الأربعاء، 23 مارس 2016

موجز تجربة نجم الدين أربكان (2)

موجز تجربة نجم الدين أربكان (2)




ا.محمد إلهامي
باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية

اقرأ: موجز تجربة نجم الدين أربكان (1)

سُمح بتأسيس الأحزاب (1983م)، فأسس أربكان حزب الرفاه (19 يوليو 1983م) من موقعه في الظل والحظر، إلا أن الحزب لم يُسمح له بخوض انتخابات (1983م) فذهبت أصوات قاعدة الحزب إلى تورجت أوزال وحزب الوطن الأم، وهو ما أدى إلى نقصان أصواته في انتخابات (مارس 1984م) إذ لم يحقق سوى 4.4%، وقد ذهب أربكان خطوات أخرى نحو التقاطع مع العلمانية بدلا من مصادمتها وصكَّ مصطلح “العلمانية الحقة” ويقصد بها التي لا تعادي الدين ولا تهيمن عليه بل تقف منه على الحياد، وابتعد عن وصف حزبه بالإسلامي مغلفا إياه بخطاب إصلاحي أخلاقي[1].
 ثم أقر تعديل دستوري (سبتمبر 1987م) رُفِع به الحظر عن الزعامات السياسية في السبعينات فعاد أربكان لقيادة الحزب جهرة[2]، وخاض انتخابات (نوفمبر 1987م) فحصل على نسبة 7.2%، ثم انتخابات البلدية (مارس 1989م) فحصل على نسبة 9.8%، ثم انتخابات (أكتوبر 1991م) فحصل على نسبة 16.9%.
وقد أظهرت هذه النتائج أن للحزب “قوة ناخبة قد تبلورت، ولكنها لم تتمكن من التعبير عن نفسها بشكل كامل”[3]، ثم حقق الحزب 19% في انتخابات البلدية (1994م) منها مقعدي رئيس البلدية لأنقرة واسطنبول فكان ذلك نقلة كبرى للحزب ومستقبله السياسي[4].

انهار التحالف الحاكم بين حزبي الطريق القويم بزعامة تانسو تشيلار وحزب الشعب الجمهوري بزعامة دينيز بيكال، فأجريت انتخابات مبكرة (ديسمبر 1995م) فحصد الحزب 21.38% (158 مقعدا)، وفي ظل عجز الأحزاب الأكبر عن التفاهم صار أربكان نائبا لرئيس الوزراء ثم رئيسا للوزراء على رأس حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم برئاسة تانسو تشيلار[5]، وأرسل هذا الفوز صعقة كهربائية للعلمانيين وفي قلبهم العسكر حيث صارت تركيا لأول مرة تحت إدارة إسلامية[6]، وبعد فاصل قصير أطلق هؤلاء حملة سياسية لقلب النتائج، فعاشت تركيا صراعا على الهيمنة السياسية[7].

جاء أربكان في وقت عصيب، كانت حملة العسكر على الأكراد مستمرة وهم يسحبون السياسة في طريقهم لتكون الحرب على الإرهاب هي الأولوية الأولى أو حتى المهمة الوحيدة، وكانت “الدولة العميقة” تدير هذه الحرب بمستوياتها السرية التي تشيع الاغتيالات والتعذيب وكافة ما هو غير قانوني، وفي نفس الشهر الذي تولى فيه أربكان الحكومة (يونيو 1996م) وقعت حادثة سوسورلوك التي بدأت تتكشف بها خيوط بعض هذه الأعمال القذرة وصارت تُنْشَر في الصحافة وتُواجَه بها الحكومة التي لم تكن تستطيع بحال أن تفعل حيال ذلك شيئا[8].

وفي سياق آخر ذهب أربكان في طريق تغيير تركيا، فاتخذ خطوات جريئة من أهمها: تأسيس مجموعة الدول الصناعية الإسلامية الثمانية[9] تمهيدا لإنشاء سوق إسلامية مشتركة، واعتماد سياسة اقتصادية وطنية تغلق تركيا في وجه الاستثمارات الغربية وتمنع الاقتراض من الخارج[10]، مما سيضرب مصالح الدول والشركات الكبرى، وحاول إنهاء السير في طريق الانضمام للاتحاد الأوروبي كما حاول الترويج لاستعمال العملة الذهبية (الدينار الإسلامي)، إلا أن حزب الطريق القويم –شريكه في الائتلاف- أبلغه أن قضيتيْن غير قابلتين للمناقشة في تركيا: عضوية للناتو وصك الدينار[11].
ولم تفلح محاولاته التماهي مع السياسات المستقرة كمواصلته الدعم اللوجيستي للقواعد العسكرية الأمريكية في تركيا أو موقفه من مسألة قبرص أو ازدراد ما يجري في المسألة الكردية أو إبقاء العلاقات مع إسرائيل أو ابتلاع الحظر المفروض على الحجاب[12]، لم يجد كل هذا وحدث ما هو متوقع.

في اجتماع دوري لمجلس الأمن القومي (28 فبراير 1997م) أُبْلغ أربكان ونائبته تانسو تشيلار من قبل هيئة الأركان بأن تركيا صارت تحت خطر الرجعية الدينية المهددة لوحدة البلاد، وقدموا قائمة بالإجراءات المطلوبة من الحكومة، وهي تتلخص في ضرب التيار الإسلامي: أموالا وإعلاما وتعليما، وإنشاء هيئة برئاسة نائب رئيس الأركان تشرف على التنفيذ، وبعد أيام من الضغط العنيف أجبر أربكان على الموافقة[13]، وآثر الانسحاب كي لا يتطور الأمر إلى انقلاب عسكري مباشر كما حدث في (1980م)، وهكذا امتدت رئاسته للحكومة رسميا ما بين (28 يونيو 1996 – 30 يونيو 1997م)، وكان الرئيس سليمان ديميريل ونائبته في رئاسة الوزراء تانسو تشيلار، وسبقه وتلاه في رئاسة الوزراء: مسعود يلماظ، ثم صدر قرار بحل حزب الرفاه (16 يناير 1998م) وحرمان أربكان من العمل السياسي، وكان الحزب في ذلك الوقت يمتلك 4 ملايين عضو[14] وبعضهم يقول بل 4 ملايين من الرجال ومليونين على الأقل من النساء[15].

أسس أربكان حزبا جديدا، هو حزب الفضيلة، بمن لم يشملهم الحظر السياسي، وكان برئاسة صديقه محمد رجائي طوقان، واعتمد خطابا أهدأ وأقل من خطاب الرفاه[16]، لكن لم يحصل في انتخابات (إبريل 1999م) سوى على 15.4% فصار في المعارضة ثم صدر قرار حله (يونيو 2001م) باعتباره محاولة لإعادة حزب محظور[17]، فأسس حزب السعادة (22 يوليو 2001م)، وهو آخر أحزابه، وما يزال يطرح نفسه كحزب إسلامي أصيل، ويجدد خطاب حزب السلامة الذي يعلي من شأن الأخلاق والقيم ويتبنى معاداة التغريب ويرفض الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي[18]، إلا أنه أفل نجمه وصار في عداد الأحزاب الهامشية.

ومهما كانت أسماء الأحزاب المختلفة فإن الفكر الإسلامي السياسي ظل كما هو، يُعرف بـ “الفكر الوطني” التي ترى في أن أساس النهضة هو التمسك بالإسلام كهوية والاكتفاء بأخذ ما لدى الغرب من تقنية فحسب مع اعتماد صناعة وطنية تؤسس لوجود حقيقي على الساحة العالمية ورفع سيطرة الدولة على الدين، وحيث كان الحزب ممثلا لهوية جامعة فقد جمع تحته أطيافا هي “تناقضات” من منظور العلمانية التركية، فاجتمع تحت سقفه عدد من الجماعات الإسلامية مع قاعدة شعبية من العمال والقرويين والتجار وأصحاب رؤوس الأموال الصغيرة من الفئات المحافظة، مع عناصر من البرجوازية الصغيرة وقاطني المدن والعاملين في جهاز الدولة، وكان جمهور الحزب هو تلك الجماهير القروية الريفية المتدينة المقهورة تحت سياسات العلمانية، ولذلك اعتبر الحزب نفسه ممثل “الأغلبية المقهورة”[19]، إلا أنه –وبعد إغلاق الرفاه- شهد حزبا الفضيلة ثم السعادة تغيرا في الخطاب والبرنامج نحو جهة أكثر ليبرالية وأقل معاداة للغرب[20].

بقي أن نرسم الصورة العامة لإنجازات تجربة أربكان، وهو ما نتعرض له في المقال القادم إن شاء الله تعالى.

[1] منال الصالح: نجم الدين أربكان ص176 وما بعدها؛ Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 22-3.

[2] Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 21.

[3] بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص113.

[4] منال الصالح: نجم الدين أربكان ص194 وما بعدها؛ Hale, Özbudun: Islamism, Democracy, and Liberalism, p. 4.

[5] بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص184؛ Lapidus: A History of Islamic Societies, p. 508.

[6] Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 42; Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 25.

[7] Heinz Kramer: A Changing Turkey, p. 70.

[8] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص163 وما بعدها.

[9] وهي: تركيا، إيران، باكستان، ماليزيا، إندونيسيا، مصر، ليبيا، نيجيريا.

[10] Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 23.

[11] لقاء مع أبو بكر ريغر، رئيس دار السكة الإسلامية العالمية، فيلم وثائقي “حركة الدينار”، قناة الجزيرة الوثائقية، 10 إبريل 2014م.

[12] Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 43-4; Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 26.

[13] كِرِم أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص169؛ Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 27.

[14] بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص235؛ Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 44.

[15] لقاء مع عمر قورقمامز مستشار أربكان، قناة التركية (العربية)، بتاريخ 27/2/2011.

[16] Hale, Özbudun: Islamism, Democracy, and Liberalism, p. 5.

[17] Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 27-8.

[18] Senem Aydin, Ruşen Çakır: Political Islam in Turkey, (CEPS Working Document No. 265, April 2007), p. 11.

[19] بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص42؛ Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 40-2; Binnaz Toprak: The Religious Right, p. 635-8; Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 14.

[20] Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 45.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق