كسر عين البديل
وائل قنديل
كانت القيمة الأبرز للدكتور محمد مرسي، التجربة وليس الشخص، أنه منتج شعبي خالص، لا فضل لأحدٍ في وصوله إلى الحكم، إلأصوات الجماهير وإرادتها، ومن ثم لم يكن مديناً بفواتير، ومطالباً بسدا أثمان لأحد، إلا للذين منحوه أصواتهم، فجعلوه رئيساً.
قل ما تشاء عن أخطاء التجربة وإخفاقاتها، غير أن أحداً لا يمكن أن يجادل في أنه جاء، اختيارا شعبياً كاملاً، نتيجة أول ممارسة ديمقراطية في التاريخ، ينعم بها المصريون.
يأخذنا هذا مباشرةً إلى "حكايات البديل" التي تغرق الأسواق هذه الأيام، ولا يجد مروجوها غضاضةً، وهم يتحدّثون عن أن اللعبة كلها تدور في الخارج، وإن كان ذلك باستخدام القوى المؤسسية الفاعلة في الداخل، وكأننا بصدد إذعان كامل من جمهور السلطة والمعارضة، معا، لقدر البدائل المتدحرجة من إرادات الخارج.
هي واحدة من أشد اللحظات بؤساً في التاريخ المصري، حين تسود سيكولوجية التعلق بالخارج، استطلاعاً لهلال البديل القادم، أو الاستسلام لمنطق الصراع بين مراكز القوة الفاعلة في الداخل.
وفي الحالتين، لا حضور يذكر، أو يحسب حسابه للشعب، ولثورته الوحيدة.
ربما كانت مشكلة الدكتور محمد مرسي أنه كان أول بديل للحكم يأتي بعيداً عن المواصفات والمقاسات الدولية والإقليمية المطلوب توفرها فيمن يجلس على مقعد الحكم في مصر، الأمر الذي أحدث هزةً عنيفةً لدى المتحكّمين في روزنامة الشروط والمواصفات، في الخارج والداخل، فقرّروا التعامل معه إلى أن يجدوا حلاً لهذا الالتفاف الشعبي، حول ذلك الذي صعدت به ثورة يناير إلى كابينة القيادة.
من المهم،هنا، الالتفات إلى لحظتين، بلغت فيهما شعبية محمد مرسي الذروة، داخل أوساط الثورة.
الأولى حين اتخذ قراره التاريخي بإعفاء وزير الدفاع ورئيس الأركان، بقرار واحد،
والثانية موقفه المختلف، والجديد كلياً، من الاعتداء الصهيوني على قطاع غزة.
غيرأن الرئيس أضاع فرصته، وفرصة الثورة التاريخية، عندما لم يكمل ما بدأه، ويواصل فعل التغيير الحقيقي في مؤسسات الدولة، كما ترنو إليه جماهير الثورة، فعزل المشير طنطاوي، وجاء بطنطاوي صغير، مكتفياً بهذا القدر، في الوقت الذي كانت فيه أحلام جمهور يناير تتجاوز ذلك إلى تفكيكٍ وتطهيرٍ جذريٍّ في داخل ثالوث الدولة العميقة، الشرطة والجيش والقضاء.
ذلك التوقف المفاجئ، أو الاكتفاء بهذا القدر، أو العودة إلى منطق الإصلاح التدريجي، بعد قفزة، أو ضربة ثورية هائلة ومزلزلة، استنفر كل حواس الدولة العميقة، فراحت تتأهب للدفاع عن وجودها، وعلى طريقة "الهجوم أفضل وسيلة للدفاع" بدأت تنفذ طلعاتٍ وهجماتٍ موجعة، وضعت الرئيس مرسي وجمهور الثورة في موقف الدفاع والصدّ، لا الهجوم والمباغتة.
والأمر نفسه ربما حدث بشكل أعنف على مستوى الخارج، إذ أثار الموقف من غزة قلقاً دولياً وإقليمياً من تغير المعادلة في منطقة الشرق الأوسط، المحكومة من شرقها إلى غربها بقوانين وضوابط كامب ديفيد، المتحكّمة في إيقاع العلاقات العربية الإسرائيلية، والتي تحولت إلى ما يشبه بحيرة آسنة، وهادئة، يتحلق حولها الخصوم، في توافقٍ مذهل، يتجاوز ما بين الأصدقاء، ولا يريد جديداً يلقي حجراً أو يعكر الصفو، فيرتفع الرتم.
قد يبدو ما سبق استطراداً في غير محله، أو اجتراراً لما مضى، لكن ذلك كله لا ينفى اتصاله باللحظة الراهنة، لحظة صناعة البدائل، وتجارتها في محلات العطارة والأكشاك المتنقلة، ومن أسفٍ أنها كلها تدور حسب رغبات الخارج وتصوراته، ليأتي البديل تابعاً، ومديناً بالفضل لاعتبارات النفوذ الدولي والعبث الإقليمي، في الخارج، ومغامرات أباطرة الأموال، وشبق المؤسسات الأمنية لافتراس السياسة، في الداخل..
ليصبح البديل المطلوب رئيساً ذليلاً، مكسور العين، غارقاً في ديونه المستحقة لأصحاب الفضل في تنصيبه، جهات أمنية وكنيسة وأزهر ورجال أعمال ودولة عميقة، وقوى إقليمية تحارب التغيير بالثورات حتى آخر قطرة نفط، وقبل ذلك وبعده: إسرائيل.
وكل ما سبق من مواصفات ينطبق، تماما، على عبد الفتاح السيسي،
فلماذا يفكّرون في تغييره؟
ذلك موضوع آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق