رابعة وموت الضمير

رابعة وموت الضمير

بقلم: عبدالله حميدالدين / كاتب وباحث سعودي
ما حصل اليوم في رابعة مؤلم بدرجة لا يمكن وصفها. أعداد كبيرة من القتلى. ومن الجرحى.
لا بد هنا من التوقف قليلا عند كلمتي قتلى وجرحى.
فنحن كثيرا ما نرددها مع الإعلام أو خلال نقاشاتنا من غير أن نتجاوز الكلمة إلى ما تدل عليه.
نعم ندرك إنها تدل على أنه هناك من فقد حياته. أو هناك من جرح. ولكن ما ذا يعني هذا؟
جسّد القتيل أمامك. تخيّله. تخيّل حياته. لحظاته. ابتساماته. مشيه على الأرض. تخيّل استيقاظه الصباح. تخيّل ذهابه إلى العمل. تخيله يحدث أولاده في العصر. يراجع معهم الدروس. تخيله يسهر مع زوجته في المساء. يضحك لها. وتضحك له.
تخيلها امرأة. ترعى أمها المريضة. تذهب لتكد يوما كاملا للحصول على بضعة جنيهات. تخيلها تحلم بمستقبل أجمل. تخيلها تمشي على ضفاف النيل.
تخيله شاباً في الجامعة. مفخرة أمه وأبيه. يعمل بعد الجامعة ليساعد أباه في الحصول على لقمة العيش...
تخيّل. تخيل. تخيل.
هذا كله انطفأ. ذهب. لن يعود.
تخيل الأرملة. تخيل الأيتام. تخيل انقطاع لقمة العيش.
تخيل ضياع أسرة.
تخيل انهيار أم. تخيل كربة أب.
تخيل انطفاء الأمل بغد أفضل.
خبر قتل أحد هو خبر انتهاء عشرات الألاف من اللحظات. وخبر انهيار حياة الكثير ممن ارتبط بتلك اللحظات.
المسألة ليست كلمة. والأمر ليس عدداً.
وأيضا الجريح. لا تنسوا أن الجريح ليس كلمة. تخيّل الألم. تخيّل من فقد عينه. من فقد سمعه. من فقد رجله. من فقد يده. من فقد مستقبله. من فقد مهنته. من فقد كل شيء.
الحياة ليست على الشاشة. ولا في تويتر. الكلمات التي تنقلها لنا الأخبار لا تحدثنا إلا بجزء بسيط من القضية.
المسألة أكبر من هذا. المسألة تؤلم أكثر من هذا. الخسارة أعظم مما نتصوّر.
تخيلوا.
اعطوا لفعل القتل رهبته. اعطوا لفعل الجرح هيبته.
هناك تجريد بالغ في فعل القتل وفي فعل الجرح. تجريد جعلنا نتعامل مع الكلمة. وليس مع حقيقة ما جرى.
وهذا ليس عن رابعة فحسب. بل كل قتل. حتى قتل عدوّك.
ومع كل الألم حول ما حصل اليوم. مع كل الحزن على الدماء. مع كل الاكتئاب على الضحايا. مع الهم الذي غلّف قلبي على من تركوا من ورائهم.. إلا أن مواقف الكثير مما حصل كانت قتلاً من نوع آخر.
مواقف مخزية مقرفة تصيبك بالغثيان. مواقف ستبقى عاراً على أصحابها لو كان لهم شرف يدرك العار أو يعرف ما هو.
شخص يشبه ما حصل بأنه تنظيف ساحة من فئران. أو شخص يقول لا داعي لنحزن على قتلى يؤمنون بالشهادة والجنة... وهناك غيرها ولكن لا أريد أن أقرفكم كما قرفت.
كلمات قاسية جدا. أوصاف دنيئة. قلوب عمياء. خالية من الضمير.
كأنهم في لعبة بلاستيشن. كأن من يُقتل ليس إنساناً. ليس حياة. ليس أملا لأحد. ليس مصدر لقمة عيش.
وقد صدمت لما قرأت هذه من أشخاص أعقل. أرحم. أكثر أخلاقا. ذوي ضمير.
وللآمانة خفت. خفت بشدة. خفت على نفسي. خفت أنني أعيش بين كائنات كهذه.
قبل فترة أيّام الحملة على حمزة كاشغري رأيت شهوة الدم هذه. رأيتها وقتها تظهر باسم الدين. باسم الله. نصرة للنبي. واليوم رأيتها تظهر باسم الحرية. باسم الديمقراطية. نصرة العدالة. ما الفرق بينهم؟
قسوة قلوب في الحالين. قسوة مخيفة. إلى أين متجهون؟
قسوة كشفت عن غياب الضمير تماماً. غيابه بالكلية.
المسألة ليست سياسية هنا. ليست عن موقفك.
المسألة ليست أن تكون ليبراليا إسلاميا انقلابيا ديمقراطيا ثوريا إخوانيا.
المسألة هل أنت بضمير أم بلا ضمير.
هل أنت إنسان؟ أم حيوان؟
مع اعتذاري للحيوانات التي ظهر أنها أكرم وأجل من بعض الأشكال التي رأيناها وسمعناها وقرأناها.
المسألة ليست انتهازية الإخوان. ولا الكذب في الأرقام. ولا تحديد الطرف المستحق للوم. هذه كلها يمكن مناقشتها خلال وبعد.
المسألة هي فقط أن لا ترضى بالقتل.
المسألة هي أن تحزن. أن لا تشمت. أن تكتئب. أن لا تعده انتصاراً. أن تعتبر أن الجميع خاسر.
المسألة أن تتعامل مع ما صار على أنه مأساة مهما كان موقفك.
حتى لو كنت مؤمنا بشرعية تدخل الجيش. حتى لو كنت مؤمنا بضرورة فض الاعتصام. ولكن في لحظة القتل فإن ضميرك على أن ينطق. عليه أن يقول لا. عليه أن يدفعك نحو الجنون.
أنا لا أطلب منك أن تدين الجيش. فقط أطلب منك أن ترى المأساة.
مهما اختلفت مواقفنا السياسية أو الدينية أو والفلسفية فلنتحد في أن لنا ضميرا لا يرضى العنف.
لا تحدثني في شيء آخر. لنبكِ فقط. لنبكِ على الحياة التي هدرت. لنبكِ على الأمال التي تحطمت. لنبكِ على الأطفال التي تيتمت. لنبكِ على الابتسامات التي انطفأت.
بقدر ما أرهقتني أخبار القتل والجرح. إلا أن تسويغات القتل والفرح به جعلتني أستفرغ.
بطبيعة الحال لا بد من الحديث عن من يتحمل مسؤولية ما جرى. ولا بد من إدانة أحد. ولكن في اللحظة هذه افصل القتل وبين السياسة. في اللحظة هذه اجعل لضميرك موقفا مما صار.
ولكن هذا لم يجر.
ما صار هو أن ضمائر البعض إما ميتة. وإما ... ميتة.
ما صار أنني اكتشفت أننا لا نملك ضميرا. ما نملك هي مواقف سياسية.
انظروا كيف يتم نزع إنسانية الإخوان. كيف يتم تحويلهم في الإعلام إلى حشرات. كل ذلك لكي يتم بعد ذلك قتلهم والرضا بذلك.
ذكرني بما صار في رواندا. كان الهوتوا هناك يسمون التوتسي بصراصير.
كيف لا تتعاطف مع مقتول؟ كيف لا تتعاطف مع أهله؟
كيف تختزله في موقفه السياسي؟ كيف تختزله في المكان الذي قتل فيه؟
كيف لا تنسى أنها حياة أزهت؟ كيف لا تنسى من سيترك خلفه؟
أنت حكمت عليه باستحقاق القتل وأنت لا تعرف عنه شيئا. لا تعرف حتى اسمه. بل لا تعرف حتى أسباب وجوده في رابعة.
أنت تعاملت معه على أنه رقم. على أنه شيء.
أنت بلا ضمير.
إن خصمك إنسان. هو ليس حشرة مؤذية. ليس ذبابة. ليس صرصوراً. إن لديه حياة. كانت لديه حياة. لديه أسرة. كانت لديه أسرة...
فلا تتحدث عن قتله وكأنك تخلصت من حشرة.
أنت بلا ضمير لما تعمل ذلك.
كل هذا سينتهي. وكل هذا سيُنسى. أو على الأقل لن يكون في الإعلام. ولكن سيبقى اليتيم يتيما. سيزيد الجائع جوعا. وسيزيد الفقير سحقا. وما كان مستورا سينكشف.
فكّر في كل ذلك وأنت تفرح بالقتل يا عديم الضمير.
بعض الجرحى لن يمشي. بعضهم لن ير. بعضهم لن يعمل. بعضهم سيصبح عالة. بعضهم سيُطرد من مسكنه. بعضهم سيلحقه القتل بدون رصاص.
فكر في كل ذلك يا عديم الضمير.