رسائل التاريخ (7)
انتفاضة شعب مصر ضد مراد بك وإبراهيم بك
حيث قاد انتفاضة شعبية لأول مرة ضد ظلم المماليك قبيل مجىء الحملة الفرنسية، فقد كان لديه حساسية عقائدية سليمة ترفض العدوان الأجنبى والاحتلال، ولكنها تثور أيضا ضد الظلم, وإن جاء على يد حاكم مسلم أو يرفع "راية الإسلام".
فقد جاهد ضد مظالم مراد بك وإبراهيم بك الذين كانا يحكمان مصر قبل نابليون, فحين حاول زعماء المماليك فرض المزيد من الضرائب بشكل أثار المزيد من تذمر الناس، لم يقف عمر مكرم عند حد المطالبة بإلغاء الضرائب، بل طالب بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية والتزام الحاكم والمحكوم بها, وإلا فقد الحاكم طاعته لدى المحكوم إن لم يلتزم بها. وانضم علماء الأزهر إلى موقف مكرم الذى دعا إلى إغلاق الحوانيت وهجر الأسواق وإثارة الناس، وبالفعل تجمع العلماء وطلبة الأزهر وجموع شعبية وطلبوا حضور أمراء المماليك لمناقشتهم فى مطالبهم, وعندما جاء مندوب عن إبراهيم بك امتثالا لهذه الدعوة قال له عمر مكرم: نريد العدل ورفع الظلم والجور وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوسات التى ابتدعتموها وأحدثتموها (كما يفعل يوسف بطرس غالى الآن) فرد المندوب وكان اسمه أيوب بك: لا يمكن الإجابة إلى هذا كله، فإننا إن فعلنا ذلك ضاقت علينا المعايش والنفقات.
فرد عليه عمر مكرم: هذا ليس بعذر عند الله ولا عند الناس، وإن الباعث على الإكثار من النفقات لشراء المماليك! والأمير يكون أميرا بالعطاء لا بالأخذ!
وفى اليوم التالي زادت جموع المؤيدين المحتشدين واتسعت دائرة الثورة، فاضطر إبراهيم بك ومراد بك لمقابلة المشايخ والعلماء تأكيدا لدورهم وأملا فى قيامهم بتهدئة الناس.
وخاصة بعد أن زحفت جموع الشعب إلى دار إبراهيم بك وقامت بحصارها.
وانتهى اجتماع الأمراء والعلماء بنتيجة باهرة (تحت الضغط الشعبى) حيث أعلن أمراء المماليك توبتهم!
وانتهى اجتماع الأمراء والعلماء بنتيجة باهرة (تحت الضغط الشعبى) حيث أعلن أمراء المماليك توبتهم!
والتزامهم بشروط العلماء, وأهمها الإفراج عن الحبوب وسائر المحاصيل الزراعية والمودعة مخازن الأمراء ليشتريها الشعب، وأن يرفعوا أيديهم عن إيراد الأوقاف الخيرية (حاليا الحكومة المصرية تستولى على الأوقاف) وأن يقلعوا عن المظالم، وأن يكفوا أتباعهم عن امتداد أيديهم إلى أموال الناس, وأن يسيروا فى الناس سيرة حسنة.
كما قام قاضى القضاة بتوثيق الاتفاق فى صورة حجة شرعية وقع عليها العلماء والأمراء، وجاء توقيع العلماء أولا!! (أجاب الأمراء بالسمع والطاعة وعدم مخالفة الجماعة وكل من خالف ذلك فيكون على ساداتنا أرباب السجاجيد وعلماء الإسلام والأمراء قهره واستخلاص كل ما هو مطلوب منه لأربابه) بل أقر الأمراء بعدم فرض ضريبة إلا إذا أقرها العلماء والأعيان، وألا يدخل الجند المدينة حاملين سلاحهم, وعندئذ فقد تم فك الإضراب العام وفتحت الأسواق, وقد علق الأستاذ عباس العقاد على هذه الوثيقة بقوله: (لو أنها كتبت فى بعض البلاد الأوروبية لجاءنا خبرها من كتب القوم فى علوم السياسة الحديثة بعنوان من تلك العناوين الكثيرة عن حقوق الشعب أو الدستور الأكبر أو (الماجنا كارتا) وما إليها من مصطلحاتهم التاريخية، ولكن العلماء الذين دعوا أمراء القصر إلى توقيع ذلك العهد لم يحسبوا أنهم جاءوا إلى الناس بعهد جديد غير التذكير بعهد كتاب الله وسنة رسوله التى نسيها هؤلاء الأمراء) ويعلق كثير من المؤرخين على هذه الأحداث وما تبعها فى ثورتى 1803، 1805 بأنها مواقف نادرة فى تاريخ مصر والشرق فى ذلك الزمان. وأنها ممارسة جديدة، وهذا غير صحيح, فتاريخ مصر والمسلمين زاخر بأمثلة مشابهة فى عهد الشيخ العز بن عبد السلام، والشيخ ابن دقيق، وابن تيمية، مما سنعرض له بإذن الله.
فالشورى ركن من أركان الإسلام، ومعركتنا مع الطغاة فى كل العصور ليست معركة سياسية منبتة الصلة عن الدين. فشرعية الحاكم فى الإسلام تقوم على البيعة (الانتخابات) والحاكم وكيل عن الأمة أو عامل (موظف) لديها, ويمكن سحب الثقة منه إذا خرج عن شروط العقد (عقد البيعة).
ولذلك وضع القرآن الشورى بين الصلاة والزكاة: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38)} (الشورى: 38).
إن العلماء الذين باعوا أنفسهم للسلاطين الطغاة، أسقطوا الإلزام الإلهى بالشورى.
إن العلماء الذين باعوا أنفسهم للسلاطين الطغاة، أسقطوا الإلزام الإلهى بالشورى.
وأن طاعة أولى الأمر كما قال عمر مكرم: العلماء والسلطان العادل. ونحن نلحظ هنا أننا لسنا أمام مرجعية دينية كهنوتية، بل نجد فى هذه الانتفاضات بقيادة عمر مكرم الربط بين أحكام الدين العامة والظروف الاجتماعية والاقتصادية المحيطة، وأن علماء ذلك الزمان لم ينشغلوا بتوافه الأمور وفروعها ولكن بالأحكام الكلية للحلال والحرام، وبحقوق الإنسان وحرية التعبير والعدل الاجتماعى، وأقاموا بالفعل ما يشبه البرلمان، وهو منتخب فعليا من الشعب الذى يلتف حولهم ويلجأ إليهم، ونلحظ الدقة فى الحديث عن مرجعية العلماء والأعيان، والمقصود بالأعيان قادة الطوائف, أى قادة المهن المختلفة، فنحن أمام ربط بين ما هو دينى، وما هو مرتبط بمصالح الناس وأحوالهم، حيث لا يمكن تنزيل المبادئ العامة للشريعة الإسلامية فى عزلة تامة عن أحوال الناس ومشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية، ومدى شعورهم بالأمان، وضرورة حمايتهم من تعديات رجال الشرطة وحرس السلطان وهو ما نسميه الآن: الحريات العامة والأمور السياسية وحقوق الإنسان.
ونادرا ما تجد داعية إسلامى فى عصرنا الحاضر يحدث الناس عن أن الأمير ليس إلا أجيرا عند الشعب.
مجدى أحمد حسين
مجدى أحمد حسين
رسائل التاريخ (1)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق