مروّج مخدرات.. تاجر مظاهرات
وائل قنديل
قبل أكثر من شهرين، تفاعلت مواقع التواصل الاجتماعي مع وسم (هاشتاج) أطلقه عدد من النشطاء، باسم "مروّج مخدرات"، في إحالة إلى أولئك السياسيين والمعنيين بالشأن العام الذين يتطوعون بالإدلاء بتصريحاتٍ تتضمن معلومات خطيرة، عن أشياء أكثر خطورة حدثت، أو يبشرون بأشياء ستأتي، ثم يثبت أن ذلك كله لم يكن سوى أضغاث أحلام، أو تحليق على ارتفاعات هائلة في سماء الفراسة والتنجيم.
ما جرى في مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي يندرج تحت هذا النوع من المخدرات الواعدة، إذ انهمرت أرقام المليارات، بغزارة تجعل أحدث طراز من الآلات الحاسبة يصاب بالشلل، عجزا عن الإحصاء والحصر، تماما كما كان الوضع مع المؤتمر العالمي للإعلان عن ذلك الاختراع "العبد العاطي" المذهل الذي سيعالج جميع الأمراض المستعصية، ويحول الفيروسات التي تفتك بأكباد المصريين إلى ثروة غذائية ضخمة.
على أن المخدرات ليست دائما اقتصادية، فهناك ما هو أخطر من مخدرات سياسية، نشط النظام الحاكم بمصر في ترويجها بإلحاح، من عينة أن القاهرة أدّبت واشنطن، وجعلتها تركع لها، أو أن فرنسا طلبت أن تتعلم من مصر السيسي كيف تحارب الإرهاب، ناهيك عن تشكيلة مختارة من كبسولات السعادة اللطيفة، مثل عملية أسر قائد الأسطول السادس الأميركي، ونكتة "مسافة السكة" و"أمن الخليج خط أحمر"، في الوقت الذي كانت فيه القاهرة تعين سفيراً لدى الحوثيين، وتستقبل وفودهم، بينما العالم كله يحاصر انقلاب اليمن دبلوماسيا، بسحب البعثات وإغلاق السفارات.
في حديثه للصحافي الصهيوني صاحب الهوى الإسرائيلي، بريت ستيفنز، لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، أول من أمس، قال عبد الفتاح السيسي: "إن مصر لن تضر بالعلاقات الثنائية مع واشنطن، ولا يمكن حصر العلاقة في قضايا الأسلحة، ولن تدير مصر ظهرها للولايات المتحدة، حتى لو فعلت هي ذلك"
تدحض هذه الكلمات كل ما تم ترويجه من مخدرات منشطة للشعور المتضخم بالوطنية والقومية، طوال الفترة الماضية، عن ندية تصل إلى حد التوتر والخشونة، بين القاهرة وواشنطن، فالرجل متمسك تماما بالنص الساداتي الموروث "أوراق اللعبة كلها بيد الأميركيين"، وهو على الدرب يسير، حتى إن أشاحت الولايات المتحدة بوجهها عنه، سيبقى متمسكا بأهداب الحب القديم الأبدي.
ويبقى أعجب وأغرب ما في هذا الحوار فهم السيسي لموضوع التظاهر، كحق أصيل لأي شعب في العالم، إذ يرد على سؤال بشأن حظر التظاهر، مستدعيا كل مهارات التاجر الشاطر، الذي يبيع كل شيء، بما في ذلك زفرات الألم وصيحات الاحتجاج، يقول إن "الدين الداخلي تضاعف إلى 300 مليار دولار في أربع سنوات، والبلاد تحتاج لإحيائها، وليس لدينا الرفاهية لنقاتل ونشحن ونستنفد أوقاتنا في مناقشة قضايا مثل هذه، والبلد يحتاج إلى الأمن والنظام لبقائه، وإذا كان بإمكان العالم تقديم الدعم، فسوف أسمح للناس بالتظاهر في الشوارع ليل نهار".
باختصار شديد، يوجه السيسي رسالة إلى الخارج والداخل مفادها "ادفعوا تحصلوا على حق التظاهر"، وهو منطق لا يختلف عما يؤمن به ذلك الشخص الذي يعرفه المصريون جيدا، وهو "موظف الكارتة"، أو رجل المرور الجاهز للتغاضي عن مخالفات السير لمن يدفع، ومن يمتنع لن يمر، بل سيجد نفسه عرضة للعقاب.
هذا المنطق يحوّل حرية التظاهر والتعبير إلى سلعة تباع وتشترى، ما يعني أنه بالإمكان أن تعرض "إسرائيل"، مثلاً، حفنة من ملايين الدولارات، كي توافق لها السلطة في مصر على تظاهرة ضد المقاومة الفلسطينية بميدان التحرير، أو كما علقت إحدى الصديقات "يعنى الواحد بعد كده يروح يسيبلهم على باب القصر 15 جنيه ويروح يتظاهر براحته".
لقد ثار المصريون على القمع والاستبداد في 2011، لكي يحصلوا على ديمقراطية توفر لهم الحق في التظاهر والاحتجاج من أجل التغيير، وبعد أربع سنوات، تأتي سلطة لتبيع الديمقراطية، بالمعيار ذاته الذي تبيع به أسهم قناة السويس، وربما نسمع قريباً عن إدراج سهم التظاهرات في البورصة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق