب العسكري المصري بإبداعاته الشيطانية العبقرية.. مما يمكننا رصده وتلخيصه فى أربعةً مُذْهِلاتٍ:
أولها- التلاحم العجيب بين عناصر من القوات المسلحة وقوات الداخلية.. مع بلطجية -فى ثياب مدني- مسلحين بالرصاص وبقنابل الغاز.. ويصوّب الجميع على هدف واحد هو المتظاهرين والمعتصمين السلميين فى الميادين.. والمحاصرين فى المساجد.. يتحرك هذا الثلاثي معًا فى تنسيق وتوافق لا يمكن إنكاره أو تبريره.. مثلث الشر هذا هو من أبرز سمات النظام القائم بحيث يمكن تسميته بعصر العسكرة والبلطجة..
ثانيها- استباحة المساجد ومحاصرتها –فى ظاهرة- لم يسبق لها مثيل فى مصر بهذه البشاعة والاستهتار والعلانية التى فاقت كل الحدود.. ظاهرة لم تُعرف فى مصر حتى فى أحلك عهود الاحتلال الأجنبي.. وقد بلغت حقارة الانقلابيين ودمويتهم أن يطلقوا قنايل الغازات السامة والرصاص الحي على المساجد ويقذفوها بالقنابل الحارقة كما حدث فى مسجد رابعة..
أما فى مسجد الفتح ومساجد أخرى فقد حوصرت من قِبَلِ البلطجية الذين كسروا النوافذ الزجاجية.. وحاولوا كسر أبوابها واقتحامها.. وتهديد المتحصنين فيها بالقتل تحت سمع وبصر قوات الجيش والأمن، فى مشهد مستفِذٍّ يصيب العقلاء بالجنون.. هذا الأسلوب من الحصار حالة نمطية تكررت بنفس الطريقة فى القاهرة والإسكندرية مما يدل على أنها من تصميم وإشراف سلطة واحدة عليا وليست اجتهادات فردية من أناس يُزعم لنا أنهم بلطجية أو أهالى غاضبين..
ثالثًها- نجح إعلام الانقلابيون الفاجر فى شيطنة الإخوان المسلمين .. حتى أن المحاصرين فى مسجد الفتح كانوا يقسمون بالله العظيم أنهم ليسوا من الإخوان.. ويأتى الشيخ عبد الحفيظ المسلّمى إمام المسجد ليؤكد هذه الحقيقة: أنه لا يوجد فى المسجد إخوان ولا أسلحة كما يزعم الإعلام .. وإنما أناس عاديين .. كأن الإخوان –بمنطقه- ليسوا من الناس العاديين..! وهذا يدلُّك على مدى تأثير الإعلام المضلل المسخّر فى خدمة أهداف الانقلاب العسكري.. لإعادة تشكيل العقلية المصرية..
رابعها- استباحة الجيش لدماء المصريين: وهو تحوُّل خطير فى العقيدة القالية للجيش المصري..
فى ضوء هذه الحقائق.. نسأل : ماذا يقصد السيسي والمتآمرون معه...؟!
أولا- الوجود المتلازم بين الجيش والشرطة والبلطجية دلالته لا يمكن التغاضى عنها أو الاستهانة بها؛ فهي تنطق الحقيقة بأبلغ بيان: أن مصر مقبلة على حكم عسكري لا احترام فيه للقانون أو الدستور.. فهو حكم القهر والعبودية والاستبداد والبلطجة.. ونُذُرُهُ مشهودة فى الشوارع التى يتحكم فيها البلطجية خلال ساعات حظر التجول تحت إسم اللجان الشعبية..
ثانيا- إستباحة حرمات المساجد بشكل متكرر بشع .. يسقط قدسية المسجد فى عقلية المصري المسلم .. لأن القداسة قد انتقلت بالانقلاب العسكري إلى البيريه والنياشين المعلقة على صدور الضباط الكبار.. تدرك هذا فى سلوك العبيد.. الذين استمرأوا العبودية واستكانوا إليها زمنا طويلا؛ بعضهم من رجال الفن والإبداع.. وهناك فيديو لأحدهم ينحنى على صدر السيسسى ليقبّل النياشين فى نشوة ظاهرةٍ، وتبتّل عبّر عنه بدموعه؛ كالعاشق المتوَلِّه.. الذى غاب عن معشوقه الإلهي زمنا ثم عاد إليه فى توبة وانكسار..
ثالثا- لاحظت فى دراستى لحرب الإبادة الجماعية التى شنها الصرب على مسلمى البوسنة ١٩٩٢-١٩٩٥م.. حيث قتلوا الآلاف ودفنوا آلافًا أخرى أحياءًا فى مقابر جماعية ودكُّوا المساجد على رؤوس من ذهب يحتمى تحت سقفها- كانت ترتفع على ألسنة الصرب حينذاك صيحة شماته مشهورة:
" أين إلهكم يامسلمون..؟ لماذا لم يأت لإنقاذكم من الموت..؟! ليس أمامكم إلا الاستسلام أو الإبادة؛ فلا عاصم لكم اليوم من سطوتنا.
وتلك هي الرسالة بعينها التى يريد السفاح إيصالها إلى المسلمين، الذين قضوا شهر رمضان يدعون الله فى صلواتهم أن ينصر الحق ويهزم الانقلابيين الذين سطوا على مصر.. يريد السفَّاح لهم أن يستخلصوا النتيجة بأنفسهم.. كأنه يقول لهم: إن الله لم يستجب لدعائكم يا رعاع.. وأن الأمر لا يخلو من احتمال أن إلهكم هذا الذى تدعونه ليس موجودا حتى يسمع دعاءكم فلا تعوِّلوا عليه..
ليس أمامكم إلا التسليم أو الإبادة.. وهى رسالة للشعب المصري كله: الخضوع للقهر والاستبداد العسكري والعودة إلى حظيرة السلبية وأسْرِ العبودية.. كما تعوّدتم من قديم.. و أهم من ذلك: التنازل عن أوهامكم فى الحرية والعدالة و العيش الكريم ..!!
رابعا- شيطنة الإخوان المسلمين ليس إلا جزءًا متكاملا فى المؤامرة الانقلابية الشاملة.. ولما كانت جماعة الإخوان المسلمين هى الفصيل الذى استطاع أن يتحرك بفاعلية مع جماهير الثورة المصرية ويقودها فى المرحلة الانتقالية للتحول إلى الديمقراطية وبناء دولة المؤسسات.. كان لا بد للانقلاب العسكري من استهداف الإخوان المسلمين بصفة خاصة للقضاء عليهم وإخراجهم تماما من المعادلة السياسية إلى الأبد.. ولو اقتضى الأمر التصفية الجسدية والإبادة الجماعية..
أحد أهم أهداف هذا الإفراط فى العنف الدموي هو استفزاز الإخوان المسلمين للتخلّى عن السلمية والانزلاق إلى العنف .. لكي يصدق فيهم وصف رئيس العصابة ومساعديْه: الطرطور والقرد العجوزين (أن الإخوان المسلمين) إرهابيون يستحقون القتل والإبادة..
خامسا- استباحة الجيش لدماء المصريين -فى الحقيقة- هى أخطرجريمة يرتكبها السيسى فى حق الشعب المصري وفى حق الجيش المصري. معًا؛ لأن وضع الجيش فى مواجهة الشعب الأعزل لفترة من الزمن طالت أو قصرت له تداعيات مروّعة على بنية الجيش وتشكيله الفكري.. وبالتَّبعية على موقف الشعب من جيشه.. وزعزعة ثقة الشعب فى حصانته من الغواية أو الانحراف عن واجبه الأصلي الذى ينحصر فى حماية الشعب من العدوان الخارجي..
ولكن قادة الانقلاب -بغباء مذهل- كسروا هذه العقيدة ووضعوا الجيش والشعب على منحدر تصادميٍّ بالغ الخطورة.. وهي حالة لم يسبق لها مثيل فى تاريخ مصر.. ويمكن أن تؤدى إلى حرب أهلية وإلى انقسام فى الجيش .. وهى كارثة مروّعة للجيش والشعب معًا..
من واقع دراساتى المستفيضة لعقلية الطغاة فى التاريخ الإنساني، تبيّن لى أنهم يسقطون دائما فى وهم أن جرائمهم البشعة لن تستمر إلا فترة وجيزة حتى تؤتى الثمار التى يرجونها؛ حيث يهدأ الجميع ويستسلمون .. ولكن الأمور تخرج دائما عن سيطرتهم.. وتتحول إلى كوارث متراكمة لا يملكون القدرة على احتوائها.. كأنه قدرٌ محتوم أن يقع الطُّغاةُ أسرى الغواية.. وينزلقوا إلى مزيد من القمع والاستبداد، وتتكرر الدوائر المفرغة.. حتى ينهار كل شيء وتخرب البلاد ويذهب الجميع إلى قاع الجحيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق