باكستان ، على طريق مصر أم طريق تركيا ؟!
يوما بعد يوم يتأكد العرب والمسلمون أن " ديمقراطية الغرب " ما هي إلا صنما للعجوة ، يعبدونها في بلادهم ، ويأكلونها في بلادنا ، يجعلونها قدس الأقداس الذي لا يجرؤ غربي على انتهاكه ، ويجعلونها وجهات نظر في بلاد العرب والمسلمين ، يجوز العمل بها أحيانا ونبذها في أحيان كثيرة ، ويوما ما سألت الأفعى الأمريكية صاحبة الوجه القبيح المعبر بصدق عن سياسات بلادها " كوندليزا رايس " عندما كانت مستشارة للأمن القومي ، سألت عن رأيها في "جمال مبارك" وكان الكلام عن توريثه منصب أبيه المخلوع رائجا ، قالت نصا : " جمال شاب لا بأس به ، ولكننا نفضل جنرالا " وهذا هو ملخص التوجهات الأمريكية عامة حيال المنطقة العربية والإسلامية منذ أكثر من سبعين سنة .
هبت رياح التغيير مع ثورات الربيع العربي عاتية لتقتلع العديد من مراكز الاستبداد والفساد في المنطقة ، في مصر وتونس وليبيا واليمن ، وأصبحت الشعوب لأول مرة صاحبة الكلمة العليا في تحديد مصيرها واختيار حكامها ، وما إن هدأت روح الثورة وبدأ الصراع على المغانم والمكاسب بدأت قوى التآمر تخرج من جحورها معلنة عزمها عن استعادة ما فات وتأديب الشعوب التي تجرأت وثارت على إرادة الطغاة ، وفكرت ولو ليوم واحد أن تخرج من تبعيتها للأم الكبيرة ـ أمريكا ـ وبدأ إجهاض الثورات الواحدة تلو الأخرى بالتحالف مع الأحزاب العلمانية والإسلامية المدجنة صنيعة الأجهزة الأمنية القديمة والطرق الصوفية التي تعشق الاستبداد ، وتشكل محور الانقلاب من الخليج إلى المحيط بقيادة الصهاينة العرب من أجل غاية واحدة وهي ضرب التجربة الوليدة وإجهاض الربيع الثوري وعودة الأنظمة الشمولية الاستبدادية ، وبالفعل حقق محور الانقلاب نجاحا كبيرا في مصر وتونس واليمن وهو يجتهد في ليبيا وسوريا والعراق ولكن وجود الجماعات المجاهدة بتلك البقاع جعل مهمة محور الانقلاب عسيرة . ويبدو أن نجاحات عسكر الانقلاب قد أغرت عسكر باكستان بمحاولة استنساخ التجربة السيساوية هناك .
الوضع العسكري الباكستاني يتشابه إلى حد كبير مع وضع عسكر مصر ، فكلاهما ظل متحكما في المشهد السياسي منذ الخمسينيات من القرن الماضي ، وكلاهما يحظى بوضعية استثنائية داخل الدولة ، وكلاهما يسيطر على نطاقات اقتصادية هامة في البلاد ، وكلاهما له تاريخ في التدخل المباشر في المشهد السياسي وقت الأزمات . ووزير الدفاع المصري السابق " طنطاوي " مكث فترة طويلة ملحقا عسكريا بباكستان ، ولا يخفي إعجابه بالتجربة السياسية للجيش الباكستاني ، وحاول استنساخ تجربتها في الفترة الانتقالية عقب ثورة 25 يناير .
في موعد لا يخلو من دلالات لمن يقرأ المشهد بصورة شاملة ، في 14 أغسطس في الذكرى الأولى لمحرقة اعتصام رابعة والنهضة تقرر المعارضة العلمانية والصوفية في باكستان الاعتصام أمام البرلمان للمطالبة باستقالة الحكومة التي يترأسها " نواز شريف " بحجة تزوير الانتخابات في 2013 ، وهي أول انتخابات حرة ونزيهة يفوز بها ممثل مدني عقب الانقلاب العسكري الذي قام العسكر في سنة 1999 ، المعارضة العلمانية بقيادة لاعب الكريكيت " عمران خان " الذي قضى معظم حياته في لندن وتزوج منها ورئيس حزب " الإنصاف " والمعارضة الصوفية بقيادة " طاهر القادري " المثير للجدل والذي يبني كثيرا من مبادئ وأفكار السير أحمد خان المنحرفة ، وهو رئيس حزب " منهاج القرآن " . كلا الحزبان له علاقات وثيقة بالجيش الباكستاني ، وينظر كثير من المراقبين والمتابعين للشأن الباكستاني أن تحركاتهما السياسية الأخيرة ما هي إلا واجهة لاستدعاء الجيش للعودة إلى الحياة السياسية ، عبر انقلاب عسكري بنكهة شعبية على غرار التجربة السيساوية المصرية .
الأوضاع السياسية الباكستانية آخذة في التفاقم على خلفية هذا الحراك المعارض الذي أخذ منحاه التصادمي في التصاعد عقب احتلال أنصار المعارضة مبني التليفزيون الحكومي بصورة لا تخلو من المؤامرة المبيتة ، لاستدعاء الجيش للسيطرة على هذا الجهاز الحساس ، وبالفعل دخل الجيش بعد أقل من ساعة وأخرج المتظاهرين وسط هتافهم المؤيد للجيش . مما حدا بوزير الداخلية الباكستاني شودري نزار إن لديه أدلة على أن الجيش يدعم زعيم حزب حركة إنصاف المعارض عمران خان وزعيم الحركة الشعبية طاهر القادري ومؤيديهما، وإنهما زجا بالجيش في معترك السياسة لتحقيق مكاسب شخصية . والأخطر من ذلك أن مؤسسات الدولة ممثلة في البرلمان بغرفتيه وحكام الأقاليم قد ألقت بثقلها خلف حكومة نزار شريف ، وأعانت دعمها الكامل له ورفضها حراك المعارضة غير الديمقراطي ، كما أن شريف نفسه يحظى بدعم فئات واسعة من الشعب الباكستاني تخرج يوميا في حراك شعبي كبير ضد المعارضة العلمانية والصوفية المدعومة من الجيش . ومما زاد الأمور اضطرابا واشتعالا التصريح الذي أدلى به الأمين العام السابق للجنة الانتخابية المشرفة على انتخابات 2013" محمد أفضل " والذي قال فيه أن الانتخابات شهدت عملية تزوير واسعة النطاق لصالح نواز شريف ، واتهم شخصيات بعينها مثل وزير الداخلية الحالي " شودري نزار" ورئيس المحكمة العليا السابق " شودري افتخار " ورئيس اللجنة العليا للانتخابات " فخر الدين إبراهيم " بالإشراف على عملية التزوير ، مما حدا ببعض الأحزاب والجماعات المؤيدة لشريف أن تسحب تأييدها وتنضم لحراك المعارضة .
الجيش الذي يظهر الحياد لا يخفي بحال سعادته بهذا الحراك المعارض والذي يعمل بصورة غير مباشرة على استدعاء الجيش للمشهد السياسي بنفس الطريقة التي تم استدعاء الجيش المصري بها ، فعمران خان وحزبه تماما مثل البرادعي وجبهته للإنقاذ ، علمانية حتى النخاع ، غريبة الهوى والهوية ، أما القادري وجماعته فهو الوجه الديني للمؤامرة الانقلابية تماما مثل حزب النور السلفي ، ولكن وإن اختلفت المرجعيات بين الصوفية الباكستانية والسلفية السكندرية إلا إن الرؤى والأهداف مشتركة ، فكلاهما مدجن لا يعرف عزه إلا في ركاب الطغاة ، وعلى خطى الفريقين المصريين نسجت المعارضة الباكستانية . ولكن لماذا يريد الجيش الانقلاب على نواز شريف بهذه السرعة ؟
الإجابة على هذا السؤال تحتاج الرجوع بالذاكرة قليلا إلى أجواء ما قبل الانقلاب العسكري سنة 1999 ، فنواز شريف تولى رئاسة وزراء باكستان عدة مرات خلال حقبة التسعينيات والتي شهدت لعبة كراسي موسيقية بينه وبين ألد خصومه السياسيين ـ بني نظير بوتو ـ حتى حسم شريف الصراع السياسي لصالحه في سنة 1997 ، وبعدها حقق شريف نقلة ضخمة في باكستان بدخول نادي الدول النووية سنة 1998 ، لتكون باكستان أول دولة مسلمة نووية ، وهذا الأمر لم يكن ليسكت عليه أعداء العالم الإسلامي وهم كثر ، فبدأ التوتر يدب في العلاقة بين شريف والجيش الباكستاني صاحب الكلمة العليا في الشأن الباكستاني منذ قيام الدولة سنة 1947 ،وشعر شريف بوطأة العسكر على المسار السياسي الباكستاني فبدأ يعمل على تقليص نفوذ العسكر بالتدريج ، وجاءت الضربة الأولى بإقالة رئيس أركان الجيش الباكستاني " جهانكن كرامت" ، وتولى "مشرف " في خطوة لم يسبق لها مثيل في باكستان، وإن كان "كرامت " نفسه قد التزم الصمت بسبب ما أشيع عن تقاضيه لمبالغ ضخمة من نواز شريف ، وبدا للعيان أن كفة نواز ممثل الحكم المدني سترجح على كفة النفوذ العسكري الراسخ ، وهو الأمر الذي أغرى شريف بتكرار المحاولة مع قيادات الجيش الأخرى ، بغرض تعزيز سلطاته فقام بعدها بقليل بإقالة رئيس أركان حرب البحرية،كما سعى إلى الفصل بين الجيش والمخابرات ، ولكن الجيش كان لنواز شريف بالمرصاد حيث اجتمع قادة المجلس العسكري برئاسة " مشرف " من أجل التصديق على الحدود التي يتعين على شريف عدم تجاوزها ، فحاول شريف التخلص من الجنرال مشرف بعزله عن منصبه ، فكان ذلك بمثابة المسمار الأخير الذي دق في نعش نظام حكمه المدني . فشريف بالنسبة للعسكر هو رجل شديد الخطورة وذلك لعدة أسباب ، فهو صاحب ثارات مع العسكر ، وصاحب رؤية سياسية ، ويتمتع بظهير شعبي كبير ، وتمثيل برلماني قوي ، وهيمنة شبه كاملة على حكام الأقاليم ، وبالتالي فنواز شريف الشخص الوحيد القادر على نتف ريش العسكر وتحجيم نفوذهم تماما على غرار التجربة التركية ، فأردوجان وفي فترة عشر سنوات فقط أخرج عسكر تركيا من المشهد بعد عهود من السيطرة والانقلابات العسكرية ، وعسكر باكستان يتخوف من هذا المصير ، لذلك فهم يتحركون صوب الإطاحة بمشرف أو على الأقل تحجيم نفوذه وتحديد نطاقات خاصة بالعسكر لا يسمح له بدخولها أو تجاوزها .
ومما أذكى مخاوف عسكر باكستان من طموحات شريف وقوة شخصيته رفضه المبطن بإطلاق عملية عسكرية واسعة ضد طالبان باكستان في شمال وزيرستان في يونيه الماضي ، وهي العملية التي تضغط أمريكا بقوة على قادة عسكر باكستان من أجل القيام بها لتخفيف الضغط على حكومة أفغانستان الجديدة التي تعاني من متاعب كثيرة بعد الانسحاب الأمريكي منها في العام الماضي ، كما أن شريف يحاول حثيثا منذ أن تولى الحكم تجسير العلاقات مع الهند لحل الأزمات التاريخية العالقة بين البلدين ، وهو ما يعتبره العسكر خيانة عظمى للقضية الباكستانية ، أيضا العسكر يحترقون غيظا على محاكمة قائدهم السابق " برويز مشرف " بتهمة الخيانة العظمى بسبب انقلابه العسكري واحتمالات تعرضه لعقوبة الإعدام ، وهو ما يمثل المسمار الأخير في نعش الانقلابات العسكرية في هذا البلد ، بل إن بعض المراقبين والمحللين الباكستانيين يعزون كل هذه الاضطرابات إلى رغبة الجيش في إطلاق سراح " مشرف " والسماح له بمغادرة البلاد .
ولكن يبقى أخيرا عدة تساؤلات هامة وحائرة : هل لمحور الانقلاب العربي الصهيوني المشترك دور في هذه الاضطرابات الأخيرة ؟ وما مدى صحة الأخبار الدائرة في باكستان عن العلاقات السرية بين قادة جيش باكستان خاصة الجنرال " رحيل شريف " مع بعض دول الخليج الداعمة لمحور الانقلاب ؟ وهل لاجتماع رئيس الأركان الباكستاني في الإمارات مع المسئولين العسكريين في شهر يوليو الماضي دور في هذا الحراك ؟ وهل للأنباء الواردة عن طلب بعض دول الخليج تدخل القوات الباكستانية لتأمين حدودها من هجوم " داعش " دور في هذا الحراك ، إذ من المتوقع رفض البرلمان والحكومة مثل هذه الطلبات حال عرضها عليها ؟ وما هي طبيعة العلاقة بين " الحبيب الجفري " الصوفي المستشار الديني لمحمد بن زايد مع " طاهر القادري " الصوفي الضال الذي يقود الحراك المعارض ضد حكومة شريف ؟
تساؤلات حائرة ولكنها حتما ستجد إجاباتها في الأيام القليلة القادمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق