المسألة الحضارية في دولة ولاية الفقيه الاثنى عشرية
بقلم: د. محمد صقر
تاريخيًّا؛ لم يكترث عامة علماء الشيعة الاثنى عشرية بالسياسة ولم يحتفوا بها؛ إذ كان ارتباطهم بفكرة المهدي المنتظر عاملاً حاسمًا في خضوعهم للأمر الواقع واكتفائهم بالتمحور حول الطائفة للمحافظة على خصوصيتها وديمومتها.
إلا أن ظاهر هذا الانصراف عن السياسة وشئونها لم يحل دون الخوض في الإمامة وشروطها باعتبارها الأصل الذي قامت عليه العقيدة والسبب الذي من أجله برز التشيع ونشأ.
كما أن هذا الانصراف لم يحل دون محاولات منبوذة من قبل عامة فقهاء الشيعة الاثنى عشرية ومجتهديها، لتكييف مجتمع الطائفة ليساند الرأي القائل بولاية الفقيه لأجل تغيير الواقع السياسي ومباشرة الحكم باسم المهدي المنتظر!!
وقد أمكن لهذا الرأي أن يمارس تجربته مرتين الأولى منها كغطاء عقدي لدولة سياسية رعاه فقيه الدولة الصفوي علي بن الحسين الكركي العاملي ( ت940هـ ) غايته نشر التشيع الاثنى عشري داخليًّا في وسط يغلب عليه أهل السنة والجماعة، الثانية استلهمها الخميني من ذات التجربة كغطاء سياسي لدولة عقدية غايته نشر التشيع الاثنى عشري خارجيًّا.
وقد ولد المشروعان بتأزماتهما الفقهية داخل النسيج الشيعي الاثنى عشري، واضطراباتهما العقدية مع كافة التيارات والمدارس المذهبية الإسلامية، ليجذرا بذلك المولد نسقًا واتجاهًا طابعه العلو والتلون.
وفي حين سقط المشروع الأول كدولة بعد حركة تشييع بالعنف خسر الشعب الإيراني على إثرها مئات الآلاف من القتلى، نمى المشروع الثاني ليصنع بؤرًا تابعة له في العراق ولبنان واليمن شكلت ومازالت تشكل مشاريع لاختراق عقيدة وثقافة وأخلاقيات وحضارة المجتمع المسلم.
ولقد أتيحت الفرصة تاريخيًّا لكلا المشروعين وتوابعهما في الحكم والممارسة الحضارية، فهل نجحا في تقديم أنموذج يعكس فائدة ما للبشرية من ورائهما!!
الواقع أنه بالنظر إلى الخصائص التي اتسم بها المشروعان نلمح اتفاقًا من حيث السمات العامة بينهما، وهو ما يشجع على اعتبارهما مشروعًا واحدًا رغم الفارق الزمني بينهما، ورغم اختلافهما في الأهداف على الصعيد المذهبي، اختلاف أولويات لا اختلاف تضاد.
ولعل أبرز تلك السمات وضوحًا هو حالميتها (وليست عالميتها) فالنموذج الشيعي الاثنى عشري أتاح للولي الفقيه ممارسة تأثيراته الفردية على الدولة "حيث ينوب الولي الفقيه عن الإمام الغائب في قيادة الأمة وإقامة حكم الله على الأرض".
وهذا التفرد أضعف البناء الحضاري للمشروع وأكسبه الطابع الشخصي على حساب الفكر المسيطر. وليس أدل على ذلك من تداخلات الولي الفقيه مع انتخابات الرئاسة الأخيرة وإملاءاته السياسية فيها، الأمر الذي شوه صورة المشروع وعمق مشاعر الحقد وأصاب قطاعًا واسعًا من الشعب بالكآبة، حتى تعالت صيحات المحتجين في الساحات يوم ذاك بعبارة "الموت للديكتاتور"!! وهي لا شك عبارة تمس شخصالولي الفقيه لتجرده أمام شعبه من شرعيته التي يستمدها من مشروع الحلم.
على أن القيادة الإيرانية وفي محاولاتها المستميتة لاكتساب الشرعية أمام شعبها كثيرًا ما تحاول ــ عند التأزم الداخلي ــ الادعاء بموافقة المهدي على سياساتها ومباركته لأفعالها!! وعلى هذا الصعيد قال نجاد: "إنني تحدثت مع صاحب الزمان، وطلبت منه أن يساندني لكي أنتصر على خصومي"!!
وقد نقل عنه القول: "إن يد الإمام المهدي المنتظر ترى بوضوح في إدارة شئون البلاد كافة"!!.
ورغم مابين الطبقة السياسية في إيران من تجانس في الاعتقاد والتفاف حول ولاية الفقيه، إلا أنه بسبب بعد بعضهم عن مصدر اتخاذ القرار، وتأثرهم بوطأة المطالبات الشعبية في الإصلاح وتحسين الأوضاع، مضطرون لفك الارتباط بين نجاد والإمام الغائب؛ لأجل حفظ مكانة الأخير في الاعتقاد الشيعي الاثنى عشري ومن ثم مكانة ولاية الفقيه، وهو ما سعى له المحافظ المتشدد غلام رضا مصباحي حين قال: "إذا كان أحمدي نجاد يريد أن يقول: إن الإمام الغائب يدعم قرارات الحكومة فهذا ليس صحيحًا؛ فمن المؤكد أن المهدي المنتظر لا يقر التضخم الذي بلغ 20% وغلاء المعيشة والكثير غيرهما من الأخطاء التي ترتكبها الحكومة"!!
وبشيء من السخرية والامتعاض يدعو مهدي كروبي الرئيس نجاد إلى الابتعاد عن أسلوبه الذي سيلحق ضررًا بالغًا بصورة الإمام الغائب في أذهان الناس، خاصةً الناشئة، ثم يتساءل: "هل سينسب الناس تضاعف أسعار السكن وغلاء المعيشة والتضخم إلى إدارة إمام الزمان (عج)، كان أفضل لك لو نسبت هذه المشاكل إلى الجفاف أو أميركا أو الحكومات السابقة "!!
إن نجاح النموذج الحضاري واستمراريته مرتبط أساسًا بواقعيته، وحسن تفهمه للظروف المحيطة به. وحين يصبح مصدر الإلهام للنموذج الاثنى عشري مخيبًا لآمال وتطلعات شعبه تتفكك قاعدته وتضطرب برامجه وتتحلل رؤاه، وعندئذ إما أن يفقد الإنسان ـ بصفته أحد العناصر الرئيسة في تشكل الحضارة ـ ثقته في النموذج وهو النتيجة الطبيعية، أو أن يعيش كما يريد النموذج ومؤسسته في الحلم. لكن الحلم لن يغذي الأجساد المثقلة بالجوع. يقول رئيس مشخصة النظام هاشمي رفسنجاني عند وصفه لطريقة تطبيق الحكومة مشروع ترشيد الإنفاق وإلغاء الدعم: "الناس يرون بوضوح ارتفاع الأسعار عدة أضعاف وانخفاض قيمة العملة إلى الثلث، وهم يشعرون بذلك بلحمهم ودمهم، لكن ما زال البعض ينكرون ذلك ويفرحون أنفسهم بأرقام وإحصاءات خيالية".
وهكذا يتبدى أن الدولة التي صنعتها ولاية الفقيه غير قادرة على مواجهة الواقع في ظل ارتباطهابالحلم؛ لأن هيمنته عليها يمنعها من تصحيح مساراتها، وهو ما يقود إلى التخبط ويصيب الدولة بالهوس.
وتبدو السمة الثانية للمشروع كما لو كانت إفرازًا للحالة الحالمة، فتوجه القيادة الإيرانية نحو الحلم أعطى زخمًا قويًّا للالتصاق بالمقدس (المهدي) في العقيدة الاثنى عشرية بحيث تم استدعاؤه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ليمارس فيها إرادته، وأخطر ما في ذلك الاستدعاء أنه فصل التجربة الحضارية للمشروع عن إنسانيتها وأحال الأتباع إلى مجرد أدوات لها حق الاستعلاء بالمقدس على حساب تجربتهاالبشرية، والدارس لأثر ذلك الاستعلاء لا تخفى عليه نبرة التصعيد ذات النزعة العدوانية في الخطاب السياسي الإيراني الذي جاء عقب احتقان عانى منه أتباع التشيع الاثنى عشري أسسته احتفالية عاشوراء السنوية الدامية والمهيمنة على الفكر والوعي لتتحول من مأساة تاريخية إلى هيجان يظل في الذاكرة متصلاً بالانتقام ومستعدًّا للعدوان. والمشكل أن انفصال الجانب الإنساني عن التجربة عمق فيها التوحش والتوغل مما زاد في بعدها عن القيم الإنسانية النبيلة ورفع عنها الغطاء الأخلاقي، ولئن بدت أولى علامات التوحش مبكرًا مع تصفية رجالات الشاه من مدنيين وعسكريين دون تمييز، إلا أن أهم منتج يوضح إلى أي مدى تشيطنت فيه التجربة هو موقف دولة الفقيه المساند بكل إمكانياته للمذابح والانتهاكات التي يقوم بها النظام في سوريا ضد الإنسانية. وهو موقف قد يفسر سبب انقطاع التجربة الأولى في نسختها الصفوية فيما ينتظر ذات المصير التجربة الحالية في نسختها الخمينية لافتقادهما الحد الأدنى من البعد الإنساني الذي يعد دافعًا لابد منه لاستمرارية أية حضارة بشرية.
والواقع أن خلو المشروع من مضامينه الإنسانية وانعزاله من قيمه الإسلامية قد قد عزل الشعب الإيراني عن التفاعل الإيجابي مع جواره ومحيطه الإقليمي والدولي، بل وحاول من خلال استدعاء نصوصه التراثية العدائية ضد رموز الأمة الإسلامية تجييش الناس من حوله للسير في ركابه على نحو يخدم إعادة النظر بتركيز إلى الوراء في انتظار ساعة بعث الأموات من صحابة النبي صلى عليه وسلم للقصاص في زمن الظهور!! فقطع بتلك الرؤية الصلة بالمنتوج الحضاري الذي أعطاه الإسلام للأمة الإيرانية لتحاول التبشير بأخرى مع الحاضر؛ أخرى محاطة ببركة الثورة كما يقول الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي: "الإسلام الذي بقي في الأذهان قرونًا عديدة بهيئة مجموعة من الأفكار والقيم نزل اليوم ببركة الثورة الإسلامية إلى الميدان لإدارة الحياة وتأسيس النظام"!! وها نحن اليوم نشهد تجليات تلك الأفكار والقيم بشكل مضطرد بما لا يدع مجالاً للشك أو الريبة في أن دولة ولاية الفقيه الاثنى عشرية تعيش حالتها الاستثنائية في التاريخ دون شعور منها بالاستقرار أو الرغبة في العيش المشترك المتحضر. على أن بعض قواعد المشروع بدأت تدرك أخيرًا الحاجة إلى فك ارتباط الثورة بالمنتظر بعد أن وقعت أسيرة الفكرة ورهاناتها، ولعل أخطر المواقف على الإطلاق ما نسب إلى هاشمي رفسنجاني من قوله: إنه لن يستطيع تأكيد فكرة ارتباط خروج الإمام المهدي بثورة ما؛ لأن الثورات برأيه يمكن أن تأتي ثم تذهب لتأتي ثورات أخرى، لذلك فهو لا يستطيع التكهن على هذا المستوى، ويرى أن أصحاب هذا المعتقد مخطئون!! لقد أصبحت بعض القيادات شهودًا من الداخل على فشل التجربة الحضارية للمشروع، وهو ما يدلل على بداية التآكل. لكن احتراق المشروع وزواله كدولة مرتبط بسنن أخرى ما زالت في دور التشكل وحتى يحين اكتمالها وهو قريب بإذن الله ستزداد ضراوة المشروع وتشتد خطورته. {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء: 227].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق