الثورة الحلوة الكذّابة
والدة جوليو: توقفوا عن الكذب
وائل قنديلالرسالة واحدة، لا تتغير بتغير المرسل من روما: نريد الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة.
المرسَل إليه بالطبع هو نظام عبد الفتاح السيسي في مصر، وموضوع الرسالة: قضية خطف جوليو ريجيني وإخفاؤه وتعذيبه، حتى قتله وتشويه جثته التي لم يبق منها شيء يدل على شخصيته سوى أنفه، بحسب ما أعلنت والدته في مؤتمر صحافي شهده العالم كله.
لا أظن أنك بحاجةٍ لكي أذكّرك بأقوال والدة جوليو في المؤتمر، فقد أفاضت في نقل وقائعه وسائل الإعلام الدولية، لكني أتوقف معك عند جوهر الموضوع الذي تلخصه كلمات السيدة الحزينة، إذ تقول "ونقل التلفزيون الحكومي الإيطالي، اليوم الثلاثاء، عن باولا ريجيني، والدة الشاب القتيل، قولها في مؤتمر صحافي بمجلس الشيوخ: "أنا أمّ جوليو، وليس من السهل عليّ أن أكون هنا، لأن ما حصل لولدي ليس حالة معزولة، كما يزعم المصريون، إذ أود أن أشير إلى أنه توفي تحت التعذيب، مثلما كان سيحدث لأي مصري".
قبل ذلك، وعندما زفّت السلطات المصرية بُشرى قتل خمسة مواطنين، عربون محبة للجانب الإيطالي في قضية جوليو، ردّت روما رسمياً وشعبياً: نريد الحقيقة، كفّوا عن هذه الأكاذيب.
مع ظهور أول احمرار في العين وتقطيب في الجبين، على ملامح روما، تراجعت القاهرة سريعاً، وبشكل مخجلٍ ومهينٍ، لأي مواطن يحترم نفسه، ويخاف على بلده، وقدّمت رواية أخرى، مفادها بأنها لم تكن تقصد أن المقتولين الخمسة هم الذين قتلوا الشاب الإيطالي.
السؤال هنا: ما الذي يجعل العالم ينظر إلى كل ما يصدر من مصر الرسمية بعين الشك والريبة، أولاً، ثم يطلب الحقيقة، مكذباً، أو رافضاً الاستخفاف بالعقل والضمير؟
لماذا، وكيف، وصلنا إلى مرحلة تصنيف مصر السيسية "دولة كذابة" من الطراز الأول، حتى في نظر أكثر داعميها، إيطاليا وروسيا؟
لم يتجنّ أحد على السلطة في مصر، ولم توصف بغير ما هو فيها، بل يمكنك القول إن "مشروع الثلاثين من يونيو" بقي يكذب ويكذب، في الداخل والخارج، حتى تم تصنيفه كذّاباً، مع الوضع في الاعتبار أن ما يمكن القول عنه "الأساطير المؤسسة للمشروع الانقلابي" بنيت على مجموعةٍ هائلةٍ من الأكاذيب، أفاض في بيانها كثيرون، ثم حين تحقق المراد، ونجحت فيالق الثورة المضادة في اختطاف الرئيس المنتخب وإخفائه، ارتفعت معدّلات الكذب، من المسؤولين، والنخب السياسية والثقافية، الأمر الذي أوقع مذابح، وأراق دماء غزيرة في نهاية المطاف.
ولا يمكنك، في هذا السياق، أن تُسقط من التاريخ القريب أن مذبحة القرن، في ميداني رابعة العدوية والنهضة، ارتُكبت تحت غطاءٍ من الأكاذيب الكبيرة التي روّجها سياسيون ومثقفون عن المعتصمين المسلحين بأسلحة ثقيلة، وعن حالات تعذيبٍ وقتل رهائن تحت منصّات الهتاف، وأسفل الكرة الأرضية الإخوانية، المخبأة تحت أقدام الاعتصام.
فيما بعد، لم ينقطع حبل الكذب، إنتاجاً واستهلاكاً، حتى إنه صار يجري على الهواء مباشرة، بتزوير الترجمة لمؤتمرات صحافية لكبار رجال المرحلة، كما حدث في المؤتمر الصحافي لنائب الرئيس "الفاترينة" المُعين من قائد الانقلاب، وكاترين آشتون، ممثلة الاتحاد الأوروبي، ثم راح الكل يتبارون في تصنيع الأكاذيب والأساطير وتداولها، وتصديرها للميديا العالمية، حتى إن الصحافي البريطاني الشهير، روبرت فيسك، لم يصدّق نفسه، وهو يستمع إلى من يحاول إقناعه بأن "الجنرال السيسي هو أعظم قائد عسكري في التاريخ بعد أيزنهاور".
هل تجد فرقاً كبيراً بين هذه المقولة ومقولة أن تفريعة قناة السويس حصدت كل ما أنفق عليها في أول يوم تشغيل، أو أن ضفادع مصر البشرية علّموا قائد الأسطول السادس الأميركي الأدب؟
استمر الكذب منهجاً وعقيدةً حاكمة لمسلك السلطة في مصر، إذ دائماً ما كان هناك وجهان وقولان وموقفان، وجه ينحني بأدب وحياء أمام ملوك وأمراء الأرز، وآخر يسخر منهم في التسريبات، ويخطط لحلْب مزيد من أموالهم.
قول يدغدغ عواطف المواطن المطحون بالخير والنماء المتدفق، وآخر يحرّض على بيع النفس من أجل المال "والله العظيم لو ينفع انباع انباع".
أما عن ازدواجية الموقف، فحدّث ولا حرج، عن ما جرى في موضوعات سد النهضة والعلاقة مع واشنطن والعلاقة مع حماس.
باختصار، يكاد يكون قد استقر في وجدان العالم أنه إذا أتاك نظام عبد الفتاح السيسي بروايةٍ، فضعها على الرف، ولا تعبأ بها، واطلب منه الحقيقة، مُظهراً العين الحمراء.
أو يمكنك القول، ومع الأسف الشديد، إنك بصدد نظام يسيء لسمعة الدولة والمواطنين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق