« إمبراطورية النفاق »
من مهد لها الطريق ؟!
د. عبدالعزيز كامل
عندما يتناول المهتمون بالشأن الإسلامي الكلام عن حدث إسقاط الخلافة الإسلامية في تركيا ، ويتناوبون تقليب جوانب تلك النازلة الكبرى التي لا تزال الأمة تعيش آثارها منذ ثمانين عاماً ، فلا ينبغي أن يفهم ذلك على أنه إشادة مطلقة ، أو تزكية عامة لمسلك العثمانيين في إدارة شؤون عموم المسلمين ، فلا شك أن تلك الإدارة اعتراها الكثير من المآخذ المنهجية والسلوكية ، وبخاصة في المرحلة الأخيرة من عمر تلك الخلافة الممتدة عبر خمسة قرون ، ولكن تلك المآخذ لا ينبغي أيضاً أن تأخذنا بعيداً إلى حد التهوين من شأن ما أصاب الأمة بعد حل رابطتها العالمية وكتلتها الإسلامية الدولية ممثلة في تلك الخلافة .
لقد كانت نكبة الأمة بسقوط السلطة في أيدي العلمانيين المنافقين اللادينيين بعدها في أكثر بقاع العالم الإسلامي ؛ أشد ضرراً وأنكى أثراً من سقوط الخلافة العثمانية نفسها ، حيث جسَّد أولئك المنافقون العلمانيون بعد سيطرتهم المبدأ الفاسد الكاسد بفصل الدين عن الدولة ، وأصَّلوا فرقان الشيطان بين السلطان والقرآن ، ذلك الفرقان الذي أخبر عنه النبي في قوله : «ألا إن السلطان والقرآن سيفترقان ، فلا تفارقوا الكتاب» أخرجه الطبراني في المعجم الصغير (1/264) ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (5/228 ، 238) . .
وكان هذا « الفصل » بين الدين والدولة ، أو بين الشرع والحُكم ، تضييعاً للشرع وإضعافاً للحُكم ، بل كان إضعاف الحكم بالإسلام مقدمة لإضاعة الدين والدنيا معاً ، في تتابع مستمر قابل لأن يطال كل أسس الدين وثوابت الشريعة ، كما أخبر الصادق المصدوق في قوله : «لتُنقضَنَّ عُرى الإسلام عُروة عُروة ؛ فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها ؛ فأولهن نقضاً الحُكم ، وآخرهن الصلاة» أخرجه أحمد في مسنده ، (5/251) ، و ابن حبان في صحيحه حديث (257) ، و الحاكم في المستدرك (4/92) ، وصححه الألباني ، انظر : صحيح الجامع الصغير (2/905) ، حديث (5075) . . وقد صدَّقت حقائق التاريخ المعاصر هذه النبوءة المعجزة لرسول الله ؛ فما أن يُنقَض الحكم بالإسلام في أرض ، إلا ويتسلط عليها شياطين الإنس ، فيقوضون بنيانها وينقضون عُراها بدءًا بمنصة القضاء الشرعي ، وانتهاء بإقامة الصلاة التي جعل الرسول إقامة الولاة لها في الناس فيصلاً بين شرعية ولايتهم أو عدم شرعيتها ؛ وذلك عندما سأله بعض الصحابة عن حكم أئمة الجور قائلين : «أفلا ننابذهم بالسيف ؟ قال : لا ما أقاموا فيكم الصلاة» أخرجه مسلم في صحيحه ، حديث (3447) ، (3448) ..
الأمر إذن ، ليس ولاية عبد الحميد أو وحيد أو عبد المجيد من خلفاء آل عثمان ، وإنما هو في تعبيد طريق التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ، وفي إقامة سلطان الشريعة التي لا تصلح ولا تقبل خلافة الإنسان في الأرض إلا بها : ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص : 26].
ولا يصلح تحاكم الناس في الدماء والأموال والأعراض والسياسات والعبادات والمعاملات إلا لها . ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾[المائدة : 49] .
وعندما تواطأ خبثاء العالم من الكفار والمنافقين على إسقاط سلطان الإسلام ودولته العالمية فقد كانوا على كامل اليقين أن ذلك مقدمة لانفراط منظومته كلها في البلاد التي يسقط فيها سلطانه وحكمه ، وذلك في شرائعه وشعائره ، وروابطه وضوابطه المنهجية والسلوكية التي لا يغني التغني بها عن التبني لها من نظام ( حاكم ) يُحْكم قياد العباد ، بشريعة رب العباد التي تعصمهم من الأهواء المضلة الموصلة إلى فساد الدنيا وعذاب الآخرة :﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ﴾ [الجاثية : 18-19] .
عُرى الشيطان تُنازع أوثق عُرى الإيمان :
كانت الزلة الأولى للعثمانيين في أواخر عهد دولتهم ، أن أوحى بعض المنافقين إلى بعض زخرفاً من القول ، يعدُّون به رابطة الأخوة الإسلامية غير كافية لأن تكون أساساً جامعاً لرعايا الدولة من المسلمين ، فابتدعوا تقسيم الرعايا إلى ( عثمانيين وأجانب ) ؛
فقبل إلغاء الخلافة بنحو ثمانين عاماً اتجه بعض السلاطين إلى تحويل الرابطة أو الجامعة الإسلامية إلى ( رابطة عثمانية ) وذلك عن طريق ما يسمى بـ (إعلان التنظيمات العثمانية) الصادر في عام (1255هـ) (1839م) وهو نظام وضعي مضمونه أن يُقَسَّم المسلمون إلى : مسلمين عثمانيين ، وهم رعايا ومواطنو الدولة العثمانية ، ومسلمين غير عثمانيين ، عدَّهم الإعلان ( أجانب ) !
وضَمِنَ النظام الجديد للرعايا العثمانيين كل الحقوق بغضِّ النظر عن الدين أو اللغة أو الجنس ، بينما وُضع الآخرون ( الأجانب ) من المسلمين في خانة أدنى ، وكان هذا الإعلان بداية حقيقية للتخلي عن الرابطة الإسلامية المنبثقة عن المبدأ الإسلامي العظيم ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات : 10].
كانت هذه في ذاتها نازلة تستدعي أن يقوم لها عقلاء الأمة وعلماؤها ، ليميتوها في مهدها إحقاقاً للحق وإزهاقاً للباطل ، فيعلنوا في الناس أن خلافة المسلمين لكل المسلمين ، وأن رابطة الإسلام أسمى وأعلى من كل الروابط الاسمية الأرضية العنصرية ، ولكن ذلك الإجراء مضى ، وتطاولت به السنون ، حتى تحولت النزعة « العثمانية » إلى نزعة « طورانية »(1) ،
يدَّعي أصحابها أن الطورانيين المنحدرين من آسيا الوسطى ( قوم ) متميزون ، ونشأ بذلك ما سمي بـ ( القومية الطورانية ) كرابطة بديلة للرابطة الإسلامية ، وهي التي نشأت رداً لها أو تأثراً بها ( القومية العربية ) التي رد بها جهلة العرب على جهلة الترك ، فأنشؤوا بذلك نواة للروابط الباطلة التي عدَّها الإسلام نوعاً من الجاهلية ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم للمتنازعين من المهاجرين والأنصار : «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ دعوها فإنها منتنة» أخرجه البخاري ، رقم (3257) ، (4525) ، و مسلم ، رقم (4682) ، (4683) .،
وكان ذلك عندما ضرب رجل من المهاجرين آخر من الأنصار ، فكاد الشيطان أن يوقع الفتنة بين الفريقين ، فتداعى قوم بالنصرة من الأنصار فقالوا : ( يا للأنصار ! ) وقال آخرون : ( يا للمهاجرين ! ) ، فقال لهم الرسول قوله الآنف .
المقصود هنا أن تلك الرابطة البديلة عن عُروة الإسلام ، ظل معمولاً بها ، حتى جاء السلطان عبد الحميد الثاني ( 1876 - 1909م ) فغير تلك السياسة ، وقدَّم نفسه للعالم على أنه خليفة لكل المسلمين ، وبدلاً من أن يُساند هذا التوجه المحمود من علماء الأمة وعقلائها ، إذا بهؤلاء يختلفون حول هذا الأمر ؛ فبينما أيده على ذلك وسانده كل من الشيخ جمال الدين الأفغاني ( ت 1897م ) ، والشيخ محمد عبده ( ت 1905م ) من خلال جمعية ( العروة الوثقى ) التي شكلاها لتكون أداة إعلامية لهذا التوجه ، إذا بآخرين من أمثال ( عبد الرحمن الكواكبي ) ( ت 1902م ) يأخذون توجهاً آخر ، فينادون بـ ( جامعة عربية ) وخلافة عربية !!
وصحيح أن الأصل في منصب الخلافة أن يكون عربياً ، بل قرشياً كما اتفق عليه العلماء (2)، لكن الظرف الذي كانت تعيشه الأمة وقتها لم يكن مؤهلاً للعرب أن يحكموا بقية المسلمين ؛ لأن سلطانهم الفعلي لم يكن بأيديهم ، بل كانت أكثر بلدان العرب واقعة تحت احتلال الصليبيين من بريطانيين و فرنسيين و إيطاليين .
وفي مقابل المناداة بجامعة إسلامية عربية في ذلك الوقت الحرج ، استفحل الشعور القومي الجاهلي لدى فريق من الأتراك ، فنادوا بجامعة طورانية ، تجمع الأمة الطورانية الممتدة من فنلندا إلى منشوريا في دولة واحدة .
وهنا استُبعد الميزان الإسلامي تماماً ، وبدلاً من تفضيل بعض المسلمين على بعض بغير ميزان التقوى وهو أمر منكر جاء هؤلاء الذين ساووا بين المسلمين والكفار ، لمجرد مساواتهم في الانتماء القومي .
ومنذ ذلك الحين والصراعات القومية تمزق أوصال المسلمين بعد أن نشأت بعد ذلك النعرات القومية الأخرى كالقومية الفارسية والكردية والبربرية والهندية والبشتونية والطاجيكية وغيرها ، وهي النعرات التي لعب عليها العلمانيون اللادينيون ، عرباً كانوا أو عجماً ، فأقاموا حول كل قومية طاقماً من الأصنام النظرية والعملية التي تقدم لها القرابين المادية والمعنوية ؛ فتخاض لأجلها الحروب ، وتُشكَّل لها الأحزاب ، بل وتقوم عليها الدول .
أما في تركيا نفسها ، فقد تشكل فريق ( القومية الطورانية ) لمهمة الإجهاز النهائي على الرابطة الإسلامية ، ومن ثم الخلافة الإسلامية ، وكانت جمعية ( الاتحاد والترقي ) أداتهم في ذلك ، وكانت أولى إنجازاتهم السوداء أن انقلبوا على السلطان عبد الحميد الذي أراد إعادة الاعتبار للجامعة الإسلامية ؛ وذلك في عام 1908م ، عندما قاموا بانقلاب دستوري ضده يقيد سلطاته ، فلما قام أعوانه بمحاولة لتصحيح الأوضاع ، أطاح به الكماليون .
ومن تلك اللحظة تحولت دولة الخلافة من دولة إسلامية عثمانية إلى دولة طورانية تركية ؛ حيث سيطر الطورانيون على كل أجهزة الدولة عسكرياً وإدارياً ، وسياسياً من خلال جمعية الاتحاد والترقي ، وانطلق هؤلاء إلى تطبيق سياسة ( التتريك ) لكل مظاهر الدولة ، تمهيداً للانتقال من منزلة ( القومية ) الطورانية التركية الإقليمية ، إلى ما هو أنزل منها وأدنى وهو ( الوطنية ) التركية المحلية ، وكانت تلك هي الخطوة التالية من خطوات الشيطان التي خطاها نيابة عن إبليس ، صاحب الأصل اليهودي البئيس ( مصطفى كمال أتاتورك ) .
في رأيي الشخصي أن الأمة لم تنتبه جيداً في شخص علمائها ومفكريها إلى الخطر الماحق لنازلة الدعوات القومية والوطنية الجاهلية التي طرحت بديلاً لرابطة الإسلام الجامعة عبر التاريخ بين المسلم العربي والمسلم التركي والكردي والهندي والصيني ، والتي لم تعر اهتماماً للون البشرة ، أو منطق اللسان ، أو انحدار العرق ، تلك الرابطة التي لا تزال قادرة اليوم على أن تجمع في سياق واحد ووثاق متحد ، بين المسلم الأمريكي ، والمسلم الإفريقي ، وبين المؤمن الضعيف والمؤمن القوي وبين المسلم الفقير والمسلم الغني دون أن يشعر هذا بعلو أو ذاك بدنو ، إنها الرابطة التي تقصد أكثر شعائر الإسلام وشرائعه إلى استبطان معناها واستظهار مبناها في الصلاة والزكاة والحج والجهاد وعمارة الأرض . ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات : 10].
أما العلمانية المنافقة الماجنة ، فقد أرادتها فتنة منتنة منذ أن انبعث أشقاها الضال في الأناضول ، ليقول لمن ادعى أنهم أصحاب قومه ووطنه : ( لقد آن لتركيا أن تنظر إلى مصالحها وحدها ، ولا شأن لها بالمسلمين الهنود أو العرب أو غيرهم ، لتنقذ تركيا نفسها من زعامة المسلمين).
لقد أسعد بسياساته تلك أولياءه من أعداء الله ، حتى كتب السفير البريطاني في تركيا مذكرة إلى وزير خارجية بريطانيا في ( 28/6/1910م ) : « الآن ، قد أخذ الكثيرون يعلنون أن رابطة الإسلام انفصمت ، وأن القضية أمست قضية ترك وعرب » !
أما أصحاب قومية أتاتورك الأصلية وهم اليهود الصهيونيون ، فإن مشروع فصم عُرى الإسلام ، بدءاً من حل رابطته ، وحتى إسقاط خلافته وإقصاء شريعته ، قد جرى تنفيذه بإشراف واستشراف منهم ؛ فبعد أن أخفق ( تيودور هرتزل ) مؤسس الصهيونية الحديثة في إقناع السلطان عبد الحميد بالسماح بالهجرة لليهود إلى فلسطين ، اقتنع هو أن قيام الكيان اليهودي العالمي لن يكون إلا على أنقاض الكيان الإسلامي العالمي ، وتوثق بعد ذلك الاتصال بين رواد الصهيونية اليهودية ، وأعضاء جمعية الاتحاد والترقي الماسونية الطورانية ، حتى إن اللورد ستون ، صاحب كتاب ( نشوء القومية ) في تركيا كتب يقول : ( العلامة البارزة في جمعية الاتحاد والترقي أنها غير تركية وغير إسلامية )، وقال : ( إن أصحاب العقول المحركة ورواد تلك الحركة كانوا يهوداً ، أو مسلمين من أصل يهودي ، ومواردهم المالية كانت تأتيهم عن طريق « الدونمة » ويهود سالونيكا الأثرياء ، كما كانت تأتيهم المعونات من بعض الجمعيات الدولية أو الشبيهة بالدولية من فيينا و بودابست و برلين ، وربما من باريس و لندن أيضاً ... )(3).
وبالرغم من كل ذلك ، فقد وُجد من الإسلاميين عرباً وعجماً من أشادوا بالقوميات حتى يومنا هذا ، وهي التي ولدت يهودية في شرقنا الإسلامي ، ثم تبناها صليبيون وتغريبيون في البلدان العربية على شكل أحزاب أسسها نصارى من أمثال : ( أنطون سعادة ) مؤسس الحزب القومي السوري ، و ( جورج حبش ) مؤسس حزب القوميين العرب و ( ميشيل عفلق ) ، مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي ، وكان أبرز القادة المنظرين للفكر العلماني في العالم العربي نصارى أيضاً ، من أمثال ( قسطنطين زريق ) و ( أميل البستاني ) و ( سلامة موسى ) ، ولا نستطيع أن نسمى من يسيرون على خطا هؤلاء ، ومن يسارعون فيهم إلا منافقين .
لقد أصبحت الرابطة التي تجمع - أو بالأحرى - تفرق ما بين العرب هي ( الجامعة العربية ) !!
التي أصبحت ( الراعي الرسمي ) لكل الهزائم العربية أمام اليهود و النصارى الذين وطنوا القوميات والوطنيات في بلدان المسلمين ، ثم بدؤوا هم يعودون للمنطلقات الدينية إنجيلية وتوراتية .
ومن الجدير ذكره هنا أن دعوى الوطنية حلت محل القومية في تركيا بعد أن انهزم القوميون الطورانيون في تركيا في الحرب العالمية الأولى ؛ فقد انسحب أولئك الطورانيون من قيادة تركيا بعد توقيع اتفافية الهدنة بعد الهزيمة في 30/7/ 1918م ، وهو العام الذي احتل فيه الإنجليز عاصمة دولة الخلافة ، واحتلوا أيضاً فلسطين ، ليهيئوها بعد ذلك لإقامة دولة اليهود التي ظلت مستحيلة القيام في ظل جامعة إسلامية موحدة ، ومع تخلي الطورانيين عن الحكم ، حلوا جمعيتهم المشبوهة ( الاتحاد والترقي ) ليفسح الباب بعد ذلك للوطنيين بعد القوميين ، وتزعَّم مصطفى كمال أتاتورك ذلك الاتجاه (الوثني الجديد) ، وقدم نفسه على أنه منقذ الوطن ( تركيا ) من الاستعمار ، وبدأ يُرسَم له دور قائد ( المقاومة الوطنية ) ضد الاحتلال الإنجليزي ، وشكل جمعية أسماها ( الجمعية الوطنية ) عام 1920م ، لتكون ممثلة لسلطان الأمة كما يزعم ، وهنا انقسمت السلطة في الدولة العثمانية إلى سلطة شرعية بقيادة السلطان في القسطنطينية ، وسلطة معارضة في أنقرة ، وكان الإنجليز يتعاملون مع السلطتين معاً ، ريثما تحل سلطة المعارضة ( الوطنية ) محل السلطة الشرعية الممثلة آنذاك في منصب السلطان وحيد الدين ، ولكن الصراع احتد بين السلطتين ، وضُيق على السلطان واتهم بالعمالة للإنجليز ، وقلَّ أعوانه بعد أن تغلغل الكماليون في كل أنحاء وأجزاء الدولة ، فاضطر وحيد الدين إلى مغادرة القسطنطينية ، فخلا الجو للكماليين ، وتهيأ الفضاء الإسلامي في تركيا وما يتبعها من أوطان إسلامية ، لهبوط نازلة أعتى من القوميات وأنكى من الوطنيات .. إنها العلمانية الإلحادية الصريحة التي غرَّبت الإسلام في دياره ، وجادلته في المحكمات من نصوصه وآثاره ، وأرادت بل صممت على أن تنصب خيمتها وتقيم إمبراطوريتها على ركام بلدان الإسلام في أنحاء الأرض .
خلافة البابوية :
بعد أن ابتلعت جمهرة الأمة ألعوبة العبث بعروة الأخوة الإسلامية الوثقى ، عن طريق القوميات والوطنيات ، وبعد أن تسبب ذلك في انعزال ثم زوال سلطان الخليفة الشرعي الأخير ( وحيد الدين ) سارع أتاتورك إلى تحويل الخلافة إلى ( سلطة روحية ) بعد تحويل السلطة الفعلية إلى الأمة في شكل ( البرلمان ) الذي توكل إليه على طريقة غير المسلمين كل قضايا التشريع والحكم التي لا يجوز إسنادها للبشر ، وقد تمثل ذلك فيما سماه الكماليون بـ ( الجمعية الوطنية ) التي شكلوا في مقابلها حزباً سياسياً يضمن السيطرة على قراراتها وتوجهاتها المحكومة برأي الأغلبية ، ولو كانت أغلبية المنافقين والفساق والكافرين ، وأطلق على ذلك الحزب السياسي ( الحاكم ) « جمعية الدفاع عن الأناضول »
في قصة أصبحت كل أنظمة الحكم العلماني تكررها ، فتشكل أحزاباً ( حكومية ) لضمان السيطرة على البرلمانات التي تحكم باسم الأمة ، وهي في الحقيقة تحكم باسم الحزب الحاكم ، الخاضع دوماً للفرد الحاكم ، أما الخلافة التي أخَّرت بإذن الله هيمنة النصارى واليهود على العالم الإسلامي لخمسة قرون ؛ فقد حولها أتاتورك بإيعاز وتشجيع من الإنجليز ( الذين كان يناضلهم في الظاهر ) إلى سلطة روحية على غرار سلطة ( بابا ) النصارى الكاثوليك ، مع أن هؤلاء الإنجليز البروتستانت لا يعترفون لأنفسهم بسلطة كسلطة بابا الكاثوليك ، ولو كانت روحية ، ولكنهم ارتضوا للمسلمين بأن يكون لهم ( بابا ) مؤقت ، باسم الخليفة ، حتى يحين وقت محو هذا اللقب وذلك المنصب من الوجود إلى غير رجعة .
ولما احتلت بريطانيا الأراضي التركية في نهاية الحرب العالمية الأولى ، قال السفير البريطاني ( كرزون ) لعصمت إينونو رئيس وزراء تركيا عند عقد مؤتمر الصلح في نوفمبر 1922م لما طالبه بمنح الاستقلال لتركيا : ( إننا لا نستطيع أن ندعكم مستقلين ؛ لأنكم ستكونون حينئذ نواة يتجمع حولها المسلمون مرة أخرى ، فتعود المسألة الشرقية التي عانينا منها طويلاً ) .
ولكن أتاتورك تعهد للإنجليز أن يزيل مخاوفهم ، وأبلغهم بالموافقة على أي شروط تزيل تلك المخاوف ، فاشترطوا عليه في اجتماع عقد في إبريل 1923م أربعة شروط على لسان السفير البريطاني ، عرفت بعد ذلك بشروط كرزون ، وهي :
1 - أن تقطع تركيا صلتها بالإسلام .
2 - أن تقوم بإلغاء الخلافة .
3 - أن تتعهد بالقضاء على كل حركة يمكن أن تقوم لإحياء الخلافة .
4 - أن تحل القوانين الوضعية محل الشريعة الإسلامية ، وتضع لنفسها دستوراً علمانياً مدنياً بدلاً من الدستور العثماني المستمد من قواعد الإسلام .
وبموافقة أتاتورك على تلك الشروط عقدت اتفاقية ( لوزان ) وتركت لحكومته كل الأراضي التي كانت قد سلبت من الأتراك العثمانيين ليظهروه بمظهر البطل صاحب الإنجازات !
لاحظ معي أن روح ( لوزان ) لا تزال قانوناً غير مكتوب ، يحكم العلاقة بين الكيانات العلمانية التي سارت على درب أتاتورك ، وبين دول الكفر المختلفة .
وقد حاولت بريطانيا في الوقت نفسه أن تشجع العرب على الانشقاق عن الأتراك ، لإنشاء خلافة عربية ، بشرط أن تكون ( روحية ) أيضاً ! فمرة تُمَنِّي ( الشريف حسين بن علي ) في ملك العرب جميعاً ، ومرة تتغاضى عن طموحات الملك فؤاد ملك مصر السابق في أن تكون القاهرة ( المحتلة ) عاصمة الخلافة !
فماذا كانت مواقف المسلمين ، بعلمائهم وفقهائهم ومفكريهم وأرباب الدعوة فيهم تجاه هجوم العلمانية ، ومفهوم الخلافة « الروحية » الذي انتهى إلى الفناء والإلغاء ؟!
كيف كانت منازلتهم لهذه النوازل الجديدة المناقضة لأمور معلومة من الدين بالضرورة ، وتتلخص في أن الحكم بشريعة الإسلام واجب يكفر منكره ، ويرتد جاحده ؟! ...
ماذا كان موقف علماء ذلك العصر ومفكريه من طاغية ذلك العصر المبدل للدين والمذل للمسلمين ؟!
هذه بعض إلماحات مختصرة عن تلك المواقف قبيل وبعيد قرار إلغاء الخلافة البعض منها يدل على الكل ، في ملامح مرحلة حرجة من تاريخ الأمة المعاصرة ، أسست أزماتها لكل الأزمات والنوازل بعدها ، وتشابهت المواقف من المجرمين وقتها ، من المجرمين بعدها .
ليتهم سكتوا :
- سبقت جرأة كمال أتاتورك على إعلان تحويل الخلافة إلى منصب روحي ، دراسة كان قد طلب إعدادها من فريق من ( الفقهاء ) الأتراك ، وتم صدورها في بيان فقهي تحت عنوان ( الخلافة وسلطة الأمة ) يتضمن القول بأن الخلافة مجرد مسألة سياسية صرفة ، ولا علاقة لها بالدين والاعتقاد ، ودعا إلى إرجاء الكلام فيها مطلقاً ، أو قلبها إلى مجرد سلطة روحية » .
وكان هذا الفقه الفاسد متكأ أتاتورك بعد ذلك في إلغاء الخلافة بشكل كلي .
- طرح أحد أبرز مفكري ذلك العصر ، وهو عبد الرحمن الكواكبي ( ت 1902م ) المنحدر من أصول إيرانية شيعية ، مبدأ الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية للخليفة ، بوضوح تام في كتابيه (طبائع الاستبداد) و (أم القرى) واقترح أن يكون للخليفة سلطة محددة بمنطقة الحجاز فقط ، تشبه سلطة البابا على مدينة الفاتيكان ، وقد اقتبس الكواكبي ذلك الطرح عن تيار (العثمانيين الجدد) الذين نقلوه بدورهم عن مؤلفات الأرمني النصراني (مورداجا وهسون) وقرينه (غريك سوفاس).
- أطلق رجل بحجم (أحمد شوقي) قصيدة في تبجيل أتاتورك وسماها (تكليل أنقرة وعزل الأستانة) أي تكليل الكمالية وعزل السلطان والخلافة ، وعندما ادعى أتاتورك الانتصار على اليونان في حربه التمثيلية ضدهم أطلق أحمد شوقي أبياته المشهورة :
الله أكبر كم في الفتح من عجبِ * * * يا خالد الترك جدد خالد العربِ
ولكن أحمد شوقي أسقط في يده بعد ذلك عندما فوجئ بأن(خالد الترك) بدلاً من أن يجدد خالد العرب ، فإنه بَدَدَ مجد الترك ومجد العرب .
- كان زعيم الحركة السنوسية ، من أبرز من أيدوا الفصل بين الخلافة والسلطنة ، معتبراً أن ذلك في مصلحة الإسلام ، بل إنه نشر في جريدة الأهرام المصرية ، في 28/9/1923م ، بياناً ذهب فيه إلى أن نزع السلطة المدنية من يد الخليفة سيعزز نفوذه الإسلامي ؛ لأنه سيصبح زعيماً عاماً وروحياً للأمة كلها !
- كان موقف جمال الدين الأفغاني (ت 1897م) من السلطان عبد الحميد غامضاً ؛ فبعد تأييده في إعادة الاعتبار لمفهوم (الجامعة الإسلامية) بدأ يطالبه بأشياء مثيرة للشكوك ، كأن يطالبه بتعريب الأتراك ، ونقل عاصمة الخلافة إلى عاصمة أخرى .
وجمال الدين الأفغاني ليس أفغانياً بل إيراني شيعي (على الراجح)، كما أكد الشيخ مصطفى عبد الرازق في تقديمه لمقالات مجلة (العروة الوثقى)والكاتب (قدري قلعجي) في كتاب نشر له عام 1951م يتناول سيرة الأفغاني و محمد عبده و سعد زغلول .
وسيرة الأفغاني المملوءة بالتقية الشيعية انعكست على طريقة تعامله مع مسألة الخلافة الإسلامية ، وهو ما جعل السلطان عبد الحميد يرتاب منه وينأى عنه .
- وقف التيار الجهادي المغربي موقفاً غريباً من أزمة الخلافة ؛ فقد عارض عبد الكريم الخطابي ( 1881 - 1962م ) الدعوة لإعادة الخلافة بعد إلغائها وكانت تعليمات الخطابي لمندوبه في مؤتمر إعادة الخلافة ألا يؤيد أي مرشح لها (4) .
وبالرغم مما قامت به حركة الخطابي من بطولات فذة ، أفقدت الأسبان و الفرنسيين صوابهم وأجبرتهم على الانسحاب من أكثر الأراضي المغربية التي احتلوها ، فإن ذلك الموقف من الخلافة التي قامت بعد خلافة الأندلس التي كانت المغرب إحدى حواضرها الزاهرة ، كان غريباً في وقته ، وحتى لو كانت لحركة عبد الكريم الخطابي قضاياها الخاصة الكبيرة وهذا ما كان بالفعل فإن من غير المفهوم أن يكون الجهاد في إحدى البقع الإسلامية صارفاً ولو وجدانياً عن المشاركة في النوازل الجماعية التي تنعكس على مجمل أوضاع الأمة .
- وفي الجزائر كان للشيخ عبد الحميد بن باديس زعيم الإسلاميين في الجزائر في ذلك الوقت ومؤسس (جمعية علماء الإسلام) التي أضاءت سماء الجزائر بالعلم النافع والتجديد المتسارع موقف مغاير من أتاتورك خالف به جمهور الإسلاميين ؛ إذ نظر إليه على أنه « أعظم رجل عرفته البشرية في تاريخها الحديث » !!
وقال عنه : « إنه عبقري من أعظم عباقرة الشرق الإسلامي كله » ووصفه بأنه « محيي الشرق الذي غيّر مجرى التاريخ »
ولم يعد ابن باديس أتاتورك متهماً بالقضاء على مكانة الإسلام ، بل جعل له ( شرف ) القضاء على ( أصحاب العمائم ) الذين أضروا بالإسلام !!
ورأى ابن باديس أن الخلافة خيال غير قابل للتطبيق ؛ وأنه لا يمثله في الحقيقة إلا مؤسسة من ( أهل الحل والعقد ) التي يتصورها مرجعية دينية أدبية ، بعيدة كل البعد عن السياسة والتدخل في شؤون الحكومات ، وكان لا يتصور الخلافة نظاماً إسلامياً شرعياً ، ولكن يتصور بدلاً منها عالمية إسلامية ثقافية !(5).
قد تكون لحركة ابن باديس ظروفها الموضوعية وتقديراتها الخاصة لما جرى في تركيا ، وقد تكون للشيخ مآخذه على منهج خلفاء آل عثمان ، ولكن ذلك لا يعني بحال أن يكون الطاغية ( أتاتورك ) محلاً لهذا الاحتفاء والمدح رداً على ما يُرى في العثمانيين من مثالب وقدح .
- وفي مصر التي كانت تحت الاحتلال الإنجليزي في ذلك الوقت ، نشأ اختلاف حاد تجاه ما أحدثه أتاتورك ، بلغت حدته أن عده بعضهم مرتداً ، واعتبره آخرون مجدداً ، وبلغ اللغط قمته عندما أصدر الشيخ علي عبد الرازق كتابه الصاعق (الإسلام وأصول الحكم) فصاغ فيه أفكار الليبرالية العلمانية بلغة أزهرية ، تلبيساً منه وتدليساً ، وكان عبد الرازق قد تلقى قسطاً من تعليمه في جامعة أكسفورد ، وأسبغ عليه منصبه في القضاء وزناً أدبياً جعل مؤلفه فتنة في وقته ؛ حيث زعم فيه أن الإسلام دين وعبادة فقط ، ولا دخل له بالحكم ولا السياسة ، وبناء عليه فلا أساس لمشروعية منصب الخلافة ، ولا صحة لوجود شيء اسمه الحكم الإسلامي حتى في عهد الرسالة ؛ حيث كان الرسول كما زعم عبد الرازق مجرد مبلِّغ للدين والرسالة ، وقد عرض كتابه على ( طه حسين ) داعية التغريب الملقب بـ ( عميد الأدب العربي ) فأضاف طه إضافات على كتاب عبد الرازق زادته ظلمات فوق ظلمات .
- في خضم هذا اللغط المخلط للمفاهيم ، كان الشيخ مصطفى صبري ( 1869 - 1954م ) آخر شيوخ الإسلام المفتين في الدولة العثمانية قد أصدر كتاباً بعنوان : (الرد على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة) فكان صوتاً صادقاً صادعاً بالحق في وجه تغول الفكر العلماني وهجمته الانتهازية على أصول الإسلام من خلال تآمرهم على صرحه الباقي وحصنه الأخير .
وكان الشيخ أيضاً ممن اغتر بدعاوى الإصلاح التي رفعها الاتحاديون ، فشارك في تأييد خلع السلطان عبد الحميد في مجلس ( المبعوثان ) على غير إدراك لأبعاد تآمر هؤلاء الاتحاديين على تركيا والعالم الإسلامي كله ، ولما تبينت له تلك الأبعاد قال نادماً : ( أيدت خلع السلطان عبد الحميد ، وبعد ستة أشهر تبين لي أن ثقله السياسي كان يساوي ثقل أعضاء مجلس المبعوثان جميعاً ويزيد ) .. وبدأ بعد ذلك في الكشف عن حقيقة الكماليين التي اتضحت له ، وهاجم أتاتورك في أوج تألقه والتفاف الناس حوله ، وألف في الرد على من أيدوا اتجاهه المنحرف ، وبخاصة علي عبد الرازق ، حيث فند شبهاته وأبطل دعاويه .
- أما بالنسبة للأزهر كأعلى مؤسسة علمية إسلامية في ذلك الوقت فقد فوجئ علماؤه بكارثة إلغاء الخلافة ، وفوجئوا كذلك بمسارعة الحسين بن علي إلى الدعوة لنفسه بالخلافة دون مشورة من بقية المسلمين ، كما كانت مفاجأة لشيخ الأزهر في ذلك الوقت (محمد أبو الفضل الجيزاوي) أن يرشح الملك فؤاد ، ملك مصر الأسبق نفسه لهذا المنصب بعد أن دعاه إلى ذلك حفيد الأمير عبد القادر الجزائري ، فطلب منه أن يعلن نفسه خليفة ، ويجعل من القاهرة عاصمة جديدة للخلافة ، وكان لهذه الدعوة أنصار في مصر ، كما كان لها معارضون مغالون في المعارضة ، وعلى رأسهم الأحزاب العلمانية الناشئة ، كحزب الأحرار الدستوريين و حزب الوفد .
- ثارت دعوة من خلال الأزهر لعقد مؤتمر إسلامي عام لمناقشة مسألة الخلافة الإسلامية ، كان من ورائها دفع من قصر الحكم في مصر .
وكان واضحاً أن للملك فؤاد رغبة في أن يصبح خليفة للمسلمين ، فقوبلت هذه الرغبة من معارضيه السياسيين أشد المعارضة ، وكانت معارضة شخصية سياسية أكثر منها دينية ، ونجح هؤلاء المعارضون السياسيون في أن يقحموا السياسة في الدين على عكس مبدئهم المشهور ( لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة ) فهنا فقط أدخلوا السياسة في الدين ، وأغروا بعض المشايخ كما حدث من علي عبد الرازق ، بأن يصيغوا هذا الرأي السياسي المعارض صياغة دينية ، فجاء هذا الكتاب الكارثة ، على تلك الخلفية السياسية الشخصية الانتهازية .
- تزعم حزب الأحرار الدستوريين ( العلماني ) المعركة ضد الخلافة ، لا اعتراضاً على شخص الملك فؤاد فقط ، بل رفضاً لمسألة الخلافة من أساسها لا بل رفضاً لحكم الشريعة بالمرة ، فقد كان ذلك الحزب رافضاً لأن ينص الدستور المصري لعام 1923م على أن الإسلام هو دين الدولة ، وكانت اللجنة المشكلة لوضع هذا الدستور كلها من أعضاء ذلك الحزب ، وكان حزب ( الأحرار ) هذا مدعوماً من الإنجليز ، وكان ينافسه في العمل الحزبي ، حزب الوفد الليبرالي العلماني أيضاً ، ولكنهما مع اختلافهما الشديد الذي وصل إلى حد العداوة ، اتفقا على معارضة عودة الخلافة .
- أما المؤتمر المدْعُو له لبحث النازلة العامة بحثاً عاماً فقد تنادى للاستجابة له علماء شرعيون كثيرون ، وقد كان هذا الأمر جيداً في وقته ؛ فأن يبت علماء الأمة في شأن عظيم من شؤونها في مؤتمر عام أمر يحمد لهذا الجيل ، ويحسب في رصيده ، أما ما لم يحمد فهو أن ذلك المؤتمر قد انتهى إلى طريق مسدود ؛ فقد عقد ذلك المؤتمر في التاسع عشر من شعبان سنة 1343هـ الموافق 25/3/1924م ، أي في السنة نفسها التي أعلن مصطفى كمال أتاتورك فيها إلغاء الخلافة ، وبالرغم من أنه عقد لبحث قضية إسلامية عالمية ، فقد غلبت عليه الصفة الإقليمية ، فجُل العلماء المجتمعين على فضلهم لا يمثلون إلا العلماء الرسميين الذين ينتمون إلى البلد التي يقودها ذلك الملك المرشح للخلافة وهي مصر .
- انتهى مؤتمر النازلة الكبرى بعد بحث طويل إلى مقررات تتلخص في تقرير شرعية منصب الخلافة وطرق انعقادها ودعائم بقائها وأسباب زوالها عن الشخص المعقودة به ، ليخلص التقرير الصادر عن المؤتمر من ذلك إلى أن عزل كمال أتاتورك للسلطان وحيد الدين عن الخلافة جاء لأسباب ارتضاها المسلمون الذين كانوا يدينون لخلافته ، ثم أشار التقرير إلى الخطوة الثانية من خطوات أتاتورك ، وهي تحويل الخلافة إلى خلافة روحية في شخص السلطان عبد المجيد ، وبيَّن أن ذلك الفعل من المجلس الوطني التركي ( بدعة ) ما كان المسلمون يعرفونها من قبل ، لكن التقرير نبه على أن خلافة عبد المجيد على هذا الشكل ليست شرعية ، وأن البيعة له بشرط أن يكون معزولاً عن السياسة لم تكن صحيحة أصلاً ، وحتى لو كانت صحيحة فإن عبد المجيد لم يكن يملك النفوذ والقوة المشترطة فيمن يتولى الخلافة ، لهذا فإنه ليست له بيعة في أعناق المسلمين لزوال المقصود من تنصيبه شرعاً ، واعتبر التقرير أنه ( ليس من الحكمة ولا مما يلائم شرف الإسلام والمسلمين أن ينادوا ببقاء بيعة في أعناقهم لشخص لا يملك الإقامة في بلده ، ولا يملكون هم تمكينه منها ) .
إذن فما هو الحل ؟!
حاول المؤتمرون أن يسوِّغوا العجز عن تقديم مبادرة لحل الأزمة ، بأن « العالم الإسلامي أصبح في أزمة بسبب الضجة التي أحدثها الكماليون في تركيا بإلغائهم منصب الخلافة ، وجعلوا هذا الاضطراب سبباً في أن « لا يتمكن المسلمون معه من البت في تكوين رأي ناضج في مسألة الخلافة ، ولا في من يصح أن يكون خليفة لهم »
ومن أجل هذا دعا مؤتمر الأزهر إلى عقد مؤتمر أوسع : « لهذه الأسباب نرى أنه لا بد من عقد مؤتمر ديني إسلامي يُدعى إليه ممثلو جميع الأمم الإسلامية للبت فيما يجب أن تسند إليه الخلافة الإسلامية ، وتكون بمدينة القاهرة ، تحت رئاسة شيخ الإسلام بالديار المصرية ، على أن يعقد في شهر شعبان من 1343هـ مارس 1925م » أي بعد مرور عام كامل من المؤتمر الأول !!
ولم ينس المؤتمرون قبل أن يطووا أوراقهم أن يوجهوا الشكر للأمم غير الإسلامية (الكافرة) التي «راعت» ظروف المسلمين في هذا الظرف العصيب ، فلم تتدخل في شؤونهم .. « نعلن شكرنا للأمم التي تدين بأديان أخرى غير الدين الإسلامي ، ولدول تلك الأمم على ما أظهروه إلى الآن من ابتعادهم عن التدخل في شؤون الخلافة الإسلامية ، ونرجو منهم أن يلاحظوا أن مسألة الخلافة مسألة إسلامية محضة لا يجوز أن تتعدى دائرتها ، ولا يهتم بها أحد من غير أهلها » !
ولنا ملاحظات وتساؤلات على ذلك المؤتمر ، وهي : هل كان المؤتمرون لا يعلمون شيئاً عن الدور الذي لعبته دول الأمم ( التي لا تدين بالإسلام ) في ترتيب خطوات إسقاط الخلافة بأشكال مباشرة وغير مباشرة ؟ ..
وهل كانت وظيفة المؤتمر فقط أن يضفي شرعية على عزل السلطان عبد المجيد ؟
وكيف لم يكن الحكم الشرعي في العلمانية المطروحة بديلاً للخلافة موضوعاً ضمن مقررات المؤتمر ؟
وكيف نجح العلمانيون في أن يؤثروا على توصيات المؤتمر بحيث لا يشير أي إشارة إلى حل بديل في قضية الخلافة ؟
المؤتمر إذن لم ينجح ، وأرجأ إعلان عدم نجاحه إلى عام قادم يعقد فيه المؤتمر الثاني لبحث ( النازلة الكبرى )
المؤتمر الثاني الموعود :
عندما جاء وقت انعقاد المؤتمر الموعود ، تأجل مرة أخرى لعام آخر ؛ لأن (الظروف غير مناسبة) وكانت تلك المدة كافية لأن تثيرحول مفهوم الخلافة الكثير من التوترات والمهاترات التي من شأنها (حتى من ناحية نفسية) أن تقلل الحماس وتضعف العزيمة ، ولا شك أن العلمانيين الأوائل في مصر ومن خُدعوا بهم ، كان عليهم الجرم الأكبر في ذلك سواء كانوا من أصحاب ( الطرابيش ) أو ( أصحاب العمائم ) ، حيث عمل هؤلاء وهؤلاء ، من حيث يعلمون أو لا يعلمون على تحقيق غرض الإنجليز الواضح في تضييع الوقت ، وتمييع القضايا ، وتوسيع الصراع بين الأطراف في قضايا جانبية بعيداً عن القضية الأصلية ، ولما جاء أوان انعقاد ( مؤتمر الخلافة ) بعد عامين من سقوطها ، تحول ذلك المؤتمر إلى مواجهات بين أنصار الإبقاء على الخلافة بشكلها المعروف في الشرع ، وبين من رأوا إدخال ( تعديلات ) عليها ، وثارت مواجهات أخرى أشد بين أنصار تنصيب ( الملك فؤاد ) خليفة ، وبين أنصار تنصيب ( الحسين بن علي ) خليفة .
ولأن المؤتمر عقد في مصر ، وبدعوة من حزب الاتحاد التابع للملك ، فقد كان من الطبيعي أن يفقد المؤتمر صفته العالمية ، بل حتى على المستوى المحلي ذاته فقد انقسم علماء الأزهر أنفسهم حول استحقاق الملك لمنصب الخلافة ، وكان على رأس المعارضين في ذلك شيخ الأزهر نفسه ( محمد أبو الفضل الجيزاوي ) الذي رأى أن القاهرة لا تصلح لأن تكون عاصمة لدولة خلافة جديدة ، وهي لا تزال تحت احتلال الإنجليز .
لقد أسس هذا المؤتمر (الإسلامي الرسمي العالمي) لعادة أصبحت عُرفاً بعد ذلك في كل ما يماثله من مؤتمرات ، وهي اختصار المسافات بالقفز فوق الخلافات بدلاً من علاجها ، فقرر المؤتمر المنتظر (والمؤجل لعامين) تأجيل البت في مسألة الخلافة ( لظروف أنسب ) في مؤتمرات لاحقة ، دون أن يعينوا لها زماناً أو مكاناً !! ، وكان من مسوغات تأجيل البت في ( مسألة ) الخلافة في ذلك المؤتمر ، أن الحضور رأوا أن « العالم الإسلامي أصبح ممزقاً ، وأن النزعة القومية بدأت تسيطر عليه » !!
لا ينبغي أن ننسى في هذا السياق أن المؤتمر كان للعلماء ، وليس للساسة والزعماء ، ولهذا كانت تسويغاته للفشل عذراً أقبح من ذنب ؛ إذ إنها جعلت الآفة التي جاءت لمعالجتها سبباً في ترك النظر في العلاج ، كما يُترك المريض حتى يموت بدعوى أن حالته الصحية ليست جيدة !! وقد رسَّخ المؤتمر إخفاق قادة الأمة (المفترضين) في تجاوز المحنة ، ولو بشكل نظري يضع الأمور في نصابها ويوقف العابثين بتراث الأمة ومصيرها عند حدهم ، وكما أسبغ المؤتمر الأول مشروعية ضمنية على جريمة أتاتورك في عزل عبد المجيد بعد تجريده من مقاليد الحُكم ، فقد أضفى المؤتمر الثاني نوعاً من التطبيع على هيمنة العلمانية ، بفتح الطريق أمامها بغير قصد لأن تمسك هي بزمام الأمة ، فيتحول غربانها من المنافقين وثعالبها من الأفاكين إلى (أهل حل وعقد ) في مجالس الزور المسماة بـ ( البرلمانات ) .
ومنذ ذلك العهد بدأت المعركة الحقيقية بين الإسلام وغريمه الأكبر في ذلك العصر ( العلمانية ) ...
تلك الأداة الطيعة في أيدي كل أعداء الأمة ، من يهود و نصارى و ملحدين ، فما نفذ هؤلاء وهؤلاء إلى صميم حصون الأمة إلا على ظهور منافقيها ، وما نالوا من دمائها وأموالها وأعراضها بمثل ما فُعل على أيدي سفاحيهم وسفاكيهم .
ولهذا فإن التاريخ المعاصر يحتاج لإعادة كتابة يرصد فيها دور حزب المنافقين المعاصرين ، في التغرير بالأمة لنحو مئة عام متواصلة ، قامت خلالها لهم إمبراطورية كبرى ، هي (إمبراطورية النفاق) التي تضم كياناتهم المتعددة القائمة على إزاحة سلطان الإسلام لصالح سلطان الشيطان .
لكن نقطة بيضاء ناصعة :
نورت آفاق المواقف من نازلة إلغاء الخلافة ، كان يمثلها موقف عدد من العلماء الأحرار ، أمثال : الشيخ مصطفى صبري ، والشيخ أحمد شاكر ، والشيخ محمد بخيت المطيعي ، والشيخ محمد الخضر حسين ، فقد كان لكل منهم صولات وجولات في المنافحة عن حقائق الدين وحرماته أمام تلك الهجمة ، ويذكر هنا بوجه خاص الدور العظيم الذي قام به الشيخ محمد رشيد رضا ، حيث أثار مناقشات فقهية حول مفهوم الخلافة الروحية في مجلته ( المنار ) في أعداد متتابعة ، ثم جمعها في كتاب بعنوان ( الخلافة أو الإمامة العظمى ) وكان رأي رشيد من أرشد الآراء المعلنة في تلك الحقبة المظلمة ؛ حيث كانت خلاصة رأيه في مقالاته وكتابه أن الخلافة مسألة شرعية ، وأن نصب الأمة للإمام واجب شرعاً ، وأنها تأثم كلها بترك هذا الواجب ، وتعد حياتها وميتتها جاهلية مع ترك هذا الواجب(6).
وكان كتاب رشيد رضا رداً على كتاب ( الخلافة وسلطة الأمة ) الذي أعده بعض شيوخ تركيا بأمر أو تآمر من مصطفى كمال أتاتورك ، وجاء هذا الموقف المعارض لأتاتورك وشيوخه ، بعد مرحلة من التأييد والتشجيع ، خُدع فيها رشيد رضا - رحمه الله - بشعارات أتاتورك فيمن خُدع ، حتى إنه راهن عليه في إصلاح أحوال الأمة انطلاقاً من تركيا ، وطالبه بتشكيل ما أسماه ( حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل ) ليكون ممثلاً لفكر أستاذه محمد عبده ، ولكنه اكتشف زيف دعاوى أتاتورك بعد ذلك فاتخذ منه الموقف الشرعي الصحيح ، ودعا الشيخ رشيد جاهداً إلى إعادة تأسيس الخلافة على أصول صحيحة ، بل إنه وكما يظهر من بعض كلماته في تفسير المنار ، حاول أن يسلك مسلكاً عملياً لأجل الوصول إلى ذلك الغرض الشرعي بتشكيل فريق عمل يسعى لإعادة الخلافة .
وكانت محاولات الشيخ محمد رشيد رضا لمنازلة تلك النازلة ، هي أول تحرك مبكر للتصدي لتلك المحن ، تطور بعد ذلك على شكل جماعات وحركات وهيئات وجمعيات ، قامت من أجل العمل لاستئناف الحياة الإسلامية ... فهل أدت هذه وتلك الأدوار المناطة بها ؟ .. إن لذلك قصة أخرى ، أرجو أن تتوفر لمناقشتها فرصة أخرى .
=====================
(1) الطورانية هي : دعوة تنادي بتوحيد الشعوب الناطقة بإحدى اللغات التي تنتمي للغة التركية ، وهذه الشعوب تمتد كما يقولون من بحر الأدرياتيك وحتى سور الصين العظيم ، وأول من نفخ في كير الدعوى الطورانية العنصرية ، الكاتب الفرنسي اليهودي (ليون كوهون) ؛ حيث كتب يقول : (إن الطورانيين كانوا فيما مضى شعباً ذكياً ممتازاً ، لكن أخذ بالتقهقر والانحلال عندما تخلى عن الخصائص التي تميز بها في صحاري آسيا الوسطى واعتنق الإسلام ديناً وحضارة) ، ومن الطرائف أن مؤلف كتاب (التركية والاتحاد التركي) (تكين ألب) الذي أسس للنعرة الطورانية ، هو يهودي اسمه الحقيقي (ألبرت كوهين) .
(2) انظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى ، ص 5 - 6 ، والأحكام السلطانية للماوردي ، ص 5 وشرح صحيح مسلم ، للنووي ، (12/200) .
(3) نشوء القومية في تركيا ، تأليف ورد ستون ، ص 135 - 136 .
(4) انظر : الدولة والخلافة في الخطاب العربي إبان الثورة الكمالية ، الدكتور وجيه كوثراني، ص 26 .
(5) انظر : الإسلام والعروبة والعلمانية ، الدكتور محمد عمارة ، ص 163 - 165 .
(6) راجع ذلك في كتابه (الإمامة العظمى) .
الأمر إذن ، ليس ولاية عبد الحميد أو وحيد أو عبد المجيد من خلفاء آل عثمان ، وإنما هو في تعبيد طريق التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ، وفي إقامة سلطان الشريعة التي لا تصلح ولا تقبل خلافة الإنسان في الأرض إلا بها : ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص : 26].
ولا يصلح تحاكم الناس في الدماء والأموال والأعراض والسياسات والعبادات والمعاملات إلا لها . ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾[المائدة : 49] .
وعندما تواطأ خبثاء العالم من الكفار والمنافقين على إسقاط سلطان الإسلام ودولته العالمية فقد كانوا على كامل اليقين أن ذلك مقدمة لانفراط منظومته كلها في البلاد التي يسقط فيها سلطانه وحكمه ، وذلك في شرائعه وشعائره ، وروابطه وضوابطه المنهجية والسلوكية التي لا يغني التغني بها عن التبني لها من نظام ( حاكم ) يُحْكم قياد العباد ، بشريعة رب العباد التي تعصمهم من الأهواء المضلة الموصلة إلى فساد الدنيا وعذاب الآخرة :﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ﴾ [الجاثية : 18-19] .
عُرى الشيطان تُنازع أوثق عُرى الإيمان :
كانت الزلة الأولى للعثمانيين في أواخر عهد دولتهم ، أن أوحى بعض المنافقين إلى بعض زخرفاً من القول ، يعدُّون به رابطة الأخوة الإسلامية غير كافية لأن تكون أساساً جامعاً لرعايا الدولة من المسلمين ، فابتدعوا تقسيم الرعايا إلى ( عثمانيين وأجانب ) ؛
فقبل إلغاء الخلافة بنحو ثمانين عاماً اتجه بعض السلاطين إلى تحويل الرابطة أو الجامعة الإسلامية إلى ( رابطة عثمانية ) وذلك عن طريق ما يسمى بـ (إعلان التنظيمات العثمانية) الصادر في عام (1255هـ) (1839م) وهو نظام وضعي مضمونه أن يُقَسَّم المسلمون إلى : مسلمين عثمانيين ، وهم رعايا ومواطنو الدولة العثمانية ، ومسلمين غير عثمانيين ، عدَّهم الإعلان ( أجانب ) !
وضَمِنَ النظام الجديد للرعايا العثمانيين كل الحقوق بغضِّ النظر عن الدين أو اللغة أو الجنس ، بينما وُضع الآخرون ( الأجانب ) من المسلمين في خانة أدنى ، وكان هذا الإعلان بداية حقيقية للتخلي عن الرابطة الإسلامية المنبثقة عن المبدأ الإسلامي العظيم ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات : 10].
كانت هذه في ذاتها نازلة تستدعي أن يقوم لها عقلاء الأمة وعلماؤها ، ليميتوها في مهدها إحقاقاً للحق وإزهاقاً للباطل ، فيعلنوا في الناس أن خلافة المسلمين لكل المسلمين ، وأن رابطة الإسلام أسمى وأعلى من كل الروابط الاسمية الأرضية العنصرية ، ولكن ذلك الإجراء مضى ، وتطاولت به السنون ، حتى تحولت النزعة « العثمانية » إلى نزعة « طورانية »(1) ،
يدَّعي أصحابها أن الطورانيين المنحدرين من آسيا الوسطى ( قوم ) متميزون ، ونشأ بذلك ما سمي بـ ( القومية الطورانية ) كرابطة بديلة للرابطة الإسلامية ، وهي التي نشأت رداً لها أو تأثراً بها ( القومية العربية ) التي رد بها جهلة العرب على جهلة الترك ، فأنشؤوا بذلك نواة للروابط الباطلة التي عدَّها الإسلام نوعاً من الجاهلية ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم للمتنازعين من المهاجرين والأنصار : «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ دعوها فإنها منتنة» أخرجه البخاري ، رقم (3257) ، (4525) ، و مسلم ، رقم (4682) ، (4683) .،
وكان ذلك عندما ضرب رجل من المهاجرين آخر من الأنصار ، فكاد الشيطان أن يوقع الفتنة بين الفريقين ، فتداعى قوم بالنصرة من الأنصار فقالوا : ( يا للأنصار ! ) وقال آخرون : ( يا للمهاجرين ! ) ، فقال لهم الرسول قوله الآنف .
المقصود هنا أن تلك الرابطة البديلة عن عُروة الإسلام ، ظل معمولاً بها ، حتى جاء السلطان عبد الحميد الثاني ( 1876 - 1909م ) فغير تلك السياسة ، وقدَّم نفسه للعالم على أنه خليفة لكل المسلمين ، وبدلاً من أن يُساند هذا التوجه المحمود من علماء الأمة وعقلائها ، إذا بهؤلاء يختلفون حول هذا الأمر ؛ فبينما أيده على ذلك وسانده كل من الشيخ جمال الدين الأفغاني ( ت 1897م ) ، والشيخ محمد عبده ( ت 1905م ) من خلال جمعية ( العروة الوثقى ) التي شكلاها لتكون أداة إعلامية لهذا التوجه ، إذا بآخرين من أمثال ( عبد الرحمن الكواكبي ) ( ت 1902م ) يأخذون توجهاً آخر ، فينادون بـ ( جامعة عربية ) وخلافة عربية !!
وصحيح أن الأصل في منصب الخلافة أن يكون عربياً ، بل قرشياً كما اتفق عليه العلماء (2)، لكن الظرف الذي كانت تعيشه الأمة وقتها لم يكن مؤهلاً للعرب أن يحكموا بقية المسلمين ؛ لأن سلطانهم الفعلي لم يكن بأيديهم ، بل كانت أكثر بلدان العرب واقعة تحت احتلال الصليبيين من بريطانيين و فرنسيين و إيطاليين .
وفي مقابل المناداة بجامعة إسلامية عربية في ذلك الوقت الحرج ، استفحل الشعور القومي الجاهلي لدى فريق من الأتراك ، فنادوا بجامعة طورانية ، تجمع الأمة الطورانية الممتدة من فنلندا إلى منشوريا في دولة واحدة .
وهنا استُبعد الميزان الإسلامي تماماً ، وبدلاً من تفضيل بعض المسلمين على بعض بغير ميزان التقوى وهو أمر منكر جاء هؤلاء الذين ساووا بين المسلمين والكفار ، لمجرد مساواتهم في الانتماء القومي .
ومنذ ذلك الحين والصراعات القومية تمزق أوصال المسلمين بعد أن نشأت بعد ذلك النعرات القومية الأخرى كالقومية الفارسية والكردية والبربرية والهندية والبشتونية والطاجيكية وغيرها ، وهي النعرات التي لعب عليها العلمانيون اللادينيون ، عرباً كانوا أو عجماً ، فأقاموا حول كل قومية طاقماً من الأصنام النظرية والعملية التي تقدم لها القرابين المادية والمعنوية ؛ فتخاض لأجلها الحروب ، وتُشكَّل لها الأحزاب ، بل وتقوم عليها الدول .
أما في تركيا نفسها ، فقد تشكل فريق ( القومية الطورانية ) لمهمة الإجهاز النهائي على الرابطة الإسلامية ، ومن ثم الخلافة الإسلامية ، وكانت جمعية ( الاتحاد والترقي ) أداتهم في ذلك ، وكانت أولى إنجازاتهم السوداء أن انقلبوا على السلطان عبد الحميد الذي أراد إعادة الاعتبار للجامعة الإسلامية ؛ وذلك في عام 1908م ، عندما قاموا بانقلاب دستوري ضده يقيد سلطاته ، فلما قام أعوانه بمحاولة لتصحيح الأوضاع ، أطاح به الكماليون .
ومن تلك اللحظة تحولت دولة الخلافة من دولة إسلامية عثمانية إلى دولة طورانية تركية ؛ حيث سيطر الطورانيون على كل أجهزة الدولة عسكرياً وإدارياً ، وسياسياً من خلال جمعية الاتحاد والترقي ، وانطلق هؤلاء إلى تطبيق سياسة ( التتريك ) لكل مظاهر الدولة ، تمهيداً للانتقال من منزلة ( القومية ) الطورانية التركية الإقليمية ، إلى ما هو أنزل منها وأدنى وهو ( الوطنية ) التركية المحلية ، وكانت تلك هي الخطوة التالية من خطوات الشيطان التي خطاها نيابة عن إبليس ، صاحب الأصل اليهودي البئيس ( مصطفى كمال أتاتورك ) .
في رأيي الشخصي أن الأمة لم تنتبه جيداً في شخص علمائها ومفكريها إلى الخطر الماحق لنازلة الدعوات القومية والوطنية الجاهلية التي طرحت بديلاً لرابطة الإسلام الجامعة عبر التاريخ بين المسلم العربي والمسلم التركي والكردي والهندي والصيني ، والتي لم تعر اهتماماً للون البشرة ، أو منطق اللسان ، أو انحدار العرق ، تلك الرابطة التي لا تزال قادرة اليوم على أن تجمع في سياق واحد ووثاق متحد ، بين المسلم الأمريكي ، والمسلم الإفريقي ، وبين المؤمن الضعيف والمؤمن القوي وبين المسلم الفقير والمسلم الغني دون أن يشعر هذا بعلو أو ذاك بدنو ، إنها الرابطة التي تقصد أكثر شعائر الإسلام وشرائعه إلى استبطان معناها واستظهار مبناها في الصلاة والزكاة والحج والجهاد وعمارة الأرض . ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات : 10].
أما العلمانية المنافقة الماجنة ، فقد أرادتها فتنة منتنة منذ أن انبعث أشقاها الضال في الأناضول ، ليقول لمن ادعى أنهم أصحاب قومه ووطنه : ( لقد آن لتركيا أن تنظر إلى مصالحها وحدها ، ولا شأن لها بالمسلمين الهنود أو العرب أو غيرهم ، لتنقذ تركيا نفسها من زعامة المسلمين).
لقد أسعد بسياساته تلك أولياءه من أعداء الله ، حتى كتب السفير البريطاني في تركيا مذكرة إلى وزير خارجية بريطانيا في ( 28/6/1910م ) : « الآن ، قد أخذ الكثيرون يعلنون أن رابطة الإسلام انفصمت ، وأن القضية أمست قضية ترك وعرب » !
أما أصحاب قومية أتاتورك الأصلية وهم اليهود الصهيونيون ، فإن مشروع فصم عُرى الإسلام ، بدءاً من حل رابطته ، وحتى إسقاط خلافته وإقصاء شريعته ، قد جرى تنفيذه بإشراف واستشراف منهم ؛ فبعد أن أخفق ( تيودور هرتزل ) مؤسس الصهيونية الحديثة في إقناع السلطان عبد الحميد بالسماح بالهجرة لليهود إلى فلسطين ، اقتنع هو أن قيام الكيان اليهودي العالمي لن يكون إلا على أنقاض الكيان الإسلامي العالمي ، وتوثق بعد ذلك الاتصال بين رواد الصهيونية اليهودية ، وأعضاء جمعية الاتحاد والترقي الماسونية الطورانية ، حتى إن اللورد ستون ، صاحب كتاب ( نشوء القومية ) في تركيا كتب يقول : ( العلامة البارزة في جمعية الاتحاد والترقي أنها غير تركية وغير إسلامية )، وقال : ( إن أصحاب العقول المحركة ورواد تلك الحركة كانوا يهوداً ، أو مسلمين من أصل يهودي ، ومواردهم المالية كانت تأتيهم عن طريق « الدونمة » ويهود سالونيكا الأثرياء ، كما كانت تأتيهم المعونات من بعض الجمعيات الدولية أو الشبيهة بالدولية من فيينا و بودابست و برلين ، وربما من باريس و لندن أيضاً ... )(3).
وبالرغم من كل ذلك ، فقد وُجد من الإسلاميين عرباً وعجماً من أشادوا بالقوميات حتى يومنا هذا ، وهي التي ولدت يهودية في شرقنا الإسلامي ، ثم تبناها صليبيون وتغريبيون في البلدان العربية على شكل أحزاب أسسها نصارى من أمثال : ( أنطون سعادة ) مؤسس الحزب القومي السوري ، و ( جورج حبش ) مؤسس حزب القوميين العرب و ( ميشيل عفلق ) ، مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي ، وكان أبرز القادة المنظرين للفكر العلماني في العالم العربي نصارى أيضاً ، من أمثال ( قسطنطين زريق ) و ( أميل البستاني ) و ( سلامة موسى ) ، ولا نستطيع أن نسمى من يسيرون على خطا هؤلاء ، ومن يسارعون فيهم إلا منافقين .
لقد أصبحت الرابطة التي تجمع - أو بالأحرى - تفرق ما بين العرب هي ( الجامعة العربية ) !!
التي أصبحت ( الراعي الرسمي ) لكل الهزائم العربية أمام اليهود و النصارى الذين وطنوا القوميات والوطنيات في بلدان المسلمين ، ثم بدؤوا هم يعودون للمنطلقات الدينية إنجيلية وتوراتية .
ومن الجدير ذكره هنا أن دعوى الوطنية حلت محل القومية في تركيا بعد أن انهزم القوميون الطورانيون في تركيا في الحرب العالمية الأولى ؛ فقد انسحب أولئك الطورانيون من قيادة تركيا بعد توقيع اتفافية الهدنة بعد الهزيمة في 30/7/ 1918م ، وهو العام الذي احتل فيه الإنجليز عاصمة دولة الخلافة ، واحتلوا أيضاً فلسطين ، ليهيئوها بعد ذلك لإقامة دولة اليهود التي ظلت مستحيلة القيام في ظل جامعة إسلامية موحدة ، ومع تخلي الطورانيين عن الحكم ، حلوا جمعيتهم المشبوهة ( الاتحاد والترقي ) ليفسح الباب بعد ذلك للوطنيين بعد القوميين ، وتزعَّم مصطفى كمال أتاتورك ذلك الاتجاه (الوثني الجديد) ، وقدم نفسه على أنه منقذ الوطن ( تركيا ) من الاستعمار ، وبدأ يُرسَم له دور قائد ( المقاومة الوطنية ) ضد الاحتلال الإنجليزي ، وشكل جمعية أسماها ( الجمعية الوطنية ) عام 1920م ، لتكون ممثلة لسلطان الأمة كما يزعم ، وهنا انقسمت السلطة في الدولة العثمانية إلى سلطة شرعية بقيادة السلطان في القسطنطينية ، وسلطة معارضة في أنقرة ، وكان الإنجليز يتعاملون مع السلطتين معاً ، ريثما تحل سلطة المعارضة ( الوطنية ) محل السلطة الشرعية الممثلة آنذاك في منصب السلطان وحيد الدين ، ولكن الصراع احتد بين السلطتين ، وضُيق على السلطان واتهم بالعمالة للإنجليز ، وقلَّ أعوانه بعد أن تغلغل الكماليون في كل أنحاء وأجزاء الدولة ، فاضطر وحيد الدين إلى مغادرة القسطنطينية ، فخلا الجو للكماليين ، وتهيأ الفضاء الإسلامي في تركيا وما يتبعها من أوطان إسلامية ، لهبوط نازلة أعتى من القوميات وأنكى من الوطنيات .. إنها العلمانية الإلحادية الصريحة التي غرَّبت الإسلام في دياره ، وجادلته في المحكمات من نصوصه وآثاره ، وأرادت بل صممت على أن تنصب خيمتها وتقيم إمبراطوريتها على ركام بلدان الإسلام في أنحاء الأرض .
خلافة البابوية :
بعد أن ابتلعت جمهرة الأمة ألعوبة العبث بعروة الأخوة الإسلامية الوثقى ، عن طريق القوميات والوطنيات ، وبعد أن تسبب ذلك في انعزال ثم زوال سلطان الخليفة الشرعي الأخير ( وحيد الدين ) سارع أتاتورك إلى تحويل الخلافة إلى ( سلطة روحية ) بعد تحويل السلطة الفعلية إلى الأمة في شكل ( البرلمان ) الذي توكل إليه على طريقة غير المسلمين كل قضايا التشريع والحكم التي لا يجوز إسنادها للبشر ، وقد تمثل ذلك فيما سماه الكماليون بـ ( الجمعية الوطنية ) التي شكلوا في مقابلها حزباً سياسياً يضمن السيطرة على قراراتها وتوجهاتها المحكومة برأي الأغلبية ، ولو كانت أغلبية المنافقين والفساق والكافرين ، وأطلق على ذلك الحزب السياسي ( الحاكم ) « جمعية الدفاع عن الأناضول »
في قصة أصبحت كل أنظمة الحكم العلماني تكررها ، فتشكل أحزاباً ( حكومية ) لضمان السيطرة على البرلمانات التي تحكم باسم الأمة ، وهي في الحقيقة تحكم باسم الحزب الحاكم ، الخاضع دوماً للفرد الحاكم ، أما الخلافة التي أخَّرت بإذن الله هيمنة النصارى واليهود على العالم الإسلامي لخمسة قرون ؛ فقد حولها أتاتورك بإيعاز وتشجيع من الإنجليز ( الذين كان يناضلهم في الظاهر ) إلى سلطة روحية على غرار سلطة ( بابا ) النصارى الكاثوليك ، مع أن هؤلاء الإنجليز البروتستانت لا يعترفون لأنفسهم بسلطة كسلطة بابا الكاثوليك ، ولو كانت روحية ، ولكنهم ارتضوا للمسلمين بأن يكون لهم ( بابا ) مؤقت ، باسم الخليفة ، حتى يحين وقت محو هذا اللقب وذلك المنصب من الوجود إلى غير رجعة .
ولما احتلت بريطانيا الأراضي التركية في نهاية الحرب العالمية الأولى ، قال السفير البريطاني ( كرزون ) لعصمت إينونو رئيس وزراء تركيا عند عقد مؤتمر الصلح في نوفمبر 1922م لما طالبه بمنح الاستقلال لتركيا : ( إننا لا نستطيع أن ندعكم مستقلين ؛ لأنكم ستكونون حينئذ نواة يتجمع حولها المسلمون مرة أخرى ، فتعود المسألة الشرقية التي عانينا منها طويلاً ) .
ولكن أتاتورك تعهد للإنجليز أن يزيل مخاوفهم ، وأبلغهم بالموافقة على أي شروط تزيل تلك المخاوف ، فاشترطوا عليه في اجتماع عقد في إبريل 1923م أربعة شروط على لسان السفير البريطاني ، عرفت بعد ذلك بشروط كرزون ، وهي :
1 - أن تقطع تركيا صلتها بالإسلام .
2 - أن تقوم بإلغاء الخلافة .
3 - أن تتعهد بالقضاء على كل حركة يمكن أن تقوم لإحياء الخلافة .
4 - أن تحل القوانين الوضعية محل الشريعة الإسلامية ، وتضع لنفسها دستوراً علمانياً مدنياً بدلاً من الدستور العثماني المستمد من قواعد الإسلام .
وبموافقة أتاتورك على تلك الشروط عقدت اتفاقية ( لوزان ) وتركت لحكومته كل الأراضي التي كانت قد سلبت من الأتراك العثمانيين ليظهروه بمظهر البطل صاحب الإنجازات !
لاحظ معي أن روح ( لوزان ) لا تزال قانوناً غير مكتوب ، يحكم العلاقة بين الكيانات العلمانية التي سارت على درب أتاتورك ، وبين دول الكفر المختلفة .
وقد حاولت بريطانيا في الوقت نفسه أن تشجع العرب على الانشقاق عن الأتراك ، لإنشاء خلافة عربية ، بشرط أن تكون ( روحية ) أيضاً ! فمرة تُمَنِّي ( الشريف حسين بن علي ) في ملك العرب جميعاً ، ومرة تتغاضى عن طموحات الملك فؤاد ملك مصر السابق في أن تكون القاهرة ( المحتلة ) عاصمة الخلافة !
فماذا كانت مواقف المسلمين ، بعلمائهم وفقهائهم ومفكريهم وأرباب الدعوة فيهم تجاه هجوم العلمانية ، ومفهوم الخلافة « الروحية » الذي انتهى إلى الفناء والإلغاء ؟!
كيف كانت منازلتهم لهذه النوازل الجديدة المناقضة لأمور معلومة من الدين بالضرورة ، وتتلخص في أن الحكم بشريعة الإسلام واجب يكفر منكره ، ويرتد جاحده ؟! ...
ماذا كان موقف علماء ذلك العصر ومفكريه من طاغية ذلك العصر المبدل للدين والمذل للمسلمين ؟!
هذه بعض إلماحات مختصرة عن تلك المواقف قبيل وبعيد قرار إلغاء الخلافة البعض منها يدل على الكل ، في ملامح مرحلة حرجة من تاريخ الأمة المعاصرة ، أسست أزماتها لكل الأزمات والنوازل بعدها ، وتشابهت المواقف من المجرمين وقتها ، من المجرمين بعدها .
ليتهم سكتوا :
- سبقت جرأة كمال أتاتورك على إعلان تحويل الخلافة إلى منصب روحي ، دراسة كان قد طلب إعدادها من فريق من ( الفقهاء ) الأتراك ، وتم صدورها في بيان فقهي تحت عنوان ( الخلافة وسلطة الأمة ) يتضمن القول بأن الخلافة مجرد مسألة سياسية صرفة ، ولا علاقة لها بالدين والاعتقاد ، ودعا إلى إرجاء الكلام فيها مطلقاً ، أو قلبها إلى مجرد سلطة روحية » .
وكان هذا الفقه الفاسد متكأ أتاتورك بعد ذلك في إلغاء الخلافة بشكل كلي .
- طرح أحد أبرز مفكري ذلك العصر ، وهو عبد الرحمن الكواكبي ( ت 1902م ) المنحدر من أصول إيرانية شيعية ، مبدأ الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية للخليفة ، بوضوح تام في كتابيه (طبائع الاستبداد) و (أم القرى) واقترح أن يكون للخليفة سلطة محددة بمنطقة الحجاز فقط ، تشبه سلطة البابا على مدينة الفاتيكان ، وقد اقتبس الكواكبي ذلك الطرح عن تيار (العثمانيين الجدد) الذين نقلوه بدورهم عن مؤلفات الأرمني النصراني (مورداجا وهسون) وقرينه (غريك سوفاس).
- أطلق رجل بحجم (أحمد شوقي) قصيدة في تبجيل أتاتورك وسماها (تكليل أنقرة وعزل الأستانة) أي تكليل الكمالية وعزل السلطان والخلافة ، وعندما ادعى أتاتورك الانتصار على اليونان في حربه التمثيلية ضدهم أطلق أحمد شوقي أبياته المشهورة :
الله أكبر كم في الفتح من عجبِ * * * يا خالد الترك جدد خالد العربِ
ولكن أحمد شوقي أسقط في يده بعد ذلك عندما فوجئ بأن(خالد الترك) بدلاً من أن يجدد خالد العرب ، فإنه بَدَدَ مجد الترك ومجد العرب .
- كان زعيم الحركة السنوسية ، من أبرز من أيدوا الفصل بين الخلافة والسلطنة ، معتبراً أن ذلك في مصلحة الإسلام ، بل إنه نشر في جريدة الأهرام المصرية ، في 28/9/1923م ، بياناً ذهب فيه إلى أن نزع السلطة المدنية من يد الخليفة سيعزز نفوذه الإسلامي ؛ لأنه سيصبح زعيماً عاماً وروحياً للأمة كلها !
- كان موقف جمال الدين الأفغاني (ت 1897م) من السلطان عبد الحميد غامضاً ؛ فبعد تأييده في إعادة الاعتبار لمفهوم (الجامعة الإسلامية) بدأ يطالبه بأشياء مثيرة للشكوك ، كأن يطالبه بتعريب الأتراك ، ونقل عاصمة الخلافة إلى عاصمة أخرى .
وجمال الدين الأفغاني ليس أفغانياً بل إيراني شيعي (على الراجح)، كما أكد الشيخ مصطفى عبد الرازق في تقديمه لمقالات مجلة (العروة الوثقى)والكاتب (قدري قلعجي) في كتاب نشر له عام 1951م يتناول سيرة الأفغاني و محمد عبده و سعد زغلول .
وسيرة الأفغاني المملوءة بالتقية الشيعية انعكست على طريقة تعامله مع مسألة الخلافة الإسلامية ، وهو ما جعل السلطان عبد الحميد يرتاب منه وينأى عنه .
- وقف التيار الجهادي المغربي موقفاً غريباً من أزمة الخلافة ؛ فقد عارض عبد الكريم الخطابي ( 1881 - 1962م ) الدعوة لإعادة الخلافة بعد إلغائها وكانت تعليمات الخطابي لمندوبه في مؤتمر إعادة الخلافة ألا يؤيد أي مرشح لها (4) .
وبالرغم مما قامت به حركة الخطابي من بطولات فذة ، أفقدت الأسبان و الفرنسيين صوابهم وأجبرتهم على الانسحاب من أكثر الأراضي المغربية التي احتلوها ، فإن ذلك الموقف من الخلافة التي قامت بعد خلافة الأندلس التي كانت المغرب إحدى حواضرها الزاهرة ، كان غريباً في وقته ، وحتى لو كانت لحركة عبد الكريم الخطابي قضاياها الخاصة الكبيرة وهذا ما كان بالفعل فإن من غير المفهوم أن يكون الجهاد في إحدى البقع الإسلامية صارفاً ولو وجدانياً عن المشاركة في النوازل الجماعية التي تنعكس على مجمل أوضاع الأمة .
- وفي الجزائر كان للشيخ عبد الحميد بن باديس زعيم الإسلاميين في الجزائر في ذلك الوقت ومؤسس (جمعية علماء الإسلام) التي أضاءت سماء الجزائر بالعلم النافع والتجديد المتسارع موقف مغاير من أتاتورك خالف به جمهور الإسلاميين ؛ إذ نظر إليه على أنه « أعظم رجل عرفته البشرية في تاريخها الحديث » !!
وقال عنه : « إنه عبقري من أعظم عباقرة الشرق الإسلامي كله » ووصفه بأنه « محيي الشرق الذي غيّر مجرى التاريخ »
ولم يعد ابن باديس أتاتورك متهماً بالقضاء على مكانة الإسلام ، بل جعل له ( شرف ) القضاء على ( أصحاب العمائم ) الذين أضروا بالإسلام !!
ورأى ابن باديس أن الخلافة خيال غير قابل للتطبيق ؛ وأنه لا يمثله في الحقيقة إلا مؤسسة من ( أهل الحل والعقد ) التي يتصورها مرجعية دينية أدبية ، بعيدة كل البعد عن السياسة والتدخل في شؤون الحكومات ، وكان لا يتصور الخلافة نظاماً إسلامياً شرعياً ، ولكن يتصور بدلاً منها عالمية إسلامية ثقافية !(5).
قد تكون لحركة ابن باديس ظروفها الموضوعية وتقديراتها الخاصة لما جرى في تركيا ، وقد تكون للشيخ مآخذه على منهج خلفاء آل عثمان ، ولكن ذلك لا يعني بحال أن يكون الطاغية ( أتاتورك ) محلاً لهذا الاحتفاء والمدح رداً على ما يُرى في العثمانيين من مثالب وقدح .
- وفي مصر التي كانت تحت الاحتلال الإنجليزي في ذلك الوقت ، نشأ اختلاف حاد تجاه ما أحدثه أتاتورك ، بلغت حدته أن عده بعضهم مرتداً ، واعتبره آخرون مجدداً ، وبلغ اللغط قمته عندما أصدر الشيخ علي عبد الرازق كتابه الصاعق (الإسلام وأصول الحكم) فصاغ فيه أفكار الليبرالية العلمانية بلغة أزهرية ، تلبيساً منه وتدليساً ، وكان عبد الرازق قد تلقى قسطاً من تعليمه في جامعة أكسفورد ، وأسبغ عليه منصبه في القضاء وزناً أدبياً جعل مؤلفه فتنة في وقته ؛ حيث زعم فيه أن الإسلام دين وعبادة فقط ، ولا دخل له بالحكم ولا السياسة ، وبناء عليه فلا أساس لمشروعية منصب الخلافة ، ولا صحة لوجود شيء اسمه الحكم الإسلامي حتى في عهد الرسالة ؛ حيث كان الرسول كما زعم عبد الرازق مجرد مبلِّغ للدين والرسالة ، وقد عرض كتابه على ( طه حسين ) داعية التغريب الملقب بـ ( عميد الأدب العربي ) فأضاف طه إضافات على كتاب عبد الرازق زادته ظلمات فوق ظلمات .
- في خضم هذا اللغط المخلط للمفاهيم ، كان الشيخ مصطفى صبري ( 1869 - 1954م ) آخر شيوخ الإسلام المفتين في الدولة العثمانية قد أصدر كتاباً بعنوان : (الرد على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة) فكان صوتاً صادقاً صادعاً بالحق في وجه تغول الفكر العلماني وهجمته الانتهازية على أصول الإسلام من خلال تآمرهم على صرحه الباقي وحصنه الأخير .
وكان الشيخ أيضاً ممن اغتر بدعاوى الإصلاح التي رفعها الاتحاديون ، فشارك في تأييد خلع السلطان عبد الحميد في مجلس ( المبعوثان ) على غير إدراك لأبعاد تآمر هؤلاء الاتحاديين على تركيا والعالم الإسلامي كله ، ولما تبينت له تلك الأبعاد قال نادماً : ( أيدت خلع السلطان عبد الحميد ، وبعد ستة أشهر تبين لي أن ثقله السياسي كان يساوي ثقل أعضاء مجلس المبعوثان جميعاً ويزيد ) .. وبدأ بعد ذلك في الكشف عن حقيقة الكماليين التي اتضحت له ، وهاجم أتاتورك في أوج تألقه والتفاف الناس حوله ، وألف في الرد على من أيدوا اتجاهه المنحرف ، وبخاصة علي عبد الرازق ، حيث فند شبهاته وأبطل دعاويه .
- أما بالنسبة للأزهر كأعلى مؤسسة علمية إسلامية في ذلك الوقت فقد فوجئ علماؤه بكارثة إلغاء الخلافة ، وفوجئوا كذلك بمسارعة الحسين بن علي إلى الدعوة لنفسه بالخلافة دون مشورة من بقية المسلمين ، كما كانت مفاجأة لشيخ الأزهر في ذلك الوقت (محمد أبو الفضل الجيزاوي) أن يرشح الملك فؤاد ، ملك مصر الأسبق نفسه لهذا المنصب بعد أن دعاه إلى ذلك حفيد الأمير عبد القادر الجزائري ، فطلب منه أن يعلن نفسه خليفة ، ويجعل من القاهرة عاصمة جديدة للخلافة ، وكان لهذه الدعوة أنصار في مصر ، كما كان لها معارضون مغالون في المعارضة ، وعلى رأسهم الأحزاب العلمانية الناشئة ، كحزب الأحرار الدستوريين و حزب الوفد .
- ثارت دعوة من خلال الأزهر لعقد مؤتمر إسلامي عام لمناقشة مسألة الخلافة الإسلامية ، كان من ورائها دفع من قصر الحكم في مصر .
وكان واضحاً أن للملك فؤاد رغبة في أن يصبح خليفة للمسلمين ، فقوبلت هذه الرغبة من معارضيه السياسيين أشد المعارضة ، وكانت معارضة شخصية سياسية أكثر منها دينية ، ونجح هؤلاء المعارضون السياسيون في أن يقحموا السياسة في الدين على عكس مبدئهم المشهور ( لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة ) فهنا فقط أدخلوا السياسة في الدين ، وأغروا بعض المشايخ كما حدث من علي عبد الرازق ، بأن يصيغوا هذا الرأي السياسي المعارض صياغة دينية ، فجاء هذا الكتاب الكارثة ، على تلك الخلفية السياسية الشخصية الانتهازية .
- تزعم حزب الأحرار الدستوريين ( العلماني ) المعركة ضد الخلافة ، لا اعتراضاً على شخص الملك فؤاد فقط ، بل رفضاً لمسألة الخلافة من أساسها لا بل رفضاً لحكم الشريعة بالمرة ، فقد كان ذلك الحزب رافضاً لأن ينص الدستور المصري لعام 1923م على أن الإسلام هو دين الدولة ، وكانت اللجنة المشكلة لوضع هذا الدستور كلها من أعضاء ذلك الحزب ، وكان حزب ( الأحرار ) هذا مدعوماً من الإنجليز ، وكان ينافسه في العمل الحزبي ، حزب الوفد الليبرالي العلماني أيضاً ، ولكنهما مع اختلافهما الشديد الذي وصل إلى حد العداوة ، اتفقا على معارضة عودة الخلافة .
- أما المؤتمر المدْعُو له لبحث النازلة العامة بحثاً عاماً فقد تنادى للاستجابة له علماء شرعيون كثيرون ، وقد كان هذا الأمر جيداً في وقته ؛ فأن يبت علماء الأمة في شأن عظيم من شؤونها في مؤتمر عام أمر يحمد لهذا الجيل ، ويحسب في رصيده ، أما ما لم يحمد فهو أن ذلك المؤتمر قد انتهى إلى طريق مسدود ؛ فقد عقد ذلك المؤتمر في التاسع عشر من شعبان سنة 1343هـ الموافق 25/3/1924م ، أي في السنة نفسها التي أعلن مصطفى كمال أتاتورك فيها إلغاء الخلافة ، وبالرغم من أنه عقد لبحث قضية إسلامية عالمية ، فقد غلبت عليه الصفة الإقليمية ، فجُل العلماء المجتمعين على فضلهم لا يمثلون إلا العلماء الرسميين الذين ينتمون إلى البلد التي يقودها ذلك الملك المرشح للخلافة وهي مصر .
- انتهى مؤتمر النازلة الكبرى بعد بحث طويل إلى مقررات تتلخص في تقرير شرعية منصب الخلافة وطرق انعقادها ودعائم بقائها وأسباب زوالها عن الشخص المعقودة به ، ليخلص التقرير الصادر عن المؤتمر من ذلك إلى أن عزل كمال أتاتورك للسلطان وحيد الدين عن الخلافة جاء لأسباب ارتضاها المسلمون الذين كانوا يدينون لخلافته ، ثم أشار التقرير إلى الخطوة الثانية من خطوات أتاتورك ، وهي تحويل الخلافة إلى خلافة روحية في شخص السلطان عبد المجيد ، وبيَّن أن ذلك الفعل من المجلس الوطني التركي ( بدعة ) ما كان المسلمون يعرفونها من قبل ، لكن التقرير نبه على أن خلافة عبد المجيد على هذا الشكل ليست شرعية ، وأن البيعة له بشرط أن يكون معزولاً عن السياسة لم تكن صحيحة أصلاً ، وحتى لو كانت صحيحة فإن عبد المجيد لم يكن يملك النفوذ والقوة المشترطة فيمن يتولى الخلافة ، لهذا فإنه ليست له بيعة في أعناق المسلمين لزوال المقصود من تنصيبه شرعاً ، واعتبر التقرير أنه ( ليس من الحكمة ولا مما يلائم شرف الإسلام والمسلمين أن ينادوا ببقاء بيعة في أعناقهم لشخص لا يملك الإقامة في بلده ، ولا يملكون هم تمكينه منها ) .
إذن فما هو الحل ؟!
حاول المؤتمرون أن يسوِّغوا العجز عن تقديم مبادرة لحل الأزمة ، بأن « العالم الإسلامي أصبح في أزمة بسبب الضجة التي أحدثها الكماليون في تركيا بإلغائهم منصب الخلافة ، وجعلوا هذا الاضطراب سبباً في أن « لا يتمكن المسلمون معه من البت في تكوين رأي ناضج في مسألة الخلافة ، ولا في من يصح أن يكون خليفة لهم »
ومن أجل هذا دعا مؤتمر الأزهر إلى عقد مؤتمر أوسع : « لهذه الأسباب نرى أنه لا بد من عقد مؤتمر ديني إسلامي يُدعى إليه ممثلو جميع الأمم الإسلامية للبت فيما يجب أن تسند إليه الخلافة الإسلامية ، وتكون بمدينة القاهرة ، تحت رئاسة شيخ الإسلام بالديار المصرية ، على أن يعقد في شهر شعبان من 1343هـ مارس 1925م » أي بعد مرور عام كامل من المؤتمر الأول !!
ولم ينس المؤتمرون قبل أن يطووا أوراقهم أن يوجهوا الشكر للأمم غير الإسلامية (الكافرة) التي «راعت» ظروف المسلمين في هذا الظرف العصيب ، فلم تتدخل في شؤونهم .. « نعلن شكرنا للأمم التي تدين بأديان أخرى غير الدين الإسلامي ، ولدول تلك الأمم على ما أظهروه إلى الآن من ابتعادهم عن التدخل في شؤون الخلافة الإسلامية ، ونرجو منهم أن يلاحظوا أن مسألة الخلافة مسألة إسلامية محضة لا يجوز أن تتعدى دائرتها ، ولا يهتم بها أحد من غير أهلها » !
ولنا ملاحظات وتساؤلات على ذلك المؤتمر ، وهي : هل كان المؤتمرون لا يعلمون شيئاً عن الدور الذي لعبته دول الأمم ( التي لا تدين بالإسلام ) في ترتيب خطوات إسقاط الخلافة بأشكال مباشرة وغير مباشرة ؟ ..
وهل كانت وظيفة المؤتمر فقط أن يضفي شرعية على عزل السلطان عبد المجيد ؟
وكيف لم يكن الحكم الشرعي في العلمانية المطروحة بديلاً للخلافة موضوعاً ضمن مقررات المؤتمر ؟
وكيف نجح العلمانيون في أن يؤثروا على توصيات المؤتمر بحيث لا يشير أي إشارة إلى حل بديل في قضية الخلافة ؟
المؤتمر إذن لم ينجح ، وأرجأ إعلان عدم نجاحه إلى عام قادم يعقد فيه المؤتمر الثاني لبحث ( النازلة الكبرى )
المؤتمر الثاني الموعود :
عندما جاء وقت انعقاد المؤتمر الموعود ، تأجل مرة أخرى لعام آخر ؛ لأن (الظروف غير مناسبة) وكانت تلك المدة كافية لأن تثيرحول مفهوم الخلافة الكثير من التوترات والمهاترات التي من شأنها (حتى من ناحية نفسية) أن تقلل الحماس وتضعف العزيمة ، ولا شك أن العلمانيين الأوائل في مصر ومن خُدعوا بهم ، كان عليهم الجرم الأكبر في ذلك سواء كانوا من أصحاب ( الطرابيش ) أو ( أصحاب العمائم ) ، حيث عمل هؤلاء وهؤلاء ، من حيث يعلمون أو لا يعلمون على تحقيق غرض الإنجليز الواضح في تضييع الوقت ، وتمييع القضايا ، وتوسيع الصراع بين الأطراف في قضايا جانبية بعيداً عن القضية الأصلية ، ولما جاء أوان انعقاد ( مؤتمر الخلافة ) بعد عامين من سقوطها ، تحول ذلك المؤتمر إلى مواجهات بين أنصار الإبقاء على الخلافة بشكلها المعروف في الشرع ، وبين من رأوا إدخال ( تعديلات ) عليها ، وثارت مواجهات أخرى أشد بين أنصار تنصيب ( الملك فؤاد ) خليفة ، وبين أنصار تنصيب ( الحسين بن علي ) خليفة .
ولأن المؤتمر عقد في مصر ، وبدعوة من حزب الاتحاد التابع للملك ، فقد كان من الطبيعي أن يفقد المؤتمر صفته العالمية ، بل حتى على المستوى المحلي ذاته فقد انقسم علماء الأزهر أنفسهم حول استحقاق الملك لمنصب الخلافة ، وكان على رأس المعارضين في ذلك شيخ الأزهر نفسه ( محمد أبو الفضل الجيزاوي ) الذي رأى أن القاهرة لا تصلح لأن تكون عاصمة لدولة خلافة جديدة ، وهي لا تزال تحت احتلال الإنجليز .
لقد أسس هذا المؤتمر (الإسلامي الرسمي العالمي) لعادة أصبحت عُرفاً بعد ذلك في كل ما يماثله من مؤتمرات ، وهي اختصار المسافات بالقفز فوق الخلافات بدلاً من علاجها ، فقرر المؤتمر المنتظر (والمؤجل لعامين) تأجيل البت في مسألة الخلافة ( لظروف أنسب ) في مؤتمرات لاحقة ، دون أن يعينوا لها زماناً أو مكاناً !! ، وكان من مسوغات تأجيل البت في ( مسألة ) الخلافة في ذلك المؤتمر ، أن الحضور رأوا أن « العالم الإسلامي أصبح ممزقاً ، وأن النزعة القومية بدأت تسيطر عليه » !!
لا ينبغي أن ننسى في هذا السياق أن المؤتمر كان للعلماء ، وليس للساسة والزعماء ، ولهذا كانت تسويغاته للفشل عذراً أقبح من ذنب ؛ إذ إنها جعلت الآفة التي جاءت لمعالجتها سبباً في ترك النظر في العلاج ، كما يُترك المريض حتى يموت بدعوى أن حالته الصحية ليست جيدة !! وقد رسَّخ المؤتمر إخفاق قادة الأمة (المفترضين) في تجاوز المحنة ، ولو بشكل نظري يضع الأمور في نصابها ويوقف العابثين بتراث الأمة ومصيرها عند حدهم ، وكما أسبغ المؤتمر الأول مشروعية ضمنية على جريمة أتاتورك في عزل عبد المجيد بعد تجريده من مقاليد الحُكم ، فقد أضفى المؤتمر الثاني نوعاً من التطبيع على هيمنة العلمانية ، بفتح الطريق أمامها بغير قصد لأن تمسك هي بزمام الأمة ، فيتحول غربانها من المنافقين وثعالبها من الأفاكين إلى (أهل حل وعقد ) في مجالس الزور المسماة بـ ( البرلمانات ) .
ومنذ ذلك العهد بدأت المعركة الحقيقية بين الإسلام وغريمه الأكبر في ذلك العصر ( العلمانية ) ...
تلك الأداة الطيعة في أيدي كل أعداء الأمة ، من يهود و نصارى و ملحدين ، فما نفذ هؤلاء وهؤلاء إلى صميم حصون الأمة إلا على ظهور منافقيها ، وما نالوا من دمائها وأموالها وأعراضها بمثل ما فُعل على أيدي سفاحيهم وسفاكيهم .
ولهذا فإن التاريخ المعاصر يحتاج لإعادة كتابة يرصد فيها دور حزب المنافقين المعاصرين ، في التغرير بالأمة لنحو مئة عام متواصلة ، قامت خلالها لهم إمبراطورية كبرى ، هي (إمبراطورية النفاق) التي تضم كياناتهم المتعددة القائمة على إزاحة سلطان الإسلام لصالح سلطان الشيطان .
لكن نقطة بيضاء ناصعة :
نورت آفاق المواقف من نازلة إلغاء الخلافة ، كان يمثلها موقف عدد من العلماء الأحرار ، أمثال : الشيخ مصطفى صبري ، والشيخ أحمد شاكر ، والشيخ محمد بخيت المطيعي ، والشيخ محمد الخضر حسين ، فقد كان لكل منهم صولات وجولات في المنافحة عن حقائق الدين وحرماته أمام تلك الهجمة ، ويذكر هنا بوجه خاص الدور العظيم الذي قام به الشيخ محمد رشيد رضا ، حيث أثار مناقشات فقهية حول مفهوم الخلافة الروحية في مجلته ( المنار ) في أعداد متتابعة ، ثم جمعها في كتاب بعنوان ( الخلافة أو الإمامة العظمى ) وكان رأي رشيد من أرشد الآراء المعلنة في تلك الحقبة المظلمة ؛ حيث كانت خلاصة رأيه في مقالاته وكتابه أن الخلافة مسألة شرعية ، وأن نصب الأمة للإمام واجب شرعاً ، وأنها تأثم كلها بترك هذا الواجب ، وتعد حياتها وميتتها جاهلية مع ترك هذا الواجب(6).
وكان كتاب رشيد رضا رداً على كتاب ( الخلافة وسلطة الأمة ) الذي أعده بعض شيوخ تركيا بأمر أو تآمر من مصطفى كمال أتاتورك ، وجاء هذا الموقف المعارض لأتاتورك وشيوخه ، بعد مرحلة من التأييد والتشجيع ، خُدع فيها رشيد رضا - رحمه الله - بشعارات أتاتورك فيمن خُدع ، حتى إنه راهن عليه في إصلاح أحوال الأمة انطلاقاً من تركيا ، وطالبه بتشكيل ما أسماه ( حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل ) ليكون ممثلاً لفكر أستاذه محمد عبده ، ولكنه اكتشف زيف دعاوى أتاتورك بعد ذلك فاتخذ منه الموقف الشرعي الصحيح ، ودعا الشيخ رشيد جاهداً إلى إعادة تأسيس الخلافة على أصول صحيحة ، بل إنه وكما يظهر من بعض كلماته في تفسير المنار ، حاول أن يسلك مسلكاً عملياً لأجل الوصول إلى ذلك الغرض الشرعي بتشكيل فريق عمل يسعى لإعادة الخلافة .
وكانت محاولات الشيخ محمد رشيد رضا لمنازلة تلك النازلة ، هي أول تحرك مبكر للتصدي لتلك المحن ، تطور بعد ذلك على شكل جماعات وحركات وهيئات وجمعيات ، قامت من أجل العمل لاستئناف الحياة الإسلامية ... فهل أدت هذه وتلك الأدوار المناطة بها ؟ .. إن لذلك قصة أخرى ، أرجو أن تتوفر لمناقشتها فرصة أخرى .
=====================
(1) الطورانية هي : دعوة تنادي بتوحيد الشعوب الناطقة بإحدى اللغات التي تنتمي للغة التركية ، وهذه الشعوب تمتد كما يقولون من بحر الأدرياتيك وحتى سور الصين العظيم ، وأول من نفخ في كير الدعوى الطورانية العنصرية ، الكاتب الفرنسي اليهودي (ليون كوهون) ؛ حيث كتب يقول : (إن الطورانيين كانوا فيما مضى شعباً ذكياً ممتازاً ، لكن أخذ بالتقهقر والانحلال عندما تخلى عن الخصائص التي تميز بها في صحاري آسيا الوسطى واعتنق الإسلام ديناً وحضارة) ، ومن الطرائف أن مؤلف كتاب (التركية والاتحاد التركي) (تكين ألب) الذي أسس للنعرة الطورانية ، هو يهودي اسمه الحقيقي (ألبرت كوهين) .
(2) انظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى ، ص 5 - 6 ، والأحكام السلطانية للماوردي ، ص 5 وشرح صحيح مسلم ، للنووي ، (12/200) .
(3) نشوء القومية في تركيا ، تأليف ورد ستون ، ص 135 - 136 .
(4) انظر : الدولة والخلافة في الخطاب العربي إبان الثورة الكمالية ، الدكتور وجيه كوثراني، ص 26 .
(5) انظر : الإسلام والعروبة والعلمانية ، الدكتور محمد عمارة ، ص 163 - 165 .
(6) راجع ذلك في كتابه (الإمامة العظمى) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق