«هولندا» ورطب علاء
خلود عبدالله الخميس
«هولندا» ورطب علاء العنوان من «علائية» رائعة اسمها «هولندا لا تمطر رطباً».سردية.. ولكنها اختصرت الكثير من «الجلْد» في بضع جُمل موجِعة.
كل من يعرف علاء الجابر اهتدى لنفسه في تلك السطور، وعلم أي فقرة موجهة إليه، اكفهر للقدح، وابتسم للمديح، قرأ ماذا تحمل الأحرف من أنات وآهات، لحق بلهاث الأنفاس، صعد صدره وهبط مع شهيقها وزفيرها، كل شيء كان واضحاً للأبطال.
والأبطال هم من نورطهم، نحن الكُتّاب، ونزجهم في أحداث حياتنا المؤلمة ونغشهم بالتسمية «أبطال» لأننا نعلم كيف أن للإنسان نفسا متكبرة مغرورة بذاتها، تهتم بل تبحث عن الأوصاف التي هي أبعد ما تكون عن واقعها، هكذا البشر يريدون أي شيء لا يملكونه، وبلا مقابل وجهد سوى التمنّي، أو التمدد فوق ورق أديب يرسمهم بحبر أسود كيف يرى.
أبطال علاء الجابر في رواية «هولندا لا تمطر رطباً» هم أهل وأقرباء، زملاء وأصدقاء، أحباب ورفقاء رحلة الحياة الجميلة رغم إرهاقها، الثرية رغم فقر متعدد الأوجه، فقر روحي، مادي، نفسي، فقر في الشعور بأن الوطن موجوداً وحقيقة يمكن لمسها في يوم ما، فقر مدقع لاحتمال مواطنة ما، في مكان ما، لن يعيّرك يوماً في جذورك وأصولك، التي هي فخر وعزة ولكن العنصرية والتصنيف والكراهية للآخر لا أمصال لهم، ويسببون فقرا لا يقدر على وصفه إلا من عايشه.
«رطب علاء» هم أبطاله، فمنهم من هبط من سماء «هولندا» عبر غيمة حبلى بالخيرات سافرت كل الطريق من دجلة والفرات مخصوصاً له، ومنهم من ساقته ريح الصحراء في الجزيرة العربية بين الكويت والبصرة، ومنهم من لم يظهر بعد، وما زال مختبئاً بين فصول الحكاية في تاريخ «علاء الدين».
لمستُ في روايته كل من عاشروه وعايشوه، مدحوه وهجوه، ساندوه وتخلوا عنه، اعترفوا به ونبذوه، أبطال روايته، هم ذاتهم في حياته، الفرق أن تسميتهم تختلف، فكلهم في الروايات أبطال، بينما أغلبهم في الحقيقة خذال.
كانوا معه في ردهات حكايته ومسيرة حياته في الكويت مكان إقامته وهولندا بقعة مهجره، والعراق أرض بذرته، اتخذ الجابر من سرديته أريكة الطبيب النفسي، ليبوح من خلالها ماذا فعل به وله كل من التقى بهم رغبة، أو تعرقل بهم عنوة، في مسيرة حياته الشخصية والمهنية، ولأن علاء الجابر كاتب وصحافي وإعلامي، فحياته المهنية والشخصية ملتصقتان، مثل كل المشاهير، حيث لا خصوصية بل مشاع لا ينهيه حتى الموت، فتبقى القصص حية تُرزق وصاحبها أجهز عليه الدود!في «الكويت» واجه علاء الانكسار بعد الغزو العراقي على الكويت العام 1990، لم يفرق كثيرون بين الحقائق التي خبروها مع أمثال علاء من العراقيين في أصولهم المنبوذين الملاحقين من النظام العراقي السلطوي الوحشي كمثقفين وأدباء وكتاب، وبين اعتداء دولة على أخرى.
ضوضاء الغزو، والفوضى التي أحدثها سلوك النظام العراقي المجرم، ونفاق النخبة السياسية وارتزاق الثقافية في القضايا العربية، خلفوا زلزالاً ليس في الكويت وشعبها فحسب، بل في القانون الدولي، ومنهج تفكير قادة التنظير السياسي، وأثر على سكان الكويت من الجنسيات الأخرى.
لا أدري لماذا شعرتُ في سرد علاء لـ»هولندا لا تمطر رطباً» بأن الوحدة والغربة والتشرد والضياع، يمكن أن تغزونا ونحن في باحات الاحتفال بيوم استقلال وتحرير الوطن، وأن تلك الباحات يمكن أن تتحول بلمح القدر لسرادق عزاء!
اليوم، نحن في زمن صارت الشعوب الحرة تسمى «أبناء شوارع» ولا يأمن مواطن على بقاء مواطنته حيث أضحت محل مساومة، فبقاؤها بمقابل التنازل عن حرية التعبير عن الرأي واحتمال أن يصبح «الشارع» مكتظاً بالبشر.
أكرر وبصوت مرتفع مقولة علاء في آخر فقرة سطر من روايته: «ما أقسى الوحدة حين تجتاحنا ليلاً، ونحن ننام في حضن الوطن بأرواح تردد: الشوارع ليست للإقامة، للعبور فقط، والتسكع أحياناً»!.
• @kholoudalkhames
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق