مصر على طريق النيوليبرالية المتوحشة
شريف عبد العزيز
انطلقت الجمعة أعمال المؤتمر الدولي لدعم الاستثمار في مصر في مدينة شرم الشيخ، وهو المؤتمر الذي يعول عليه كثيرًا عبد الفتاح السيسي ليس فقط لإنقاذ اقتصاد البلاد الذي يقف على شفا جرف هار، ولكن لانتزاع شرعية الإنجاز الذي يمكنه من البقاء ومواصلة الصعوبات والتحديات والإخفاقات الجمة والمتلاحقة التي لازمته فترة تصدره المشهد السياسي المصري، واعتلائه سدة الحكم في البلاد منذ 3 يوليو وحتى الآن.
فالنظام بكل أدواته, ومكونات مشهد 3 يوليو، وواضعو خارطة الطريق؛ كل هؤلاء في تحدي البقاء، وليس فقط تحدي النجاح، لأن مشكلات الداخل المصري ضخمة بالفعل، كما أن خصوصية مصر تجعل من الأزمة الاقتصادية عنصرًا حاسمًا في مسارها السياسي ومستقبلها.
وهذا ما أكده عمرو عادلي الباحث الاقتصادي في مقال له نشر بمركز كارنيجي لدراسات الشرق الأوسط أن الحكومة المصرية تهدف من هذا المؤتمر إلى تصدير صورة الاستقرار السياسي بعد أربع سنوات من الاضطراب لجذب أكبر قدر من الاستثمارات الأجنبية التي يتوقع منظمو المؤتمر أنها ستساعد على تعافي الاقتصاد المصري.
ولسنا في حاجة إلى سرد الإحصائيات الدولية والإقليمية والمحلية المروعة عن تدهور الاقتصاد المصري، والأرقام المخيفة التي عرضها خبراء الاقتصاد عن حجم الدين العام وعن العجز الهائل في الميزانية وعن تدني معدلات النمو بشكل يراكم ويضاعف من تحديات البطالة وما يتعلق بها، وعن الاحتياطي النقدي الذي وصل إلى قرابة خمسة عشر مليار دولار أغلبهم مديونيات لدول أخرى في صورة ودائع.
نظام السيسي بكامل أجهزته ومؤسساته وعلاقاته الإقليمية والدولية في حالة استنفار قصوى من أجل إنجاح المؤتمر وحصد مردودات قوية منه، فالدولة قد سخرت كل طاقاتها من أجل تيسير أعمال المؤتمر وتأمينه وإضفاء معالم الجدية عليه، وأنفقت على تحضيراته مبالغ ضخمة لا تتماشى بحال مع الحالة المرضية المتردية للاقتصاد المصري.
وعقد السيسي اجتماعات بقيادات الأذرع الأمنية للدولة، وزراء الدفاع والداخلية والمخابرات، من أجل التأكيد على تمام الاستعدادات لتأمين الوفود وتسهيل حركتها وتوفير كافة سبل الراحة.
ولكن هل تستطيع كل هذه المظاهر الاحتفالية، والأجواء الرسمية، والتحشيد الدولي والإقليمي والمحلي في تغيير حقيقة الأزمة السياسية الخانقة التي تعيشها مصر منذ 3 يوليو حتى الآن والتي انعكست آثارها على كل المجالات وفي مقدمتها المجال الاقتصادي الذي كان أكبر المتضررين من توترات المشهد السياسي؟
وهل يستطيع الإنعاش الاقتصادي والوعود البراقة للشركات متعددة الجنسيات، وعقود الاستثمار الدولي، أن تنتشل مصر من أزماتها السياسية العميقة؟ وأن يجد المواطن المطحون مردودًا لهذه الاحتفالية الكرنفالية على حياته اليومية؟
يعد الاستثمار الدولي أحد أبرز الظواهر الاقتصادية والمالية التي انتشرت مع زوال عصر القوميات، وظهور العالم كوحدة عالمية مكتملة الملامح والقسمات، تتداخل فيها أمور الاقتصاد والسياسة، والثقافة والاجتماع والسلوك، ويكون الانتماء فيها للعالم، تحولت الدولة من كونها مركزًا للاهتمام إلى أسواق عالمية ودولية وقوى تشارك في تحديد القرار الاقتصادي للدولة، مع انتشار ممارسات ومعايير مختلفة تخرجها من محيطها المحلي الضيق إلى الخارج، فالتكنولوجيا والاتصال وحركة رأس المال في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، كان لهم الدور الرئيس في إحداث تغيرات عالمية سريعة ومتدفقة، أدَّت إلى ظهور كيانات ضخمة وذات أثر بالغ في الاقتصاد العالمي، كالاستثمار الدولي وصيغه البديلة؛ كشركات متعددة الجنسيات.
فشهد العصر الحديث توسيع هذه الاستثمارات الدولية؛ ولذلك تَعمل الدول المضيفة على توفير أو تهيئة المناخ لهذه الاستثمارات، وذلك بتقديم حوافز لتشجيعها؛ كالإعفاءات الجمركية، وضمانات الاستثمار الوافد، وأيضا دراسة الأسلوب الضريبي، وذلك من خلال تخفيضات في الضرائب على المستثمر الدولي، ومن الملحوظ أن المستثمرين الدوليين، أو هذه الكيانات العملاقة، قد تقدم على مجازفة ومغامرة نتيجة مواجهتِها لبعض الصعوبات والمخاطر المتعلقة بالعائد الاستثماري، أو صعوبات سياسية حاصلة من ناحية عدم توفر الاستقرار السياسي في البلد المضيف، وهو ما يتطابق مع الوضع المصري تمامًا.
فالدولة المصرية المرتعشة أمنيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا لا تألو جهدًا في تقديم جواذب وعروض يسيل لها لعاب أي كيان اقتصادي باحث عن الربح الوفير اليسير؛ فقوانين الاستثمار تم تعديلها وفق رغبة البنك الدولي وذلك بهدف اجتذاب أكبر عدد من رؤوس الأموال الأجنبية التي ستساعد مصر في إيجاد حل لأزمة الدولار، وبالفعل أعلنت شركات اقتصادية عالمية كبرى في مختلف المجالات مشاركتها في هذا الصيد الثمين.
كما أعلنت الدولة عن نيتها طرح 10 شركات حكومية بترولية للبيع عبر البورصة، ورئيس الوزراء المصري يعلن أن التسهيلات للمستثمرين بلغت حد بيع أراضٍ بالمجان، وقد قضت الحكومة المصرية على مخاوف المستثمرين الأجانب من إمكانية الطعن القضائي على هذه المغريات بعدما يدخلون بأموالهم إلى مصر وذلك بإصدار قانون يحظر الطعن على العقود الحكومية، كما تم تعديل قانون المناقصات والمزايدات على نحو يزيد من صلاحية السلطة التنفيذية في إرساء العطاءات بالأمر المباشر وهو ما يتمتع به في هذه اللحظة الشريك الخليجي واستثماراته بمصر.
بالجملة نظام السيسي يريد أن يربح نقطة لصالح بقائه، والمستثمرون لن يضيعوا الفرصة في هذا الغزو الاقتصادي المحفوف بكل تلك المميزات والتسهيلات. وهذه الوضعية السياسية الاقتصادية الملتبسة تقودنا للتساؤل بمنتهى الحيادية؛ هل أصبحت مصر بعد هذا المؤتمر مهما كانت مآلاته من النجاح والفشل، فريسة للشركات متعددة الجنسيات، أو النيوليبرالية، أو الكوروبراتية؟
تعتبر النيوليبرالية أو الكوروبراتية (سيطرة الشركات متعددة الجنسيات) وهما مفهومان مترادفان بشكل كبير، هي الأيديولوجيا العالمية المسيطرة ما بعد الحرب الباردة. فالكوربوراتية كما عرفها "هوراد.ج. وياردا" هي نظام للتنظيم الاجتماعي والسياسي تقوم فيه الدولة بالسيطرة والتقييد وأحيانًا احتكار، بل وخلق جماعات المصالح أو المجتمع المدني الذي يدور في فلكها، ومع بدء المجتمعات في التحديث ولاسيما إدخال مزيد من التعددية، فإن آليات السيطرة الكوربوراتية تبدو شديدة الجاذبية للنخبة الحاكمة خاصة إذا كانت عسكرية كما هو الحال في مصر، باعتبارها وسيلة لكبح جماح القوي الاجتماعية والسياسية المعارضة.
أما النيوليبرالية فهي توجه اقتصادي يقضي بتقليص دور الحكومة في الاقتصاد ورفع الدعم وتخفيض الإنفاق الحكومي العام لتقليل عجز الموازنة والدين الحكومي وتحرير أسواق السلع والخدمات من قوانين حماية المنتجات المحلية، وكذلك تعويم سعر الصرف للسماح بتدفق الاستثمارات الأجنبية.
وكل هذه الإجراءات قامت الحكومة المصرية بانتهاجها منذ 3 يوليو حتى اليوم. والسياسات النيوليبرالية لا تجد لها رواجًا إلا في بيئات معينة تتصف غالبًا بالهشاشة والضعف، ووجود مساحات كبيرة الفراغ الاقتصادي والاجتماعي تتمدد فيه بكل حرية ودون عوائق من جماعات ضغط أو نقابات قوية أو منظمات مجتمع مدني وجماعات حقوقية.
لذلك كانت النظرية الاقتصادية الأشهر في أيديولوجية النيوليبرالية ؛ نظرية الصدمة، وهي سياسية اقتصادية أبدعتها وتبنتها مدرسة شيكاجو الاقتصادية ورائدها ميلتون فريدمان الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد وتقضي هذه النظرية بأن الكوارث والأزمات والمشكلات تعتبر هي المناخ الأنسب لممارسة سياسات الخصخصة والتمدد الرأسمالي وتقويض دور الدولة في النشاط الاقتصادي؛ لأن هذه الكوارث والمشكلات والحروب والفوضى تقوم فعليـًّا بهدم أشكال النشاط الاقتصادي القائمة، وبالتالي إعطاء الفرصة للشركات الرأسمالية متعددة الجنسيات بالتوسع في هذه المساحات الفارغة بأقل تكلفة، وقد وصل هوس النيوليبرالية بهذه النظرية حد أن أصبحت هذه الشركات والمؤسسات المالية هي السبب الرئيسي في صناعة كثير من الأزمات والحروب والمشاكل حول العالم.
وبإلقاء نظرة على الواقع المصري الآن كمثال بسيط فإن بقاء الوضع غير المستقر في مصر ووجود الجيش والشرطة في الشوارع، والصدام اليومي بينهم وبين المتظاهرين والتفجيرات اليومية التي أصبحت أخبارها مادة أساسية ويومية مثل أخبار الطقس، وغيرها من الأشكال المختلفة من عدم الاستقرار إنما هي فرصة مثالية لهذه الشركات لاقتحام السوق المصرية والسيطرة عليها بأقل تكلفة.
وهذا هو الناتج الحقيقي لهذا المؤتمر، فثمة نمو سيحدث قطعا ولكن نمو الشركات متعددة الجنسيات والمستثمرين المرتبطين شرطيًّا مع النظام الحاكم، وليس نمو لصالح المواطن، فالدولة أصبح لديها اقتصادان في هذه المرحلة وهما اقتصاد الطبقة الحاكمة الذي سيزدهر بالطبع وسينجح في الخروج باستثمارات وشراكات أجنبية ضخمة، أما اقتصاد المواطن المصري فلن يزداد إلا تدهورًا بعد بيع ما تبقى له من أصول علانية وحرمانه من الاعتراض على ذلك بحكم القانون الذي منع الطعن على العقود التي ستبرم مع الدولة بعد هذا المؤتمر ولو كانت مخالفة للقانون بالأساس.
وكل ما سيجنيه المواطن هو رفع الدعم بشكل تدريجي وزيادة الضرائب عليه وبالتالي ارتفاع الأسعار بشكل مفاجئ، وعلى النقيض سيربح النظام بضعة مليارات من الدولارات، تدعم موقفه السياسي، وتعطيه قوة في مواجهة الضغوط المتنامية ضده من أجل عمل مصالحة سياسية شاملة يراها النظام سما لا يمكن تجرعه إلا في حالة الانتحار.
فمصر اليوم على طريق النيوليبرالية العسكرية المتوحشة التي سيكون المواطن البسيط هو أول وأكبر ضحاياها.
وهذا ما أكده عمرو عادلي الباحث الاقتصادي في مقال له نشر بمركز كارنيجي لدراسات الشرق الأوسط أن الحكومة المصرية تهدف من هذا المؤتمر إلى تصدير صورة الاستقرار السياسي بعد أربع سنوات من الاضطراب لجذب أكبر قدر من الاستثمارات الأجنبية التي يتوقع منظمو المؤتمر أنها ستساعد على تعافي الاقتصاد المصري.
ولسنا في حاجة إلى سرد الإحصائيات الدولية والإقليمية والمحلية المروعة عن تدهور الاقتصاد المصري، والأرقام المخيفة التي عرضها خبراء الاقتصاد عن حجم الدين العام وعن العجز الهائل في الميزانية وعن تدني معدلات النمو بشكل يراكم ويضاعف من تحديات البطالة وما يتعلق بها، وعن الاحتياطي النقدي الذي وصل إلى قرابة خمسة عشر مليار دولار أغلبهم مديونيات لدول أخرى في صورة ودائع.
نظام السيسي بكامل أجهزته ومؤسساته وعلاقاته الإقليمية والدولية في حالة استنفار قصوى من أجل إنجاح المؤتمر وحصد مردودات قوية منه، فالدولة قد سخرت كل طاقاتها من أجل تيسير أعمال المؤتمر وتأمينه وإضفاء معالم الجدية عليه، وأنفقت على تحضيراته مبالغ ضخمة لا تتماشى بحال مع الحالة المرضية المتردية للاقتصاد المصري.
وعقد السيسي اجتماعات بقيادات الأذرع الأمنية للدولة، وزراء الدفاع والداخلية والمخابرات، من أجل التأكيد على تمام الاستعدادات لتأمين الوفود وتسهيل حركتها وتوفير كافة سبل الراحة.
ولكن هل تستطيع كل هذه المظاهر الاحتفالية، والأجواء الرسمية، والتحشيد الدولي والإقليمي والمحلي في تغيير حقيقة الأزمة السياسية الخانقة التي تعيشها مصر منذ 3 يوليو حتى الآن والتي انعكست آثارها على كل المجالات وفي مقدمتها المجال الاقتصادي الذي كان أكبر المتضررين من توترات المشهد السياسي؟
وهل يستطيع الإنعاش الاقتصادي والوعود البراقة للشركات متعددة الجنسيات، وعقود الاستثمار الدولي، أن تنتشل مصر من أزماتها السياسية العميقة؟ وأن يجد المواطن المطحون مردودًا لهذه الاحتفالية الكرنفالية على حياته اليومية؟
يعد الاستثمار الدولي أحد أبرز الظواهر الاقتصادية والمالية التي انتشرت مع زوال عصر القوميات، وظهور العالم كوحدة عالمية مكتملة الملامح والقسمات، تتداخل فيها أمور الاقتصاد والسياسة، والثقافة والاجتماع والسلوك، ويكون الانتماء فيها للعالم، تحولت الدولة من كونها مركزًا للاهتمام إلى أسواق عالمية ودولية وقوى تشارك في تحديد القرار الاقتصادي للدولة، مع انتشار ممارسات ومعايير مختلفة تخرجها من محيطها المحلي الضيق إلى الخارج، فالتكنولوجيا والاتصال وحركة رأس المال في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، كان لهم الدور الرئيس في إحداث تغيرات عالمية سريعة ومتدفقة، أدَّت إلى ظهور كيانات ضخمة وذات أثر بالغ في الاقتصاد العالمي، كالاستثمار الدولي وصيغه البديلة؛ كشركات متعددة الجنسيات.
فشهد العصر الحديث توسيع هذه الاستثمارات الدولية؛ ولذلك تَعمل الدول المضيفة على توفير أو تهيئة المناخ لهذه الاستثمارات، وذلك بتقديم حوافز لتشجيعها؛ كالإعفاءات الجمركية، وضمانات الاستثمار الوافد، وأيضا دراسة الأسلوب الضريبي، وذلك من خلال تخفيضات في الضرائب على المستثمر الدولي، ومن الملحوظ أن المستثمرين الدوليين، أو هذه الكيانات العملاقة، قد تقدم على مجازفة ومغامرة نتيجة مواجهتِها لبعض الصعوبات والمخاطر المتعلقة بالعائد الاستثماري، أو صعوبات سياسية حاصلة من ناحية عدم توفر الاستقرار السياسي في البلد المضيف، وهو ما يتطابق مع الوضع المصري تمامًا.
فالدولة المصرية المرتعشة أمنيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا لا تألو جهدًا في تقديم جواذب وعروض يسيل لها لعاب أي كيان اقتصادي باحث عن الربح الوفير اليسير؛ فقوانين الاستثمار تم تعديلها وفق رغبة البنك الدولي وذلك بهدف اجتذاب أكبر عدد من رؤوس الأموال الأجنبية التي ستساعد مصر في إيجاد حل لأزمة الدولار، وبالفعل أعلنت شركات اقتصادية عالمية كبرى في مختلف المجالات مشاركتها في هذا الصيد الثمين.
كما أعلنت الدولة عن نيتها طرح 10 شركات حكومية بترولية للبيع عبر البورصة، ورئيس الوزراء المصري يعلن أن التسهيلات للمستثمرين بلغت حد بيع أراضٍ بالمجان، وقد قضت الحكومة المصرية على مخاوف المستثمرين الأجانب من إمكانية الطعن القضائي على هذه المغريات بعدما يدخلون بأموالهم إلى مصر وذلك بإصدار قانون يحظر الطعن على العقود الحكومية، كما تم تعديل قانون المناقصات والمزايدات على نحو يزيد من صلاحية السلطة التنفيذية في إرساء العطاءات بالأمر المباشر وهو ما يتمتع به في هذه اللحظة الشريك الخليجي واستثماراته بمصر.
بالجملة نظام السيسي يريد أن يربح نقطة لصالح بقائه، والمستثمرون لن يضيعوا الفرصة في هذا الغزو الاقتصادي المحفوف بكل تلك المميزات والتسهيلات. وهذه الوضعية السياسية الاقتصادية الملتبسة تقودنا للتساؤل بمنتهى الحيادية؛ هل أصبحت مصر بعد هذا المؤتمر مهما كانت مآلاته من النجاح والفشل، فريسة للشركات متعددة الجنسيات، أو النيوليبرالية، أو الكوروبراتية؟
تعتبر النيوليبرالية أو الكوروبراتية (سيطرة الشركات متعددة الجنسيات) وهما مفهومان مترادفان بشكل كبير، هي الأيديولوجيا العالمية المسيطرة ما بعد الحرب الباردة. فالكوربوراتية كما عرفها "هوراد.ج. وياردا" هي نظام للتنظيم الاجتماعي والسياسي تقوم فيه الدولة بالسيطرة والتقييد وأحيانًا احتكار، بل وخلق جماعات المصالح أو المجتمع المدني الذي يدور في فلكها، ومع بدء المجتمعات في التحديث ولاسيما إدخال مزيد من التعددية، فإن آليات السيطرة الكوربوراتية تبدو شديدة الجاذبية للنخبة الحاكمة خاصة إذا كانت عسكرية كما هو الحال في مصر، باعتبارها وسيلة لكبح جماح القوي الاجتماعية والسياسية المعارضة.
أما النيوليبرالية فهي توجه اقتصادي يقضي بتقليص دور الحكومة في الاقتصاد ورفع الدعم وتخفيض الإنفاق الحكومي العام لتقليل عجز الموازنة والدين الحكومي وتحرير أسواق السلع والخدمات من قوانين حماية المنتجات المحلية، وكذلك تعويم سعر الصرف للسماح بتدفق الاستثمارات الأجنبية.
وكل هذه الإجراءات قامت الحكومة المصرية بانتهاجها منذ 3 يوليو حتى اليوم. والسياسات النيوليبرالية لا تجد لها رواجًا إلا في بيئات معينة تتصف غالبًا بالهشاشة والضعف، ووجود مساحات كبيرة الفراغ الاقتصادي والاجتماعي تتمدد فيه بكل حرية ودون عوائق من جماعات ضغط أو نقابات قوية أو منظمات مجتمع مدني وجماعات حقوقية.
لذلك كانت النظرية الاقتصادية الأشهر في أيديولوجية النيوليبرالية ؛ نظرية الصدمة، وهي سياسية اقتصادية أبدعتها وتبنتها مدرسة شيكاجو الاقتصادية ورائدها ميلتون فريدمان الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد وتقضي هذه النظرية بأن الكوارث والأزمات والمشكلات تعتبر هي المناخ الأنسب لممارسة سياسات الخصخصة والتمدد الرأسمالي وتقويض دور الدولة في النشاط الاقتصادي؛ لأن هذه الكوارث والمشكلات والحروب والفوضى تقوم فعليـًّا بهدم أشكال النشاط الاقتصادي القائمة، وبالتالي إعطاء الفرصة للشركات الرأسمالية متعددة الجنسيات بالتوسع في هذه المساحات الفارغة بأقل تكلفة، وقد وصل هوس النيوليبرالية بهذه النظرية حد أن أصبحت هذه الشركات والمؤسسات المالية هي السبب الرئيسي في صناعة كثير من الأزمات والحروب والمشاكل حول العالم.
وبإلقاء نظرة على الواقع المصري الآن كمثال بسيط فإن بقاء الوضع غير المستقر في مصر ووجود الجيش والشرطة في الشوارع، والصدام اليومي بينهم وبين المتظاهرين والتفجيرات اليومية التي أصبحت أخبارها مادة أساسية ويومية مثل أخبار الطقس، وغيرها من الأشكال المختلفة من عدم الاستقرار إنما هي فرصة مثالية لهذه الشركات لاقتحام السوق المصرية والسيطرة عليها بأقل تكلفة.
وهذا هو الناتج الحقيقي لهذا المؤتمر، فثمة نمو سيحدث قطعا ولكن نمو الشركات متعددة الجنسيات والمستثمرين المرتبطين شرطيًّا مع النظام الحاكم، وليس نمو لصالح المواطن، فالدولة أصبح لديها اقتصادان في هذه المرحلة وهما اقتصاد الطبقة الحاكمة الذي سيزدهر بالطبع وسينجح في الخروج باستثمارات وشراكات أجنبية ضخمة، أما اقتصاد المواطن المصري فلن يزداد إلا تدهورًا بعد بيع ما تبقى له من أصول علانية وحرمانه من الاعتراض على ذلك بحكم القانون الذي منع الطعن على العقود التي ستبرم مع الدولة بعد هذا المؤتمر ولو كانت مخالفة للقانون بالأساس.
وكل ما سيجنيه المواطن هو رفع الدعم بشكل تدريجي وزيادة الضرائب عليه وبالتالي ارتفاع الأسعار بشكل مفاجئ، وعلى النقيض سيربح النظام بضعة مليارات من الدولارات، تدعم موقفه السياسي، وتعطيه قوة في مواجهة الضغوط المتنامية ضده من أجل عمل مصالحة سياسية شاملة يراها النظام سما لا يمكن تجرعه إلا في حالة الانتحار.
فمصر اليوم على طريق النيوليبرالية العسكرية المتوحشة التي سيكون المواطن البسيط هو أول وأكبر ضحاياها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق