السيسي وحماس: رمتني بدائها وانسلّت!
أحمد بن راشد بن سعيّد
إنها كوميديا سوداء، أو ضحك كالبكاء بتعبير أبي الطيب. حماس؟ والله، زمن!
مصر تنكمش وتنكمش لأن الانقلاب يأبى ألا أن يقزّمها ويحيلها إلى مجرد «كلب حراسة» لإسرائيل.
ربما كان تعبير «الانقلاب» غير دقيق؛ لأن ما جرى في مصر يوم 3 يوليو 2013 لم يكن مجرد إزاحة رئيس منتخب، والاستيلاء على سلطة شرعية؛ بل كان مكيدة موغلة في الخيانة، ومعتدية على كل الحقوق الأساسية للشعب المصري. عبارة «الانقلاب العسكري» قد لا تكفي لشرح طبيعة الجريمة متعددة الحلقات والأوجه، والتي تتكاثر لتصبح منظومة متكاملة وأسلوب حياة.
سدد الانقلابيون (إن جاز التعبير) طعنة في صدر مصر نفسها، واستلبوا هويتها، وشوهوا دورها التاريخي.
كان لا بد أن يكون الانقلاب بحكم بنيته وإيديولوجيته متماهياً مع الأجندة الصهيونية، ومعادياً لقضايا العرب والمسلمين، فطفقت أبواقه تحرّض ضد اللاجئين السوريين فيما بدا أنه انتقام من احتضان حكومة الرئيس مرسي لهم وتوجيهاته القاضية باستيعابهم في كل مراحل التعليم، والسماح لهم بالإقامة والعمل ومساواتهم بالمواطنين
(قالت اللجنة السورية لحقوق الإنسان (13 آب/أغسطس 2013) إن حال اللاجئين السوريين في عهد مرسي كانت «من أفضل الحالات» مقارنة مع الدول المضيفة الأخرى).
انقض العسكر بعد إجهاض الحُلُم الديموقراطي على السوريين فمارسوا ضدهم أبشع أنواع الاضطهاد، بما في ذلك اعتقال الأطفال وتعذيبهم.مكتب رعاية شؤون اللاجئين التابع للأمم المتحدة في مصر وجّه بُعَيد الانقلاب انتقادات إلى السلطة الجديدة بسبب «استمرار الاعتقالات التعسفية بحق السوريين والترحيل التعسفي حتى لحاملي الإقامات» منهم، مضيفاً أن السوري في مصر صار «يعاني ممّا فرّ منه إلى مصر»، وأن حملة الاعتقالات تجري «بناء على طلب القنصل السوري في مصر فقط»، مشيراً إلى أن الأسماء التي يُبلغها القنصل السلطة الانقلابية هم من أنصار الثورة السورية
(موقع ناو، 10 آب/أغسطس 2013).
وكان طبيعياً أن يصل الهيجان الانقلابي إلى قطاع غزة في الجوار، وحركة حماس التي تديره.
لحماس ذنبان من كبائر الذنوب لا يُغتفران: حركة إسلامية، ومنتمية إلى الإخوان، فكيف يمكن أن يتجاوزها الانقلاب.
حماس كائن نظيف، والظاهرة الانقلابية غير نظيفة، وأبواقها تزعق كل مساء مطالبةً الجيش المصري باحتلال غزة و «تنظيفها» من الإخوان.
حتى الكائنات الانقلابية خارج مصر طالبت بالشيء نفسه، كالسعودي محمد آل الشيخ الذي «غرّد»: «لن يكتمل انتصاركم أيها المصريون على الإخونج حتى تحاصروا ربيبة الإخوان حماس، وتعيدوا غزة إلى السلطة الفلسطينية. أنقذوا (أهل) غزة من إخونجيتهم».
مشهد انقلابي متناغم عابر للحدود، ويحمل في تفاصيله تطمينات لإسرائيل على أمنها، وهو ما تناولتُه في مقال بهذه الصحيفة في أكتوبر 2013 عنوانه: «لماذا يجب أن يسقط الانقلاب الإسرائيلي في مصر؟» ذكرت فيه أن الانقلاب لم يكن «مجرد إسقاط حاكم أو تغيير نظام، بل كان في المفهوم الأشمل إجهازاً على منظومة من القيم والسياسات التي صاغت مصر في الوجدان العربي والإسلامي عبر القرون».
جاء تصنيف حركة حماس إرهابية إفرازاً طبيعياً لحملة كراهية ضد المقاومة الفلسطينية، وحماس تحديداً، منذ الإطاحة بالرئيس مرسي، يقودها بلطجية في فضائيات مصرية يتلقون كميات من «الرز» الخليجي، وتعليمات مباشرة من قيادة الجيش.
في الدولة العميقة التي يهيمن عليها العسكر لا وجود للتعددية السياسية، ولا لفصل السلطات (مضحك أن ليبروفاشيين خليجيين ككاتب جريدة «الشرق الأوسط»، طارق الحميد، كانوا يهاجمون مرسي لعدم فصله بين السلطات!).
رأس هرم السلطة يصدر أوامره إلى فضائيات يزعق فيها أبواق له بما يشاء، وإلى محاكم يتربع في ردهاتها قضاة مهترئون، يحكمون بما يشاء (حسن نافعة، أكاديمي مؤيد للعسكر، أبلغ قناة الجزيرة، بعد الحكم بإعلان حماس إرهابية، أنه لا يستبعد أن القضاء في مصر «مسيّس، ولديه موقف ضد الإخوان». ذلك بالضبط ما حاول مرسي إصلاحه، فهاجوا عليه وماجوا).
لم يكن لمسلسل تدمير مئات الأنفاق المحاذية لغزة والذي يمد أهلها بشريان الحياة، أن يجري لولا التحريض العدائي في أقنية السلطة (الرسمية والخاصة) التي هللت أيضاً لتدمير مئات من منازل المواطنين المصريين في رفح، وطرد الآلاف من أهلها ليصبحوا لاجئين في العريش ومناطق أخرى.
كانت الذريعة المعلنة لهذه الجرائم إنشاء منطقة عازلة على الحدود مع غزة، لمنع تسلل «الإرهابيين»، بينما الهدف الحقيقي هو إحكام الحصار على القطاع خدمة لإسرائيل، بحسب تصريح أدلى به السيسي، قائد الانقلاب نفسه، للتلفزيون الفرنسي: «احنا لا يمكن نسمح أن أرضنا تشكل قاعدة لتهديد جيرانها، أو منطقة خلفية لهجمات ضد إسرائيل»
(22 تشرين الثاني/نوفمبر 2014).
في 31 كانون الثاني (يناير) 2015 قررت محكمة مصرية أن كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، «منظمة إرهابية»، وهو ما مهّد الطريق للقرارالأخير بوصم الحركة كلها بالإرهاب. الصهاينة في فلسطين احتفلوا بالخبر، فدعا بعضهم السيسي إلى «احتلال غزة والفتك بحماس» (على طريقة «كمل جميلك»)، بينما امتدح عدد منهم في فيسبوك وتويتر (بحسب جريدة «الوطن» الموالية للعسكر،
(1 آذار/مارس 2015) السيسي بوصفه تجسيداً «لما جاء في التلمود بأن الرب يسوق لـ «الاتقياء» من يقوم بعملهم» (قصدوا: «إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر»!).
في ثقافة الانقلاب، تتوارى المروءاتُ خجلاً، يُدمغ المدافع عن أرضه بالإرهاب، تُتوّج الراقصة أماً مثالية، ويتحول البشر إلى مسوخ. هكذا في قاعة محكمة ملعونة، وبلسان قاض لعين، صدر أحقر حكم في تاريخ المحروسة، لن يمحو عاره إلا جلب صائغه وناطقه ومهندسيه إلى ساحة القصاص.
في لحظة واحدة جَرّم القرار «القضائي» حركة هي من أنبل الظواهر في تاريخنا الحديث؛ حماس التي ردت العدو على أعقابه خائباً في كل مرة يعتدي فيها على قطاع غزة، وجيش مصر العظيم واقف على الأبواب يمنع حتى دخول الجرحى للعلاج.
قرار بُيّت بليل، حاكته أيدٍ غدرت من قبل، وسفكت دماء ركّع سجود، وعبثاً تحاول الافتئات على التاريخ. من الوغد ومن النبيل؟
إن الجماهير العربية والمسلمة تتذكر بكل إكبار أبطالها من نجوم حماس: أحمد ياسين، عبد العزيز الرنتيسي، جمال منصور، سليم منصور، إسماعيل أبو شنب. يحي عياش، صلاح شحادة، نزار ريان، سعيد صيام، أحمد الجعبري، وقافلة طويلة من العظماء الذين استشهدوا في سوح العز والكرامة وهم يدافعون عن مقدساتنا ووجودنا.
كان ملايين المصريين الشرفاء يدركون تبعات جريمة 3 يوليو عندما هدرت أصواتهم في الميادين: «الانقلاب، هو الإرهاب»، وفي كل يوم يمر تزداد القناعة لدى شرائح أوسع من الشعب المصري أن الانقلاب ليس إلا لعنة تتناسل، ولا حل إلا بتفكيك منظومتها المغتصبة لإرادة الشعب.
وبينما يصدر الحكم الإرهابي ضد حماس، تتوالى التسريبات التي تعرّي طبيعة الذين يديرون الدولة في مصر هذه الأيام، وتقذف بهم إلى مزيد من ضياع البوصلة وفقدان التوازن.
في الحقيقة، ليس لهؤلاء مفر من رمي حماس بالإرهاب، فهي في نظرهم امتداد للنموذج الذي انقلبوا عليه ويحاولون اجتثاثه، ووجوده في الجوار يذكرهم بحيويته وصموده، ويشعرهم بالخوف الذي يلازم عادة المجرم والغاصب.
لكن القرار ليس إلا وساماً آخر في عنق الحركة التي تهتف لها الأمة من الماء إلى الماء، بل يهتف لها كل محبي الحرية والسلام عبر الكون. كما أن القرار انتصار للهبّة الشعبية ضد الانقلاب، ووقود جديد لملايين المصريين الذين يناضلون لاستعادة بلدهم من خاطفيها.
• @LoveLiberty
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق