الخميس، 12 مارس 2015

القاهرة بين كلبين

القاهرة بين كلبين

وائل قنديل

ينتفض معشر نشطاء حقوق الحيوان لمقتل كلب شارع الأهرام بحي شبرا، وتتوعد الحكومة الجناة بالعقاب، وتسمح بوقفات تطالب بحق الكلب ماكس. ويصيب الخرس الجميع، حين تقتل "الداخلية" نفسها كلباً في منطقة ناهيا، بعدما قتلت صاحبه سيد الشعراوي.
الفرق بين كلبي شبرا وناهيا أن الأخير يملكه مواطن معارض للنظام وسياساته القمعية، وذو لحية، وبالتالي، لا ثمن له.
هو المنطق ذاته الذي يحكم عقلية رئيس جامعة القاهرة الذي لم ير وقائع التعذيب والتنكيل بأساتذة الجامعة، ويركز تماماً في اختراع حكايات التحرش.
يشتعل المجتمع المصري غضباً وقرفاً من وقائع اغتصاب في السجون وأقسام الشرطة، فيظهر فجأة رئيس الجامعة، ويعبئ الأفق بسحب من حواديت الصحافة الصفراء عن حالات تحرش واغتصاب بين الطالبات والأساتذة في الجامعة العريقة.
يتحدث الرجل الذي كان راضياً كل الرضا عن دستور 2012 (الذي سمي بدستور الإخوان إعلامياً)، حتى أنه اعتبره في حديث معي، أمام شهود، أفضل وثيقة دستورية في تاريخ مصر، يتحدث في موضوع الاغتصاب والتحرش، وكأنه رئيس القلم السياسي في القاهرة 30، أو40، أو حتى القاهرة 50، وليس رئيساً لأعرق جامعة في منطقة الشرق الأوسط.
يتكلم جابر مأمون نصار، بمنطق رئيس مباحث الآداب المهووس بنشر اسمه وتصريحاته، مع صورته، في صفحات الحوادث بجرائد الإثارة، مستعرضاً إنجازاته في ضبط قضايا جنسية، وينسى أنه رئيس جامعة القاهرة، ميدان الكفاح الطلابي، ومصنع الغضب النبيل، منذ إنشائها، ضد الاستعمار، ثم ضد الاستبداد والقهر والفساد، على مدى قرن.
ينسى رئيس الجامعة ذلك كله، وينسى العدد الهائل من الطلاب المعتقلين، والأساتذة المسجونين، والموقوفين عن العمل، والمحالين إلى التحقيق والتأديب، بتهم تتراوح بين "احترام أنفسهم" و"عدم الصمت على إهانة وطن وتحويل جامعة إلى قشلاق" و"دعم نضال الطلبة الباحثين عن الحرية والديمقراطية تمسكاً بثورتهم"، ينسى ذلك كله، ويخطف الأنظار بسيناريو لا يختلف عن أفلام السبكي وخالد يوسف.
يقدم نصار، هنا، عرضاً على طريقة (اثنان في واحد)، فمن ناحية يفتح جبهة سفسطة وثرثرة مجتمعية صاخبة، في موضوع حريف وساخن، يجتذب جمهوراً لا بأس به، فيخفف الضغط عن رفاق دربه الانقلابي القمعي في وزارة الداخلية، مع تصاعد الهجوم على الشرطة المصرية، في ضوء وقائع الاغتصاب والتحرش التي تمارس على المعتقلات والمعتقلين.
وبدلاً من تركيز الكلام والضوء على الشرطة، يقدم حكمدار الجامعة الأم وجبة ساخنة وسريعة من المانشيتات المتبلة لصحف السلطة، عن حواديت الاغتصاب والتحرش داخل الجامعة، ثم لا تعدم خبراء ومحللين ومبررين استراتيجيين يقولون لك إنها أزمة مجتمع بأسره، وجامعة، وليست أزمة الشرطة، ولا تستبعد أن يركض أحدهم أسرع وأبعد من ذلك، ليقول لك إن ذكر الشرطة الذي يفترس آدمية المعتقلات والمعتقلين هو ضحية للمجتمع والجامعة معاً.
غير أن الدور الثاني والأهم والأخطر، من وجهة نظر متواضعة، الذي يلعبه جابر نصار، بطرح فيلم التحرش والاغتصاب الجامعي في الأسواق، هو محاولة تسفيه وابتذال الحراك الطلابي الهادر في الجامعات المصرية، وعلى رأسها جامعة القاهرة بالطبع، ضد سلطة الانقلاب وممارساتها القمعية وفشلها السياسي والاقتصادي، في الداخل والخارج.
والهدف هو إيصال رسائل وإشارات إلى مجتمع يرفل في نعيم الأمية، ويسلم نفسه كل ليلة لأكثر من 35 شاشة تلفزيونية "عكاشية" بأن ثوار الجامعة، من الأساتذة والطلاب، ليسوا ثواراً أو مناضلين "ولا يحزنون"، بل مجموعات من المتحرشين الخارجين عن القانون والأدب والحياء، "والعياذ بالله"، والدليل أن حكمدار الجامعة شخصياً هو الذي يقول ويدق ناقوس الخطر، لتبدأ بعده الجوقة في العزف، بتوزيعات مختلفة.
هي الطريقة ذاتها التي تم استخدامها مع ميدان التحرير في أوج نقائه وتدفقه الثوري في يناير/ كانون الثاني 2011، حين اخترع حكايات إعلامية ساقطة، انسكبت من أفواه خدم مطبخ مبارك، من إعلاميين وممثلين، عن ميدان "العلاقات الجنسية الكاملة وتعاطي المخدرات"، لإيقاف ذلك المد الهادر من القرى البعيدة والشوارع والحارات الخلفية، صعوداً إلى ميدان الثورة. والآن "التحرير" مغلق أمام الثوار، والميادين مراكز اعتقال، فنهضت ساحات الجامعة بأداء فريضة التظاهر والنضال الغائبة عن الميادين. إذن، فلتبدأ الحملة لتشويه الجامعة، بكميات وفيرة من الحواديت المثيرة، مع استدعاء أسوأ وأحط ما كان معمولاً به في "القاهرة 30".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق