دويلة روج آفا ، استنساخ إسرائيلي أم فشل تركي ؟!
شريف عبدالعزيز
ــ "التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن الأغبياء لا يتعلمون من أخطائهم"...
هذه هي محصلة وعبرة الكثير من التجارب التاريخية التي مرت بها المنطقة منذ عدة قرون.
فقد تبدو للوهلة الأولى أن الأحداث تتشابه ، والوقائع تتماثل حتى في تداعياتها وتوابعها ، إلا إن الحقيقة المريرة ؛ أن استنساخ الأخطاء ، والمضي فيها قدما بكل حماسة ، مرة بعد مرة ، هي التي تضفي على الحدث تشابها ، وعلى الخيبة تماثلا . وهل كانت أخبار السابقين ، ومصارع الغابرين ، في نصوص الوحيين إلاّ للاعتبار والتدبر والتفكير والتريث والتعلم ؟! أم أنها كانت قصص يتفكه بها العاطلون في مجالسهم ، ويقطعون بها ليالهم وأسمارهم ؟! . وواقع الأمة العربية والإسلامية يشهد براعة غير مسبوقة في استنساخ الأخطاء ، وتفردا في تكرار الفشل ، لم نره في تاريخ أمة من الأمم المعاصرة . وما يحدث في شمال سوريا اليوم خير دليل على ذلك .
ـــ بعد 48 ساعة فقط من إعلان الروس إنسحابهم من سوريا ، بعد تحقيق أهداف التدخل العسكري بها كما جاء على لسان بوتين نفسه ، تقوم مجموعة من الأحزاب الكردية الصغيرة بإعلان النظام الفدرالي من جانب واحد في مناطق سيطرة الأكراد في شمال سوريا، في خطوة تعد فاتحة التنفيذ الفعلي لأهم أهداف التدخل الروسي ؛ فدرالة سوريا. هذا الإعلان وفقا لمعلنيه جاء بحجة استبعاد الأكراد من مفاوضات جنيف،وقد تم إعلان النظام الفدرالي خلال اجتماع شاركت فيه أكثر من 150 شخصية من شمال سوريا بينهم أكراد وعرب وسريان وآشوريون وتركمان وأرمن، في بلدة رميلان في محافظة الحسكة (شمال شرق سوريا) . وتم الاتفاق على تشكيل مجلس تأسيسي للنظام الفدرالي ، وتم انتخاب رئيسين للمجلس التأسيسي، هما العربي منصور السلومي والكردية هدية يوسف ، والمناطق المعنية بالإعلان هي المقاطعات الكردية الثلاث، كوباني (ريف حلب الشمالي) وعفرين (ريف حلب الغربي) والجزيرة (الحسكة)، بالإضافة الى تلك التي سيطرت عليها ما يسمى "قوات سوريا الديمقراطية " المدعومة من نظام الأسد .
ـ كيان روج آفا جاء مثل البذور الصغيرة المنثورة من الحسكة إلى عفرين نبتت على مراحل،فمن ريف حلب الحدودي مع جرابلس يمتدَ الشريط نحو عفرين في أقصى الغرب السوري.وقد نمت بذروه بسرعة خاطفة واختار له اسم "الإدارة الذاتية"، تحرسها "وحدات حماية الشعب".حدث هذا بقوة الدفع الأمريكي وطائراته ومستشاريه. وليس بعيدا عنهم "المطار" العسكري الأمريكي في ريف الحسكة . فروج آفا ما كان لها أن تظهر للوجود إلا بدعم مباشر وقوي من الأمريكان والروس الذين توافقت إرادتهم السياسية على منح الأكراد حكما ذاتيا في هذه المنطقة الخطرة من العالم العربي والإسلامي ، وغفلة لا يمكن التسامح فيها أو التجاوز عنها بتبريرات سمجة وغير مقبولة من جانب قادة دول المنطقة ، خاصة الجانب التركي الذي تلكأ كثيرا ، وأرعد وأزبد كثيرا ، فالقصة بأكملها تتشابه إلى حد كبير مع تجربة " الكيان الصهيوني " في فلسطين ، فالبدايات تتشابه كثيرا بين الكيانين ، والرهان على التاريخ والعلاقات والنهايات !
ـــ فالكيان الإسرائيلي الغاصب لأرض فلسطين ظهر للوجود في 14 مايو 1948 إثر الانسحاب الانجليزي المفاجئ من أرض فلسطين ، بعد إحتلال طويل تم خلاله التمكين لليهود من إقامة معالم دولتهم المزعومة بمساعدة مادية ولوجستية مباشرة من الانجليز والفرنسيين والأمريكان والروس ،لتمكينهم من المواجهة العسكرية مع الفلسطينيين الأكثر عددا وامتلاكا للأراضي ، وعبر أدوات أخرى مثل المجازر والتصفية العرقية والتهجير والإبادة الجماعية . وبعد أن تهيئت الظروف الدولية والإقليمية ، أضحت الأجواء ملائمة لإعلان الدويلة الإسرائيلية بمباركة دولية ومساعدة أممية وتهيئة ميدانية ، ولم يبق سوى دقة إخراج مشهد النهاية ، وقد جاءت بتمثيلية الانسحاب المفاجئ للإنجليز في 14 مايو 1948 ، ليعلن بن جوريون بعدها قيام دولة إسرائيل!
ــ التشابه الكبير بين ميلاد روج آفا وبين الكيان الصهيوني الغاصب لم يكن وليد مصادفة أو تكرار لأحداث التاريخ ، بل تتويج لعلاقات تاريخية وصراعات إقليمية وبرجماتية كردية في أقبح صورها. فعلاقة الأكراد بالإسرائيليين بدأت منذ عام 1943 وتعمقت بعد قيام إيرائيل، وساعدت إسرائيل الأكراد في معاركهم مع الأنظمة العراقية منذ أيام الملكية وما بعدها، وقد أمدّتهم أكثر من مرّة بالسلاح والأغذية والمعونات الصحية، والأموال، وأنّ ممثلين من الموساد الإسرائيلي زاروا المواقع الكردية في شمال العراق في فترة الستينيات، وكانت الاتصالات بينهم تجري عبر طهران في ظل حكم الشاه، وعبر العواصم الأوروبية، وخاصةً في باريس ولندن ، وزعيم الكرد الراحل مصطفى برزاني زار إسرائيل مرتين، والتقى هناك القادة الإسرائيليّين وقادة الموساد في أواخر الستينيات. وتنقسم علاقة إسرائيل بالقيادة الكردية إلى مراحل أربع:
1ـــــ التأسيس (1931 ـــــ 1965) وكان بطلب كردي وجد فيه الإسرائيليون مصلحة، أقلّها تأمين هجرة اليهود العراقيين. الاستجابة الإسرائيلية كانت جزءاً من تطبيق «استراتيجية شد الأطراف»، التي تفترض ضرورة إقامة علاقات وتحالفات مع الدول والقوميات الطرفية غير العربية.
2ـــــ تدفّق الدعم (1965 ـــــ 1975)، أي فترة انطلاق المعارضة الكردية ضد الحكومة العراقية. وقتها، كانت الغاية الإسرائيلية تتلخص في الضغط على حكومة بغداد وإشغالها عن الصراع العربي الإسرائيلي، فضلاً عن مساعدة إيران الشاهنشاهية التي كانت لها مصلحة في إضعاف العراق.
3 ـــــ العودة (1991 ـــــ 1999) أي بعد حرب الخليج الثانية، بهدف إقامة كيان كردي مستقل يمثّل قاعدة متقدمة في وجه إيران الخومينية، وبغداد الصدامية لمنعها من توجيه ضربة لإسرائيل. وقد انتهت هذه المرحلة مع اعتقال زعيم حزب العمال الكردي عبدالله أوجلان ، مع ما رافقه من موجة غضب كردية حمّلت الموساد مسؤولية هذا الاعتقال.
4 ـــــ المأسسة (2003 ـــــ ....)، والغاية إقامة دويلة كردية مستقلة تسيطر على نفط شمال العراق ومعه كركوك، بما يؤمّن للدولة العبرية حاجتها من هذه المادة الحيوية، ودويلة كردية في شمال سوريا لتحجيم نفوذ الأتراك إقليميا ودوليا.
قادة الأكراد لا يرون مشكلة على الإطلاق في إقامة علاقات كردية إسرائيلية، ما دامت تخدم الآمال الكردية، وتدعم حقوقهم القومية، بل يرى هؤلاء أن العلاقة مع إسرائيل تحقق نوعاً من الحماية للأكراد، وتقويهم أمنياً وعسكرياً وسياسياً، في وجه المخاطر التي تهددهم. ويذهب بعضهم أكثر من ذلك إلى تأكيد أن العلاقة الجيدة بإسرائيل كفيلة بتأمين الدعم والحماية الأميركية للأكراد في وجه المخاطر الإقليمية التي تهددهم. وعليه، يطالب هؤلاء بعلاقة مفتوحة مع إسرائيل، حتى لو استفادت الأخيرة من هذه العلاقة لصالح مخططاتها تجاه المنطقة بأسرها. ولهم أسوة غير حسنة في كثير من حكومات الدول العربية التي تقيم علاقات سرية وعلنية مع الكيان الصهيوني ، فالجميع في العار سواء ! ولعل الزيارة الأخيرة للرئيس الصهيوني" ريفلين "، لموسكو واجتماعه مع بوتين، للتنسيق والتفاهم معه على مرحلة ما بعد الانسحاب الروسي، تندرج في هذا السياق، تماما مثلما سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قبل خمسة أشهر إلى لقاء بوتين عشية التدخل العسكري الروسي في سوريا .فلم يأت "ريفلين" لمجاملة بوتين، بل حمل لائحة واضحة بالمطالب الإسرائيلية أو ما أسماه مراقبون بالخطوط الحمر التي رسمها الكيان الصهيوني لمرحلة ما بعد الانسحاب ، أهم ما فيها هو سعيه للتفاهم مع روسيا حول رسم المستقبل السياسي لسوريا، مستغلا الكلام الروسي عن "الفيدرالية" . فبوتين أعاد رسم خريطة سوريا، دويلة علوية وحكم ذاتي للأكراد، وأمَنها بقاعدتين، ولهذا أبقى على القوة الروسية الجوية والصاروخية في قاعدتي طرطوس وحميميم، وهي "عماد الإستراتيجية العسكرية الروسية في المنطقة"، فيما لم يخرج أردوغان ومعه بعض العرب من سرداب الضوء الأخضر الأمريكي ، على حد وصف أحد المعلقين.
وتماما كما وقف العرب والمسلمون من قبل يشاهدون اليهود وهم يقيمون دولتهم على أرض فلسطين المباركة ، يقفون اليوم مرة أخرى يشاهدون روسيا وأمريكا ومعهم إسرائيل وهم يمزقون الوطن السوري الكبير لصالح كيانات فيدرالية مقدمة أولية للتقسيم الفعلي لأربع دويلات على أرض الشام المباركة .فمحاولات الأتراك والدول العربية لوقف مثل هذا التقسيم لم تخرج عن نهج العربي القديم الذي سرق اللصوص إبله ، فلما عاد إلى أهله وسئلوه عن الإبل وماذا فعل مع اللصوص، فقال : " مضوا بالإبل ، وأوسعتهم سبا وشتما " . فقد حذر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرارا وتكرارا أن أنقرة لن تتسامح مع إقامة الحكم الذاتي الكردي في سوريا وسيرسل جيشه عبر الحدود لمنع ذلك.في حين أن بوتين قد أكَد للقادة الأكراد أن سلاح الجو الروسي سيكون هناك للدفاع عن المنطقة جديدة إذا حاولت تركيا السيطرة عليها ، فالميلشيات الكردية السورية تتوقع قتالا قادما، بدعم روسي، لربط الجيوب الثلاثة في شريط مستمر يتمتع بالحكم الذاتي على طول 500 كيلومتر يتاخم الحدود التركية. وتارة أخرى حاول أردوغان حشد إدارة أوباما لاتخاذ إجراءات لردع الأكراد، لكن وزارة الخارجية ردت على المبادرة الكردية بعد وقوع الحدث، قائلة:"لا نؤيد مناطق شبه مستقلة تتمتع بالحكم الذاتي داخل سوريا في الوقت الحالي،ولا نمانع إذا أراد ذلك السوريون".
والحكومة التركية التي سبقت وأن وضعت سيطرة المقاتلين الأكراد على اعزاز في سياق "الأمن القومي" واعتبرته "خطاً أحمر"، لن تسمح بعبوره، بدعوى أن سقوط هذه البلدة يعني قيام "كردستان سورية" إلى جانب "كردستان العراق"، ما يفتح الباب أمام قيام "كردستان تركيا" جنوب البلاد وإلهام طموحات "حزب العمال الكردستاني" الذي تعتبره تنظيماً إرهابياً . فسقطت إعزاز وسيطر عليها الأكراد الانفصاليون ، فماذا فعلت حكومة أنقرة ؟! لم تفعل أكثر مما كانت تفعله من قبل ؛ تهديد ووعيد، وقصف مدفعي أقصى مدى له 60 كيلو متر ، لا يغير شيئا على الصعيد الميداني، واستأسد الأكراد بعد أن تيقنوا بالدعم الروسي والأمريكي ، وضعف الموقف التركي ، وجموح أكراد سوريا دفع حزب العمال الكردي لتصعيد عملياته الارهابية ضد الدولة الدولة التركية حتى وصل بعملياته إلى قلب أنقرة وقريبا من مؤسساتها السيادية.
الوضع الاقليمي متأزم بشدة ، وسوريا دخلت فعليا في مرحلة التقسيم ، والفيدرالية ما هي إلا مرحلة أولية لهذا التقسيم ، ونظام الأسد نفسه الذي يتظاهر بالرفض والاعتراض من أكثر الأطراف استفادة من هذه الفيدرالية ، وقادة الأكراد يمارسون لعبة لم ييأس معظم الساسة الكرد من إعادة تجريبها. وهي اللعب على التناقضات الدولية في سبيل كسب حلم الدولة الكردية.و المظلومية الكردية لا تعني هدم كيانات وإعادة تشكيلها بما يبتغي قائد عسكري أو سياسي تأثّر بعبدالله أوجلان أو مصطفى البرزاني. والأتراك والعرب في حالة فشل إقليمي وعجز سياسي عن وقف هذا الانفصال الذي أصبح واقعا جيوسياسيا هو الأكبر والأخطر منذ انفصال كردستان العراق . ولم يبق سوى التدخل العسكري المباشر ، وهو الحل المرير الذي لا مفر منه ، والذي يحمل في طياته مخاطر إستراتيجية كثيرة ، ولكنه يبقى رغم كل مرارته الحل الوحيد لوقف سيناريو تمزيق الأمة الذي كتب فصوله وأشرف على تنفيذها الروس والأمريكان والصهاينة ، وساعدهم في ذلك براعة العرب والمسلمين في استنساخ أخطاء الماضي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق