العصابات القومية المتخصصة
ما تبقى من العصابة المتخصصة في قتل جوليو
وائل قنديل
مصر يلفها التصحر في كل شيء، حتى الخيال بات فقيراً ومعدماً وبائساً، عند السلطة، وعند مثقفيها وكذابيها، لتكون النتيجة كما ترى: فضيحة عالمية جديدة، بعد مسخرة "العصابة المتخصصة في قتل وخطف الأجانب" التي اخترعها جهاز أمن السيسي، للهروب من جريمة خطف الباحث الإيطالي، جوليو ريجيني، وتعذيبه وقتله.
منذ بواكير الانقلاب، كان واضحاً أننا دخلنا عصر الجريمة السياسية المركّبة، متصلة الحلقات، بلا توقف، وهذا معروفٌ في علم الجريمة، حين تبدأ المسألة بسرقة (منزل أو ديمقراطية أو سيارة أو ثورة، لا فرق) وحين يشعر السارق بمن يراه، ويحاول الإمساك به، يشعل النيران في المكان، لكي يختبئ في سحب الدخان المتصاعد، وحين يضيق عليه الخناق، يقتل كل من يلاحقه، أو يحول دون هروبه.
فعلتها السلطة الحالية حرفياً، منذ ارتكبت الجريمة الأولى، السطو المسلح على الحكم، فلما ظهر من يحاول توقيفها وردّ المسروقات، أشعلت حريقاً مجتمعياً وإنسانياً، استدعت من خلاله أحط نوازع الشر في البشر، لتصبح المسافة صفراً بين الطبيب الأديب، وريث يوسف إدريس في القصة القصيرة، والمخبر الجهول، وريث رفعت السعيد في الاستربتيز السياسي،..
ثم حين تلمح إصراراً لدى من يقاومون جريمتها، تقتل ببشاعةٍ ووحشية، كما فعلت في مذبحة الحرس الجمهوري، ثم مع ارتفاع وتيرة المقاومة، تقتل على نطاقٍ أوسع، كما حدث عند النصب التذكاري للجندي المجهول، ومع تزايد رقعة الصمود في وجه جريمتها، تذهب إلى الجريمة الكبرى: مذبحتان هما الأفظع في تاريخ الإجرام السلطوي، رابعة العدوية والنهضة، وبعدهما يتحول القتل إلى عقيدةٍ، وأسلوب حياة، لدى النظام وفاشييه من المثقفين والإعلاميين والسياسيين، منهم من يحرّض على القتل والفرم، ومنهم من لا يجد غضاضةً في إعلان رغبته بأن يفعلها بيده، ويملأ جوفه من دماء معارضيه.
يتكرّر السيناريو نفسه في جريمة قتل جوليو ريجيني، حيث الهروب من جريمة، بارتكاب جريمة أكبر، لتصبح الحقيقة الوحيدة المؤكدة الآن أن خمس أرواح مصرية أزهقت غدراً، أو ذبحت غيلةً، من أجل تقديم دماء أصحابها وجبة شهية على مائدة ترضية السلطات الإيطالية، أو هكذا توهّم الذين ارتكبوا المذبحة.
ويأتي الرد ساخناً من إيطاليا، رسمياً وشعبياً: شكراً: نحن لا نأكل رواياتٍ مسمومة، ولا نبتلع أكاذيب بليدة، ليتحوّل بيان الداخلية المصرية الذي أصدرته على عجل، تزفُّ فيه بشرى الثأر للشاب الإيطالي، جريمةً أخرى تُضاف إلى سجل الجرائم ضد الإنسانية التي يمارسها النظام.
من هذا الغبي الذي أشار على نظام السيسي بفضيحة اختراع "العصابات القومية المتخصصة" التي كانت باكورته عصابة خطف وسرقة وتعذيب وقتل وإلقاء جثث السياح الأجانب والاحتفاظ بمتعلقاتهم؟
من الذي أقنعهم بهذا السيناريو الكارثي، في بلدٍ تتسول سلطاته السياح، وتبوس الأقدام كي تستأنف الدول وفودها السياحية إلى مصر التي ضرب سياحتها التصحّر، منذ حوّل عبد الفتاح السيسي سيناء إلى مراعٍ للقتل والدمار، وجلس يلهو فوق الخرائب، بحكاياته وأحاديثه المثيرة للسخرية والأسى، عن الرخاء الذي ستغرق فيه البلاد، والمجد الذي لن تكفيه مساحة الدنيا؟.
الخطير في الأمر أن هذا النظام عوّدنا على اختراع الأكذوبة، ثم محاولة تحويلها إلى واقع متحقق، والخوف كل الخوف أنه، بمواجهة سخرية وتجريس العالم له على سيناريو "عصابات تخصّصت في قتل السياح الأجانب" لم تقتل إلا الباحث الإيطالي، نصحو على كوابيس أخرى تنتمي إلى دراما الخيال الفقير، تعلن عن العثور على جثث أجانب آخرين، من جنسياتٍ مختلفة، على طريقة "شيء لزوم الشيء"، ولم لا ومنهجهم هو تغطية الجريمة بأكبر منها.
وما الذي يمنعهم من التوسع في مشروع "العصابات المتخصصة"، لنفاجأ بأخبار جرائم ترتكبها عصابة لخطف وقتل العائدين إلى جنة الانقلاب، عبر بوابة عبدالله السناوي، وأخرى تنفذها عصاباتٌ متخصصة في تصفية المطالبين بانتخابات رئاسية مبكرة؟
ألم يفعلوها سابقاً بإطلاق عصاباتٍ مجتمعيةٍ مسلحةٍ لافتراس معارضي الانقلاب؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق