شرعية السلطة بين الإسلام والعلمانية
ا.محمد إلهامي
باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية
باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية
على حد ما نعلم من التاريخ، فإن "شرعية السلطة" كانت الهمَّ الأول للحاكم، إذ لا يسعه أن يعترف بأنه يحكم قهرا وقسرا وجبرا ورغم أنف الناس بلا حق له في الحكم ولا مبرر ليكون في موقع السلطة، حتى الحاكم بأمر الله الذي نسب إليه أنه نثر الذهب وقال "هذا حسبي" ثم سلَّ السيف وقال "هذا نسبي" إنما حَكَم بشرعية انتسابه لآل البيت وأنه من ولد علي وأن جدته فاطمة بنت النبي.
وهكذا فعل الملوك عبر التاريخ فأعلاهم غرورا فرعون حكم بشرعية {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] و{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] وأشهد قومه على ما البلاد فيه من الغنى والرخاء كمبرر لحكمه {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51] بل ووقف ليعلن نفسه حاميا لقيم ومعتقدات الشعب حين قال مبررا حربه على موسى عليه السلام {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]، وأدناهم قدرا من حكم بشرعية الضرورة إذ هو أقوى الخصوم وإن كان عبدا مملوكا ليس له نسب ولا علم ولا فتح، فلو أنه ترك حكم البلاد لدهمها العدو أو لانتشرت فيها الفتن.
وإذا كان ذلك كذلك، فلا بد أن تعمل آلة السلطة في تثبيت أركان الحاكم، فتُجَيِّش السلطة أرباب الدين: الكهنة والأحبار والرهبان والفقهاء لإلباسها ثوب الشرعية، وحين جاءت الحقبة العلمانية لم تتخلف هذه القاعدة بل اتخذت لها مثل هذا الجيش، إلا أن كتابها المقدس سُمِّي "الدستور"، وسُمِّي القائمون عليه: فقهاء الدستور وخبراء القانون، وقد قاموا بنفس الدور أيضا.
إلى هنا تظهر خصوصية في الحالة السياسية الإسلامية تجعلها انفرادا بين كل التجارب الإنسانية، تلك الخصوصية هي وجود نص مقدس معصوم، ثم وجود تجربة تاريخية في الحكم والسياسة وَصَفَهَا النص المعصوم بأنها "راشدة" وجعلها مثالا يُقْتَدى ويحتذى، وذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشديين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ"، وفي الحديث الآخر: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة".
تلك الخصوصية ليست موجودة في شأن الأمم الأخرى، ذلك أن التجارب التاريخية تكون واحدة من هذه الحالات:
الأول: عدم وجود كتاب صحيح النسبة إلى مصدر إلهي لا يمكن تحريفه (كما في حالة الديانات القديمة).
الثاني: خُلُوّ هذا الكتاب "المقدس" من شريعة في شأن الحكم والسلطة (كما في حالة المسيحية).
الثالث: عدم وجود فترة تاريخية واضحة المعالم تكون سيرتها موضع قدوة في السياسة والحكم (كما في حالة اليهودية).
الرابع: عدم وجود نص مقدس أصلا، وذلك في حالة العلمانية، فالأمر فيها أوضح؛ إذ مداره كله على المصلحة (المنفعة) التي يقدرها البشر لأنفسهم، ومنها يخرج دستور تتفرع عنه قوانين تفصيلية، فإن ارتأى البشر حاجتهم إلى تغيير النص الدستوري فعلوا ولا مشاحة.
فإذا أنزلنا هذا على مسألة "شرعية السلطة السياسية" فإننا في هذا الواقع المعاصر لن نجد اشتباكا حضاريا حقيقيا إلا بين النموذج الإسلامي والنموذج العلماني، لا سيما وأن النموذج العلماني قد سيطر على العالم المسيحي وذاب فيه كذلك الفكر اليهودي (فإسرائيل، وهي التحقق السياسي لليهودية، جزء من النموذج الغربي ولم تكن لها خصوصية حضارية مغايرة عنه[1]، ويراجع في هذا كتابات د. عبد الوهاب المسيري رحمه الله)، ثم تأثرت به وتشربته مناطق الديانات القديمة التي فصلت عمليا بين أديانها وبين أحكام السياسة والسلطة، حتى لم تعد تمثل بديلا حضاريا للنموذج الغربي العلماني، ومن ثَمَّ فهي لا تمثل تهديدا حضاريا له (ويكاد يكون هذا موضع اتفاق بين الباحثين في هذا الشأن[2]).
حينئذ تكون أول وأهم إشكاليات المقارنة بين النموذجين: الإسلامي والعلماني، هي –في الحالة الإسلامية- وجود نص ثابت معصوم مُلزم مع تجربة تاريخية متحققة "راشدة" يؤخذ منها بوضوح حدود مفهوم "الشرعية السياسية" للسلطة، في حين لا يوجد مثل هذا النص الملزم ولا التجربة التاريخية الموصوفة بالراشدة في الحالة العلمانية بل كل شيء قابل للتغيير وإعادة النظر.
وعلى هذا، فحين لا يجد فقهاء الدستور "العلماني" حرجا في تغيير النص لإسباغ الشرعية على السلطة السياسية وقتما ارتأوا ذلك (في الواقع: وقتما تحكم القوة بذلك) لا يمكن للفقيه في السياسة الشرعية تغيير النص المقدس لإسباغ الشرعية على الحاكم، فإما يلجأ لتأويلها أو يسبغ عليه شرعية الإكراه والاضطرار وفقه الضرورة.
فإذا أضفنا إلى هذا أن بناء "السلطة العلمية" في الإسلام يجعلها غير هرمية بل هي حالة تيار عام أو على الأقل "حالة شبكية مجتمعية" فَهِمْنَا أن كل محاولة تأويل فاسد تجد من يفضحها وينزع عنها الشرعية، وكذلك كل محاولة خلق اضطرار بغير حقيقة.
لذلك يمكن في حالة السلطة العلمانية أن يحدث انقلاب عسكري، فيصدر "البيان رقم 1" الذي ينهي به شرعية النظام السابق، ثم يبدأ في إجراءات إنشاء دستور جديد يمثل شرعيته القانونية، ثم يجعل من هذه الشرعية الواقعية –التي تغطت بزخرف قانوني- الأساس الذي يُحاكم ويحاسب الناس عليه. وبقدر ما استطاع هذا النظام الثبات بقدر ما تحول قانونه إلى شرعية راسخة وتقليد مكين.
بينما لا يمكن أن يحدث هذا في ظل النظام الإسلامي، فبعد أربعة عشر قرنا من الزمان لم يعترف الفقه الإسلامي بالشرعية الكاملة لحكم المتغلب، وظل الفقه الإسلامي المكتوب يعتبرها شرعية ناقصة أتت في ظروف اضطرارية وُضِع فيها المسلمون بين اختياريْن أحلاهما مرّ: اختيار الفوضى والفتنة، أو القبول بحاكم يقيم الشرعية ويحمي الثغور ولكنه أتى بغير اختيار حر من الأمة.
ولا يزال الأمر حتى الآن موضع خلاف بين الفقهاء في حدود القبول بالمتغلب وشروط القبول به ومتى يمكن القبول به وغيرها.
وظل تيار السياسة الشرعية في الإسلام يحاكم كل حاكم إلى عصر الراشدين، باعتباره العصر القدوة الذي يجب أن يهتدي به الحاكم المسلم، ويُرفع في وجه الحاكم حزم أبي بكر ورفقه، وشدة عمر وعدله، وسياسة عثمان وعلي مع المعارضين، وسنة الحسن في إيثار مصلحة الأمة.. إلى آخر ذلك.
فهذا موضع التميز والانفراد في النموذج السياسي الإسلامي، إذ عملت قوة الدين وقوة نصه المعصوم في تثبيت الحد الذي يمثل الحق الذي يُحاكم إليه الناس، وهو ما لا يمكن أن يوجد في سلطة علمانية، ولا في أي سلطة تفتقد وجود النص المعصوم الذي له تأثير الدين، أو وجود الفترة الزمنية التي تمثل التحقق السياسي والقدوة لمن بعدها.
وهكذا، فما أسهل أن يحصل حاكم على شرعية سلطته بقوة السلاح في أي سياق إلا السياق الإسلامي، فحتى مؤسسو الدول الإسلامية الأقوياء تظل تطاردهم صفحات التاريخ بما خالفوا فيه الدين وسيرة الأئمة الراشدين، بينما من اقترف من الجرائم أضعاف أضعاف أضعاف هذا هم في سياق آخر من الأبطال مؤسسي الدول وموحدي البلاد، وما ذلك إلا لأن الحق هنا فوق القوة، والحق هناك تصنعه القوة.
[1] أفاض في إثبات هذا والتدليل عليه د. عبد الوهاب المسيري رحمه الله في العديد من كتاباته.
[2] مسألة أن العالم الإسلامي هو من يمثل بديلا –أو تهديدا- حضاريا للغرب يردده من الغربيين من يميلون إلى نظريات الصدام مثل هنتنجتون في "صدام الحضارات" وفوكوياما في "نهاية التاريخ"، ومن يميلون إلى الحوار والتفاهم مثل كارين أرمسترونج في "سيرة النبي محمد" كما يردده فلاسفة ومنظرون إسلاميون مثل أحمد داود أوغلو في "العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية" وغيرهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق