علي باشا مبارك(2-2)
(1239 - 1311هـ / 1824 - 1893م)
بصمات واضحة في تطوير التعليم المصري الحديث
د. محمد بن موسى الشريف
في هذا العدد نتناول أهم أعمال علي باشا مبارك على الإطلاق «إصلاح التعليم»، وقد بذل في ذلك جهداً كبيراً حتى يمكن لي أن ألقبه «أبو التعليم المصري الحديث»، وقد ظهرت جهوده واضحة في الأعمال التالية:
1- مَدّن التعليم بعد أن كان عسكرياً داخلياً معتمداً على القسوة والسباب.
2- عمل لائحة للمدارس ضبطت شؤون الإدارة والطلاب بعد أن كان الأمر فوضى مرسلاً بدون ضوابط، وسميت «لائحة رجب» - نسبة لشهر رجب الذي انطلق فيه هذا المشروع، وذلك يوم كان المصريون والعرب يراعون الشهور العربية ويقدمونها على غيرها - وذلك في 1284هـ/ 1868م، وأجرى كثيراً من ريع الأوقاف الخيرية على التعليم، وقد كان يجمع بين إدارتي التعليم والأوقاف فسهُل عليه ذلك.
3- رفع أجور المدرسين وخدم المدارس.
4- جعل التعليم مجانياً للفقراء.
5- نظم التدريس في الكتاتيب، وقد كانت هي القاعدة العريضة للتعليم آنذاك.
6- أنشأ مدارس في معظم المدن وفتح مدارس للبنات.
7- ألف كثيراً من الكتب المدرسية، ووضع المناهج لعدد من المدارس العليا خاصة الهندسة والحربية، واشترك مع آخرين في تأليف بعض الكتب، وأنشأ مطبعتين لطباعة الكتب المدرسية.
8- باشر بنفسه التعليم في أوقات كثيرة حتى زمن وزارته وبعدها، وكان يشرف على الطلاب بنفسه ويعلمهم كيف يلبسون وكيف يقرؤون وكيف يكتبون، ويشرف على المعلمين وينصحهم، وكان - لهمته العالية - يجهد في تعليم الطلاب بكل وسيلة حتى أنه كان يكتب لهم بالفحم على البلاط، ويخط لهم على التراب، ويعلمهم في الخيام، وذلك لقلة الوسائل التعليمية آنذاك، وكان يعلمهم القواعد الهندسية بالعصا والحبل!!
9- أنشأ دار العلوم المشهورة اليوم بالقاهرة، وجعل لطلابها مكافأة شهرية وصلت إلى مائة قرش، وكان هذا قَدْراً ضخماً من المال يمنح للطالب آنذاك.
10- أنشأ الصحافة المدرسية، وأول صحيفة كانت «روضة المدارس» وابتدأت منتصف محرم سنة 1287هـ/ 17 فبراير 1870م، وجعل رفاعة بك رافع الطهطاوي مشرفاً عليها، وكتب فيها بنفسه.
وتكمن عبقرية علي باشا مبارك في أنه ألف العديد من المؤلفات والتي كان أعظمها على الإطلاق «الخطط التوقيفية» في عشرين مجلداً، والتي وصف فيها مدن مصر وقراها وآثارها وجغرافيتها وتاريخها في العصور القديمة والحديثة، وتعد إكمالاً لخطط المقريزي وجعل الأجزاء الستة الأولى للقاهرة والسابع للإسكندرية والأجزاء الأخرى لسائر المدن المصرية وبلداتها وقراها. وألّف «عَلَم الدين» في أربعة أجزاء، وهو كتاب تدور أحداثه على عالم أزهري سماه عَلَم الدين، ورجل إنجليزي وفد إلى مصر وتعلم العربية، وفيه معلومات مهمة ونوادر وبحوث.
وألف «تذكرة المهندسين»، و«تقريب الهندسة»، و«طريق الهجاء والتمرين»، و«تنوير الأفهام في تَغَذِّي الأجسام»، و«نخبة الفكر في تدبير نيل مصر»، و«آثار الإسلام في المدنية والعمران» وهو آخر كتبه، و«الميزان في الأقيسة والمكاييل والأوزان» و«حقائق الأخبار في أوصاف البحار»، و«سوق الجيوش»، و«الاستحكامات العسكرية»، واشترك في ترجمة كتاب «تاريخ العرب» للمؤلف الفرنسي «سيد يو».. وغير ذلك.
مواقف في حياته شُغل عن والدته فلم يرها ولم يسمع صوتها مدة أربع عشرة سنة، منذ أُخذ إلى مدرسة قصر العيني إلى أن عاد من فرنسا واشتغل بالمهام العديدة التي كُلف بها، فلا تسأل عن اللقاء وما جرى فيه من بث العواطف والأشواق، وكان علي مبارك وهو طالب يستصعب جداً مادتي الهندسة والحساب «الرياضيات»، فإذا به ينبغ فيهما نبوغاً عجيباً سواء كان نبوغاً علمياً أو عملياً.
ومن همته أنه كان يبيت غالب أيامه جائعاً وهو طالب في طفولته، بل كان يمص العظام التي أكلها الآخرون، ثم إذا به يصبح في شبابه وكهولته وزيراً لعدد من الوزارات.
وقد عانى كثيراً من الحسد والوشايات حتى عُزل مراراً من كثير من وظائفه، ثم يعود إليها ثم يُعزل، لكنه بقي ثابتاً على شيء واحد وهدف محدد وهو خدمة الناس وإصلاح شؤونهم. وقد شارك في الجمعية العمومية التي عقدت من أربعمائة من أعيان المصريين للنظر في أمر الحملة الإنجليزية الهمجية على مصر سنة 1299هـ/ 1882م، ثم كان رئيساً للجنة من ستة أشخاص سافرت إلى الإسكندرية للاتصال بـ«الخديو توفيق» الذي كان ممالئاً للإنجليز ضد الثورة العُرابية، وكان من غرض اللجنة عقد مصالحة بين «الخديو» والضابط الثائر أحمد عرابي لكن الأمور لم تَسِر على ما يرام.
مرضه ووفاته وبقي علي مبارك ناظراً للمعارف ووزيراً حتى سنة 1308هـ/ 1891م، فلما استقالت وزارة رياض باشا عاد إلى بلده لتفقد أراضيه وإصلاحها، لكن القدر لم يُمهله فمرض في مثانته وعاد إلى القاهرة فاشتد عليه المرض حتى توفي سنة 1310هـ/ 1893م بمنـزله بالحلمية، رحمه الله تعالى وأعلى درجته. وهكذا كان علي مبارك معلماً ووزيراً للتعليم، ومهندساً بارعاً بُني بتوجيهه وإشرافه كل المعالم الحضارية - تقريباً - في مصر الحديثة، وهو المؤلف البارع الذي سَهّل على الطلاب كثيراً من العلوم، وهو المصلح الاجتماعي الذي رفع كثيراً من المظالم عن الفلاحين، وهو الإداري الحازم الذي وضع من النظم واللوائح ما أصلح به شأن الأوقاف والتعليم، فشخصيته متعددة المواهب، وأعماله كثيرة لكنه أضحى من العظماء المنسيين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
علي باشا مبارك (1-2)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق